فاروق جويدة يكتب: مشروع مصر النووي .. بين الأمن القومي ومصالح رجال الأعمال
آخر تحديث:
الاحد 24 يناير 2010 12:11 م
بتوقيت القاهرة تعليقات:
1 شارك بتعليقك
فاروق جويدة - var addthis_pub = "mohamedtanna";
اطبع الصفحة
var addthis_localize = { share_caption: "شارك", email_caption: "أرسل إلى صديق", email: "أرسل إلى صديق", favorites: "المفضلة", more: "المزيد..." };
var addthis_options = 'email, favorites, digg, delicious, google, facebook, myspace, live';
كلما
تابعت فصول المعركة التي تجرى الآن بين أمريكا وأوروبا من جانب وإيران من
جانب آخر حول مشروعها النووى دارت أمامى أحداث معارك مشابهة خاضتها مصر
طوال الخمسينيات والستينيات من أجل مشروع نووى مشابهة وانتهت للأسف الشديد
بنكسة 67.. وهذا يؤكد أن التاريخ يكرر نفسه وأن اختلفت الظروف والأشخاص
والأوطان والأسباب.. إن إيران تخوض معركة ضارية تشبه إلى حد بعيد
معركة عبدالناصر مع نهاية الخمسينيات حيث تم إنشاء مفاعل أنشاص النووى
وكانت مصر هى الدولة الثانية فى أفريقيا التى تتجه إلى هذا الإنجاز العلمى
الرهيب فى ذلك الوقت والذى تغيرت بسببه حسابات كثيرة فى كل دول العالم
وأصبح مقياسا للتقدم ليس على مستوى القوى العسكرية النووية ولكن على مستوى
استخدام العلم فى التقدم والإنجاز البشرى والحضارى.
لم يعد
استخدام الطاقة النووية مقتصرا على المجالات العسكرية سواء كانت قنابل
نووية أو أسلحة نووية صغيرة تحملها الصواريخ ولكن استخدام الطاقة النووية
فى الطب والزراعة والصناعة وإنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر يعيد الآن
ترتيب مكانة شعوب العالم، كل حسب قدراته وما وصل إليه.. لاشك أن السلاح
النووى يضع حسابات أخرى لموازين القوى العسكرية الدولية والإقليمية بعيدا
عن الأسلحة التقليدية خاصة فى تلك المناطق التى لا تخلو من صراعات وأزمات
لا حلول لها كما حدث بين الهند وباكستان وبين أمريكا والغرب من جهة
والاتحاد السوفييتى سابقا من جهة أخرى وبين العرب وإسرائيل وبين إيران
والغرب كما يحدث الآن.
زيارة للمفاعل النووي الهندي في
منتصف السبعينيات كنت فى زيارة طويلة للهند بدعوة من الحكومة الهندية ولا
أدرى لماذا وضع المسئولون فى برنامج الزيارة أن أزور المفاعل النووى
الهندى فى مدينة مدراس. كانت الهند قد نجحت بالفعل فى تفجير أولى تجاربها
النووية حين فجرت قنبلة ذرية قيل يومها إنها بنفس طاقة القنبلة التى دمرت
هيروشيما فى نهاية الحرب العالمية الثانية. من هذا التاريخ دخلت الهند
المعسكر النووى رغم الاعتراضات الدولية فى ذلك الوقت.
كان الرئيس
نهرو قد بدأ مشروع الهند النووى فى نهاية الخمسينيات وفى نفس التوقيت الذى
قرر فيه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر إنشاء المفاعل النووى المصرى فى
انشاص وفى هذا التاريخ أيضا دخلت إسرائيل بمشروع نووى ضخم أصبح بعد ذلك من
أهم وأخطر أسباب اختلال موازين القوة العسكرية فى الصراع العربى ــ
الإسرائيلى.
كانت مفاجأة غريبة بالنسبة لى أن تسمح لى السلطات
الهندية فى ذلك الوقت وفى عهد السيدة انديرا غاندى أن أزور المفاعل النووى
فى مدينة مدراس وأن أشاهد هذه البداية القوية التى دخلت بالهند إلى
التكنولوجيا النووية فى مجالات كثيرة كان أخطرها وأهمها السلاح النووى..
فى مفاعل مدراس سمعت من الخبراء والعلماء يومها تفاصيل كثيرة لم أفهم منها
شيئا حول تخصيب اليورانيوم واعتماد الهند على البلوتونيوم الذى يتحول إلى
يورانيوم وكانت هذه التجربة التى شاهدتها من الجوانب التى جعلتنى أهتم
بهذا الموضوع رغم أنها كان بعيدة جدا عن اهتماماتى ومازالت.
ولكننى أمام مفاعل مدينة مدراس تمنيت وأنا أطوف مع العلماء لو أننى رأيت ذلك فى مصر فى يوم من الأيام.
وفى
الوقت الذى كانت مصر قد ودعت مشروعها النووى مع نكسة 67 كانت الهند قد
حققت إنجازا كبيرا رغم أن البلدين بدآ المشروع فى توقيت واحد ويومها أعلن
الزعيم نهرو أن الشىء الوحيد الذى يجعله يقبل أن يجوع الشعب الهندى هو
المشروع النووى وقد كان.
فى هذا الوقت اندفعت باكستان فى مشروع
نووي منافس وضعها بعد سنوات قليلة فى المعسكر النووى العالمى بعد إجراء
أول تجربة نووية شهد عليها العالم كله.. وهنا أيضا أخذ الصراع الهندى ــ
الباكستانى صورة أخرى أمام توازن القوى وامتلاك الدولتين للسلاح النووى.
د.حسن عيسى أبوهلال فى
مشهد آخر من حكاية المشروع النووى المصرى كنت أتابع عالما مصريا شابا تفوق
في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية وكان من أوائل الخريجين الذين درسوا
الذرة.. فى أول دفعة من العلماء خرجت من الجامعات المصرية وهو د.حسن عيسى
أبوهلال الذى أصبح بعد ذلك أستاذا فى معهد الأبحاث الذرية فى أنشاص وأكمل
دراسة الدكتوراه فى كندا وعندما عاد إلى مصر كان المشروع النووي المصرى قد
أغلق أبوابه ولم يجد هذا العالم والكثيرين غيره فرصة للعمل فى مصر وعاش
فيها غريبا وكان يرسل أبحاثه العلمية لتنشر فى المجالات الدولية المتخصصة
فى النشاط النووى. والغريب أن فى مصر الآن كتيبة من العلماء الذين حققوا
سمعة دولية ومنذ سنوات بعيدة وهم لا يعملون.. ومازلت أذكر طموح حسن
أبوهلال مع مشروع مصر النووى الذى لم يتحقق.
تأجل المشروع أربع مرات طوال 50 عامًا كل
هذه الأفكار والمشاعر دارت فى رأسى وأنا أتابع المعركة الدائرة الآن حول
إنشاء المحطة النووية فى الضبعة كبداية جديدة لمشروع مصر النووى لإنتاج
الكهرباء وتحلية مياه البحر بدأ المشروع فى عام 1980 فى هذا الموقع بطول
15 كيلومترا مربعا وعرض 3 كيلومترات وعلى مساحة تبلغ 50 مليون متر مربع..
وقد تم اختيار منطقة الضبعة من بين 11 موقعا فى أماكن مختلفة وفى عام 81
صدر قرار جمهورى بتخصيص هذه المساحة من الأراضى لإنشاء محطات نووية لتوليد
الكهرباء.
فى هذا الوقت قامت واحدة من أكبر الشركات الفرنسية
بدراسة المشروع وهى شركة «سوفراتوم» المتخصصة فى دراسة المواقع النووية فى
فرنسا.. وعاد المشروع النووى المصرى يطل مرة أخرى بعد أن توقف أكثر من مرة
فى عهد الرئيس عبدالناصر ثم توقف فى عهد الرئيس السادات ثم توقف للمرة
الثالثة فى منطقة الضبعة فى عام 1986 بعد حادث تشير نوبل فى الاتحاد
السوفييتى.
فى هذه الفترات المتعاقبة ضاعت على مصر أكثر من فرصة
للبدء فى هذا المشروع الهام ولكن للأسف الشديد تعثرت الخطوات أكثر من مرة
وكان من الواضح جدا أن هناك قوى لا تريد لمصر أن تلحق بهذا الإنجاز
الحضارى والعلمى وفى مقدمة هذه القوى أمريكا وإسرائيل.
أمريكا وإسرائيل ترفضان تمامًا دخول مصر العصر النووي لم
تتحمس الإدارة الأمريكية فى أى عصر من العصور لدخول مصر عصر التكنولوجيا
النووية.. بل إن أول عالمة مصرية فى مجال الذرة وهى سميرة موسى ماتت فى
أمريكا فى حادث سيارة فى شهر أغسطس عام 52 وبعد قيام ثورة يوليو بشهر
واحد.. وإذا كانت الإدارة الأمريكية لم تنجح فى إيقاف مشروع السد العالى
إلا أنها نجحت فى تأجيل مشروع مصر النووى أكثر من مرة.. وفى هذا السياق
توقف المشروع المصري بينما كان المشروع النووى الإسرائيلى يلقى دعما كبيرا
من أمريكا وفرنسا حتى وصل إلى اخطر مراحله وهو امتلاك إسرائيل لأكثر من
200 رأس نووية كما تقول أحدث التقارير الدولية.
ولاشك أن توقف
المشروع النووى المصرى فى عهد عبدالناصر كان يمثل خسارة كبيرة لمصر فى
صراعها مع إسرائيل.. ولو أن مصر وصلت إلى امتلاك السلاح النووى فى ذلك
الوقت كما نجحت إسرائيل لما حدثت نكسة 67 فقد كان من الصعب جدا أن تفكر
إسرائيل فى العدوان على مصر ولديها سلاح نووى قادر على الردع حتى ول لم
يتم استخدامه ان امتلاك السلاح النووى فى حد ذاته يمثل عاملا خطيرا فى
توازن القوى وهو ما نراه الآن على الساحة الدولية.
إسرائيل واغتيال علماء الذرة المصريين لم
تكن سميرة موسى وحدها ضحية المشروع النووى المصرى فقد اغتالت إسرائيل عددا
كبيرا من أشهر علماء الذرة المصريين. اغتالت أحمد الجمال فى انجلترا فى
ظروف غامضة قبل أن يناقش رسالة الدكتوراه.. واغتالت سمير نجيب الذى مات
أيضا فى حادث سيارة فى أغسطس 67 واغتالت نبيل القلينى الذى اختفى فى ظروف
غامضة.. وفى عام 89 شهدت الاسكندرية مقتل سعيد سيد بدير عالم الذرة المصرى
وفى فندق الميريديان بباريس قتل د. يحيى المشد عام 1980.. هذا المسلسل من
عمليات القتل والاغتيال الذى اجتاح علماء الذرة المصريين كان يحمل أكثر من
دلالة أهمها أن إسرائيل لا تريد لمصر أن تملك يوما سلاحا نوويا ويبدو أن
الغرب كان يؤيد هذا الاتجاه من البداية خاصة فى تلك الفترة التى اشتعل
فيها الصراع بين مصر والغرب بعد تأميم قناة السويس وحرب 56.
لابد
أن نعترف أن توقف المشروع النووى المصرى أكثر من مرة كان على حساب توازن
القوى العسكرية وقدرة مصر على اللحاق بعصر التكنولوجيا النووية المتقدمة..
وهنا دخل مشروع مصر النووى منطقة الذكريات منذ عام 1986 وبعد حادث تشرنوبل
فى الوقت الذى كان السباق الدولى فى هذا المجال يتجاوز كل الحسابات فى
اليابان الآن 53 مفاعلا نوويا.. وفى الهند 8 محطات نووية تعمل و14 محطة
تحت الإنشاء وفى فرنسا 59 مفاعلا نوويا.. وفى أوكرانيا 15 مفاعلا وفى
روسيا 31 مفاعلا وفى عام 2020 سوف تصل الصين إلى 115 محطة نووية ولديها
الآن 19 محطة تعمل و14 محطة يجرى إنشاؤها.
هذا هو العالم وما يجرى فيه من سباق نحو التكنولوجيا النووية التى صارت محرمة على البعض بينما هى حق مشروع للبعض الآخر.
مبارك طالب بإحياء مشروع الضبعة ولم يحدث شيء حتى الآن عاد
المشروع النووى المصرى يطل مرة أخرى كحلم أمام المصريين عندما أعلن الرئيس
حسنى مبارك فتح هذا الملف فى خطابه أمام الحزب الوطنى فى أكتوبر 2007..
يومها أكد الرئيس أننا لن نتراجع عن هذا الحلم أمام نقص الغاز وتراجع
إنتاج البترول حيث لا أمل لنا إلا فى إنتاج الطاقة البديلة وفى مقدمتها
المحطات النووية لإنتاج الكهرباء.
وللأسف الشديد مضى الآن أكثر من عامين والساحة تشهد صراعا داميا بين الدولة ورجال الأعمال حول مشروع الضبعة.
أن
حسابات الأمن القومى وعوامل الأمان تقول إن موقع الضبعة هو الأفضل طبقا
للدراسات التى قامت بها الشركة الفرنسية «سوفراتوم» من حيث العوامل
الجيولوجية والزلزالية والأرصاد والمياة الجوفية والتيارات البحرية وعوامل
المد والجزر وقد تم بناء على ذلك إنشاء البنية الأساسية للمحطة النووية
الأولى تكلف ذلك 800 مليون جنيه ما بين الدراسات والمنشآت.
إن
الدراسات أيضا أكدت أن انتقال المشروع إلى مكان آخر سوف يحتاج إلى خمس
سنوات للدراسة وعشر سنوات أخرى للتنفيذ وهذا يعنى أن مصر ستدخل عصر
التكنولوجيا النووية فى عام 2025 أى بعد خمسة عشر عاما.. هنا سوف ترتفع
التكاليف بصورة رهيبة وسوف تحدث طفرات جديدة على المستوى العلمي وقبل هذا
كله فإن تراجع إنتاج مصر من البترول والغاز يضع مستقبل الأجيال الجديدة فى
ظروف صعبة أمام الزيادة السكانية وارتفاع معدلات الطاقة المطلوبة لتسيير
الحياة لأكثر من 80 مليون مواطن.
رجال الأعمال هناك
فريق آخر من رجال الأعمال الذين أقاموا مشروعات سياحية قريبة من موقع
الضبعة ويعتقد هؤلاء أن الاستثمار السياحى فى هذا الموقع سيكون أفضل كثيرا
من إنشاء المحطة النووية.. يستند هؤلاء إلى أن هناك مواقع كثيرة تصلح
لإنشاء المشروع النووى المصرى سواء كان ذلك حول بحيرة ناصر حيث المياه
العذبة أو فى مناطق أخرى مثل العين السخنة والزعفرانة وجنوب سفاجا ورشيد
وبلطيم وجمصة.
ويرى رجال الأعمال أيضا أن المحطة النووية فى
الضبعة سوف تضر باستثمارات الساحل الشمالى فى كل شىء وهو يشهد الآن نشاطـا
سياحيا واستثماريا كبيرا والشىء الغريب أن الصراع لم يحسم بين رجال
الأعمال ووزارة الكهرباء وهى التى تمتلك الأرض خاصة أن مشروع الضبعة يحتاج
إلى توسعات جديدة صدر لها قرار جمهورى منذ عشر سنوات لتوفير مناطق أمان
حول المحطة بمساحة 3.5 كيلومتر شمالا.. ومثلها جنوبا وهذا يتطلب نزع ملكية
مساحات كبيرة من الأراضى التى حصل عليها رجال الأعمال فى هذه المنطقة
لإنشاء مشروعات سياحية جديدة.
هناك رأى آخر يقول إن ثمن أرض الضبعة الآن يزيد على 50 مليار جنيه وأن هذا المبلغ يكفى لإنشاء أكثر من محطة نووية في أماكن أخرى..
بينما
يتساءل البعض الآخر ايهما أهم المشروعات السياحية أم أمن مصر القومي
وتأمين مستقبل الأجيال القادمة من خلال الدخول فى عصر نووى جديد.
من سيحسم الصراع ورغم
مرور أكثر من عامين على إعلان الرئيس مبارك العودة إلى مشروع الضبعة
والبدء فيه إلا أن الجدل مازال قائما بين دعاة الاستثمار ودعاة الأمن بين
من يرون أن ضمانات المستقبل فى الاستثمار السياحى ومن يؤكدون أن أمن مصر
القومى ليس فى السياحة ولكن فى التقدم العلمى.
وما بين صراع الفيللات والشاليهات والشواطئ الفيروزية.. وتكنولوجيا المستقبل لا أحد يعرف من يحسم هذا الصراع.
هل
تنتصر قوى رأس المال التى تحاول الآن وقف مشروع الضبعة أم تنتصر قوى الأمن
القومى حرصا على المستقبل الذى يدخل بنا إلى عصر جديد؟.. فى كل يوم نشهد
فصلا جديدا من هذه المعركة ولاشك أنه بعيد عن الصراع الداخلى فى مصر حول
هذه القضية فإن هناك فى الخارج قوى أخرى وربما تشارك من بعيد فى إشعال هذه
المواجهة لتأجيل أو إلغاء المشروع النووى المصري.
إن إسرائيل لا
تريد لمصر أن تدخل العصر النووى بأى صورة من الصور حتى ولو كان مقتصرا على
إنتاج الكهرباء وتطوير أساليب الزراعة والصناعة وتحلية مياه البحر..
وأمريكا لن تتحمس لهذا المشروع ولهذا سوف يكون الصراع داميا وعنيفا بين
رجال الأعمال والطبقة الجديدة وبين مصالح الوطن.. وهذا يتطلب قرارا حكيما
من القيادة السياسية لحسم هذه القضية حتى لا تضيع هذه الفرصة على مصر
للمرة الرابعة طوال خمسين عاما.
إن رجال الأعمال يبحثون عن
استثمارات سياحية سريعة تحقق أكبر عائد في زمن قصير بينما يقف المشروع
النووى المصرى كأساس لبناء مستقبل آخر يحقق المزيد من الأمن والاستقرار
والتنمية بكل مجالاتها على المدى البعيد.
إن الرئيس مبارك الذى أعاد
مشروع مصر النووى إلى الوجود مرة أخرى منذ عامين يستطيع أن يحسم هذه
القضية حتى لا نضيع الفرصة مرة أخرى خاصة أن الصراع بين قوى المال والأمن
القومى يزداد اشتعالا بما يهدد بإلغاء المشروع تماما.