رغم فشل عملية الطائرة سابينا 571 في تحقيق أهدافها، حيث قُتل نصف منفذيها واعتُقل النصف الآخر، لكنها كانت حلقة في سلسلة عمليات كان الغرض الاستراتيجي منها لفت أنظار العالم، وهو ما نجحت فيه بالفعل.
ولكن تحولت النوازع الإنسانية خلالها إلى ثغرة أمنية أطاحت بنجاحها، عندما رفض المسئولون عنها قتل مائة وخمسين مدنيًا من العدو كانوا تحت رحمتهم.
الطائرات
عندما تشكلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باعتبارها الفرع الفلسطيني لحركة القوميين العرب بعد هزيمة 1967، رأت ألا تقتصر العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة أو داخل إسرائيل، وإنما اتخذت قرارًا باستهداف المصالح الإسرائيلية بالخارج، وعهدت بمسئولية العمليات الخارجية إلى الدكتور وديع حداد، الذي صاغ الشعار «وراء العدو في كل مكان».
أدخلت الجبهة الشعبية تكتيك خطف الطائرات للمساومة على مطالب سياسية إلى استراتيجيات المقاومة الفلسطينية، التي شهدت انتعاشًا ونقلة نوعية كبيرة بعد انتصارها في معركة الكرامة في مارس/آذار 1968، وراح الفدائيون الفلسطينيون والعرب وحتى الأجانب من المؤمنين بالقضية الفلسطينية أو اليساريين المناهضين للاستعمار العالمي، يتوافدون بغزارة للانضمام إلى تنظيمات المقاومة، كلٌ حسب مشربه السياسي.
اكتسبت الفدائية منتسبة الجبهة الشعبية «ليلى خالد» شهرة عالمية كأول امرأة تشارك في تنفيذ عمليات لخطف طائرات، عندما اختطفت مع زميلها سليم العيساوي في 29 أغسطس/آب 1969 طائرة أمريكية، وأجبراها على تغيير وجهتها إلى مطار دمشق، حيث قررت الجبهة إخلاء الطائرة من الركاب وتفجيرها.
وفي 6 سبتمبر/أيلول 1970، اهتز العالم كله لعملية نفذتها الجبهة الشعبية، أيضًا ثلاث عمليات متزامنة لخطف طائرات إسرائيلية وأمريكية وسويسرية وتحويل مسارها إلى مطار مهجور بالأردن، عُرف فيما بعد باسم «مطار الثورة»، غير أن عملية خطف الطائرة الإسرائيلية – والتي كُلفت بها ليلى خالد مع الثائر النيكاراجوي باتريك آرجويلو – فشلت وهبطت الطائرة في لندن.
ودون تخطيط من الجبهة، قرر شاب من منتسبيها خطف طائرة بريطانية انطلقت من البحرين، وحط بها إلى جانب الطائرتين الأمريكية والسويسرية في مطار الثورة. كان الهدف من العملية المساومة على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، وأضيف إليه إطلاق سراح ليلى خالد بعد اعتقالها في لندن، وبعد أسبوع من الشد والجذب والمساومات الفاشلة فجرت الجبهة الطائرات الثلاث في 12 سبتمبر/أيلول 1970.
المنظمة
وضعت هذه العمليات النظام الأردني في حرج شديد، وأضيفت إلى حزازات متراكمة بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية في الأردن منذ معركة الكرامة، التي راحت المقاومة بعدها تتصرف بنوع من الزهو.
كان طبيعيًا ألا يقف الملك حسين موقف المتفرج إزاء الخطر المحدق بعرشه، خاصة حين راحت رسائل – مبطنة تارة وسافرة أخرى – تصل إليه من الولايات المتحدة، فحواها أن الأخيرة لا تراهن على الضعفاء، وأن عليه أن يفعل شيئًا قبل أن يتحول إلى ورقة محروقة.
استغل الملك جفوة وقعت بين منظمة التحرير والحكومه المصريه ، بعد قبول الأخيره مبادرة روجرز للهدنة في يوليو/تموز 1970، وفي ذات يوم خطف الطائرات الغربية إلى مطار الثورة قرر تشكيل حكومة عسكرية وإجراء تغييرات بقيادة الجيش، استعدادًا لمعركة محتومة قرر أن يسحق فيها قواعد الفدائيين بالأردن، وهي المعركة التي عُرفت باسم (أيلول الأسود) وخرجت قواعد المقاومة بعدها إلى لبنان.
قررت قيادة حركة فتح بعدها – وهي قيادة منظمة التحرير في الواقع – تشكيل منظمة وهمية تحت اسم (أيلول الأسود)، لنفي ما تردد عن موت أسطورة المقاومة الفلسطيني.
وكي يظل اسم فتح بعيداً عن عمليات هذه المنظمة، صدرت قرارات رسمية بفصل عدد من كوادر حركة فتح، انضموا إلى منظمة أيلول الأسود.
العملية
خطط القيادي الفتحاوي وأحد المسئولين عن منظمة أيلول الأسود محمد يوسف النجار (أبو يوسف) لعملية خطف طائرة تابعة لشركة سابينا البلجيكية الإسرائيلية، بهدف مساومة الاحتلال لإطلاق سراح أكثر من 300 أسير فلسطيني في سجونه، ووقع اختياره على أربعة من عناصر المنظمة للتنفيذ: علي طه أبو سنينة، و زكريا الأطرش، وريما طنوس، وتيريزا هلسة، ولم يلتق أحدهم الآخر أو يعرفه سوى ليلة التحرك لتنفيذ العملية.
في الثاني من مايو/أيار 1972، استقلت المجموعة طائرة من بيروت إلى روما بهويات زائفة وجوازات سفر لبنانية، ومن روما توجهت المجموعة إلى ألمانيا، حيث حصلوا على جوازات سفر إسرائيلية، انطلقوا بها إلى بلجيكا، وفي الثامن من الشهر استقلوا طائرة الرحلة 571 لشركة سابينا المنطلقة إلى تل أبيب، مسلحين بمسدسين وقنبلتين يدويتين وحزامين ناسفين.
بعد توقف قصير (ترانزيت) في فيينا، أقلعت الطائرة ثانية، وبعد ثلث الساعة في الجو حلت ساعة الصفر. تحركت المجموعة بالشكل المتفق عليه: علي طه يسيطر على قمرة القيادة، زكريا الأطرش يحمي مدخل القمرة، تيريزا هلسة في منتصف الطائرة، وريما طنوس في نهاية الممر، وفي قمرة القيادة أمر علي طه الطيار الإنجليزي ريجينالد ليفي – وكانت زوجته على متن الطائرة – بتوجيه الطائرة إلى مطار اللد (مطار بن غوريون حاليًا).
في المطار، أعلنت المجموعة مطلبها بالإفراج عن الأسرى، في تواصل مباشر مع وزير الخارجية الإسرائيلي موشي ديان، ووزير المواصلات شيمعون بيريز، اللذين ماطلا في المساومة لكسب الوقت ريثما يتم إعداد مجموعة عمليات خاصة لاقتحام الطائرة وتحرير الرهائن.
السرية
«سييرت متكال»، أو سرية الأركان هي إحدى وحدات نخبة العمليات الخاصة بالجيش الإسرائيلي، والتي كُلفت بتحرير رهائن الطائر سابينا، وعُهد بقيادة العملية إلى قائد السرية «إيهود بروج»، الذي أصبح رئيس وزراء إسرائيل لاحقًا واشتهر بإيهود باراك، وكان أحد أفراد السرية الذين شاركوا بالعملية أيضًا رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو.
لا تزال «سرية الأركان» وحدة نخبوية للعمليات الخاصة بالجيش الإسرائيلي حتى الآن، وقد نفذت عدداً من أشهر العمليات الخارجية، مثل عملية الفردان (أو ينبوع الشباب) كما سماها الجيش الإسرائيلي، التي قاد خلالها باراك مفرزة صغيرة من السرية لتنفيذ اغتيال القياديين الفتحاويين« كمال ناصر» و«كمال عدوان»، ومخطط عملية سابينا «أبو يوسف النجار» في بيروت في أبريل/نيسان 1973.
نفذت السرية أيضًا عملية عنتيبي التي حررت خلالها طائرة فرنسية على متنها ركاب إسرائيليون اختطفتها عناصر الجبهة الشعبية في مطار عنتيبي بأوغندا، وأطلق عليها (عملية يوناتان) تخليدًا لذكرى يوناتان نتنياهو، شقيق بنيامين نتنياهو الذي كان بدوره أحد أفراد السرية، والوحيد الذي لقي حتفه خلال عملية عنتيبي.
النهاية
كان من المقرر في الخطة الأصلية تفجير الطائرة بمن فيها إن لم تتم الاستجابة لمطالب المجموعة الخاطفة خلال ست ساعات، لكن قيادة التنظيم أصدرت تعليمات علي طه من خلال أجهزة الاتصال في قمرة القيادة بتمديد المهلة لساعات إضافية، وعند نهايتها صدرت أوامر جديدة بالتمديد، الأمر الذي استفز تيريز هلسة ودفعها للتهديد بتفجير الحزام الذي كان بحوزتها، فأمر علي طه بسحبه منها وتسليمه لريما طنوس.
خلال أربع وعشرين ساعة من المساومة والمماطلة مع السلطات الإسرائيلية، تم تدريب باراك ونتنياهو ومجموعة سرية الأركان على اقتحام طائرة مماثلة للطائرة الهدف، ثم توجه أفراد السرية إلى المطار متنكرين بأزياء الصليب الأحمر البيضاء، إذ وافق الخاطفون على طلب للسلطات الإسرائيلية بإدخال رجال الصليب الأحمر للاطمئنان على أحوال الركاب وإدخال الطعام والماء ومساعدات أخرى.
عندما فتح علي طه بابًا في أرضية قمرة القيادة لالتقاط الطعام عاجلته مجموعة الاقتحام برصاصة في رأسه أودت بحياته على الفور، وفي غضون ثوان تسلل أفراد سرية الأركان من منافذ مختلفة إلى الطائرة، وفي الأثناء قُتل زكريا الأطرش، وأصيبت تيريز هلسة برصاصات في يديها، واعتُقلت تيريز هلسة مع ريما طنوس.
كانت تلك نهاية عملية الطائرة سابينا 571، حوكمت تيريز هلسة وريما طنوس وصدر بحقهما حكمان بالسجن مدى الحياة،
غير أن صفقة لتبادل الأسرى مع منظمة التحرير أطلقت سراحهما، ومعظم تفاصيل العملية مستقاة من رواية تيريز هلسة، الوحيدة الباقية على قيد الحياة حتى الآن من أفراد مجموعة العملية، وتعيش مع أسرتها بالأردن.
مصدر