أزمة متصاعدة في شرق المتوسط بين تركيا التي ترى أن لها حقوقاً تاريخية سلبت منها وبين اليونان التي ترى أن تركيا تحاول فرض سيطرتها واستعادة إرثها العثماني المفقود بقوة السلاح. فكيف يمكن أن تتطور الأمور؟
حالة ترقب تعيشها أوروبا ودول المنطقة بسبب الصراع المحتدم بين تركيا واليونان حول حقوق الغاز والنفط في شرق البحر الأبيض المتوسط، يغذيه خلاف أعمق على الحدود البحرية بين الدولتين.
الصراع بين الدولتين قائم منذ قرون وقد بدأ مع سقوط الدولة البيزنطية واحتلال القسطنطينية واستمر بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى والتي وقعت على إثرها تركيا الجديدة اتفاقيتي"سيفر، لوزان” واللتين بموجبهما حصلت اليونان على عشرات الجزر الصغيرة في البحر المتوسط معظمها ملاصق للبر التركي، واشترط أن تكون منزوعة السلاح بحسب اتفاقية باريس للسلام عام 1947.
وبسبب تلك التوترات المستمرة اندلعت ثلاثة نزاعات بين تركيا من جهة وقبرص واليونان من جهة أخرى في أعوام 1974 و1987 و1996، السبب الأساسي لها هو الخلاف حول حقوق التنقيب عن الغاز والبترول في بحر إيجه والسيادة على بعض الجزر.
زادت حدة الخلافات التركيه-اليونانية بسبب غاز المتوسط بعد الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الليبية في نوفمبر الماضي، والذي أعيد بموجبه ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، في محاولة من تركيا للرد على منتدى غاز شرق المتوسط.
وجاءت هذه الخطوة مطلع أغسطس/ آب الماضي، حين وقعت اليونان ومصر اتفاقا لترسيم الحدود البحرية، وهو ما اعتبرته تركيا - من جهتها - اتفاقا باطلاً.
سياسة "حافة الهاوية"
يرى خبراء أن تركيا تدفع بالأمور إلى التصعيد سواء بالتصريحات العنيفة التي تنطلق بين الحين والآخر من أنقرة، أو بالتحركات العسكرية في البحر المتوسط أو ببدء نشاط سفن التنقيب عن الغاز والبترول في مناطق التوتر مع اليونان، ربما لتعظيم المكاسب التي قد تتحقق عند الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فيما يخشى آخرون أن الأمور ربما تخرج عن السيطرة لتندلع مواجهات عسكرية غير محسوبة العواقب.
رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو أحد معارضي الرئيس اردوغان قال إن "تركيا تجازف بالدخول في مواجهة عسكرية بشرق المتوسط لأنها تعطي للقوة أولوية على الدبلوماسية"، وانتقد بشدة ما وصفه "بميل إلى الاستبداد" يبدو واضحاً في ظل نظام الرئاسة الجديد في تركيا، واتهم حكومة بلاده بإساءة إدارة الأزمة المتصاعدة في شرق البحر المتوسط.
أوغلو قال إن أنقرة لديها تظلمات حقيقية بشأن الأحقية في عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة في البحر وصولاً إلى ساحل تركيا على المتوسط "لكن النهج الذي يتبعه أردوغان ينطوي على مجازفات شديدة"، مضيفا أنه "للأسف حكومتنا لا تقدم أداء دبلوماسيا لائقا".
لكن تركيا ترى أنها أصبحت لاعباً رئيسياً في المنطقة والساحة الدولية وتقول إنها لا تحمل أطماعاً في أراضي أو بحار جيرانها لكنها ظلمت بشدة بسبب الاتفاقيات السابقة التي أهدرت حقوقها، وأن هناك من لايقدر تركيا حق قدرها في الوقت الحالي ويستهين بها وبقوتها سياسياً وعسكرياً وأن هذا الأمر لابد أن ينتهي، حسب تصريحات المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس التركي أردوغان.
في هذا السياق، يقول مارك بيريني، الباحث الزائر بمركز كارنيغي بأوروبا إن الخلاف حول الحدود البحرية هو خلاف تاريخي ويوحد بشكل أو بآخر الطيف السياسي بأكلمه في تركيا، لكن على الجانب الآخر، فإن استطلاعات الرأي حول أردوغان تشير إلى تراجع حجم التأييد له كما أن الاقتصاد التركي في حالة سيئة للغاية، لذا من المحتمل أن يكون حشد الرأي حول الأفكار القومية مفيدًا له في الظروف الحالية"، بحسب ما قال في مقابلة له مع DW عربية.
أوراق القوة التركية
الدكتور محمد شانبيكلي المحلل السياسي التركي أشار في عدة تغريدات إلى الاستراتيجيات التي يمكن أن تتبعها أنقرة في حال ما اتخذ الدعم الأوروبي لليونان شكلاً أكثر حزماً تجاه تركيا وتتلخص فيما يلي: أولاً: إقحام روسيا عدو الناتو اللدود في هذا الصراع بدءا من منح تركيا الشركات الروسية – وربما الصينية أيضاً - رخصة للتنقيب في المتوسط وصولاً إلى نشر أنظمة S400 في شمال قبرص التركية.
ثانياً: قد تعلق تركيا عضويتها في حلف الناتو، ثالثاً قد تقوم تركيا بالسيطرة على مئات الجزر الصغيرة في البحر المتوسط وبحر ايجه، رابعاً: قد تسمح انقرة للقبارصة الاتراك بتنظيم استفتاء للانضمام لتركيا باعتبار شمال قبرص ولاية تركية، خامساً: التهديد بفتح الأبواب أمام ملايين اللاجئين للدخول إلى أوروبا.
وعن هذه الورقة تحديداً يرى الباحث والخبير السياسي مارك بيريني أن تركيا استخدمتها سابقا حين نقلت نحو 6 آلاف لاجئ بالحافلات من اسطنبول إلى أضنة ومنها إلى الحدود اليونانية وانتهى الامر بفشل ذريع. وقال إن تركيا لم تقدر أو تتوقع حجم التضامن الذي أبداه الاتحاد الاوروبي لليونان خلال الأزمة والذي بدا أن تركيا قد استهانت به في البداية.
وأضاف أن "تركيا تلقت لوماً شديداً عبر الاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية بأن هذا التصرف غير مقبول مطلقاً، كما أن الدعم الأوروبي تعدى التصريحات وزيارات التضامن وامتد إلى نشاط مكثف للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) وغيرها من المؤسسات الأوروبية"، مضيفاً أن "تركيا لايزال بإمكانها استخدام تلك الورقة مجدداً بأشكال مختلفة لكن ذلك لن يزيد موقفها مع الاتحاد الاوروبي إلا سوءا وتدهوراً".
أوراق القوة الأوروبية
تقود فرنسا جناح الصقور في الأزمة، إذ تدفع باريس إلى توحيد الصف الأوروبي خلف اليونان وقبرص وتسعى للحصول على موافقة لفرض عقوبات اقتصادية تشمل تعطيل بعض الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الأوروبية شديدة الأهمية لتركيا.
وبحسب الخبراء فقد يكون أحد الإجراءات الأوروبية ضد تركيا هو تطبيق ما تم الاتفاق عليه في نوفمبر 2019، عندما أنشأ الاتحاد الأوروبي الإطار القانوني للعقوبات ضد تركيا مثل حظر السفر وتجميد الأصول، وقد تمتد العقوبات لتشمل أصولاً تركية مثل السفن أو حظر استخدام موانئ الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وعلى الناحية العسكرية فقد بدأت "المخاشنات" في البحر بين فرنسا وتركيا، فيما بدأت البحرية اليونانية توسع من مناطق تحركها في البحر المتوسط. وفيما بدأت سفينة التنقيب التركية "أوروتش رئيس" تتحرك في البحر المتوسط محاطة بالحرية التركية، كانت المقاتلات الفرنسية تحلق فوق منطقة بحرية متنازع عليها قرب قبرص اليونانية.
كما أعلنت باريس عن إرسال فرقاطة وسفينة حربية إلى جزيرة كريت، وأجرت مناورات مشتركة مع قوات يونانية، إضافة إلى وجود حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول قرب السواحل القبرصية - اليونانية. وأعلنت فرنسا عن بيعها اليونان 10 طائرات مقاتلة من طراز رافال. أما الولايات المتحدة فقد تدخلت في الصراع بشكل ما حين قررت رفع حظر تصدير الأسلحة إلى قبرص وهو القرار الذي استمر 33 عاماً.
ويقول بيريني خبير الشؤون التركية والأوروبية إن النهج التركي في دفع الأمور للتفاقم "يسير بعكس ما يقوم به الاتحاد الأوروبي في مثل هذه الظروف من اعتماد الحلول السلمية والمفاوضات السياسية لأي أزمة في المنطقة، إلا أن الاتحاد يقف اليوم أمام تهديد عسكري من دولة في الإقليم لأحد الدول الاعضاء وهو ما يحفزه للتضامن مع اليونان".
أي نتائج لاستخدام أوراق القوة لدى الجانبين؟
بحسب مارك بيريني الباحث الزائر في مركز كارنيغي بأوروبا فإن الخطر الأكبر هو تزايد احتمال المواجهات العسكرية كما حدث بين الفرقاطة اليونانية "ليمنوس" وسفينة "كمال رئيس" إحدى سفن الحراسة البحرية التركية التي رافقت سفينة التنقيب "أوروتش رئيس" في منتصف أغسطس، وأضاف أنه "في البحر لا تعرف أبداً كيف يمكن أن تتطور حوادث مثل هذه إن تكررت مستقبلاً، إذ قد تتطور الأمور بشكل دراماتيكي ينتح عنه غرق سفن والمئات من الضحايا في الجانبين".
وقال إن النهج التركي في إدارة الأزمة واستخدام أوراق القوة لديها قد يجعلنا نرى مع نهاية هذا الشهر قائمة صادرة من المجلس الأوروبي تتضمن عقوبات قد تفرض على تركيا ستقوم باتباعها وتنفيذها دول الاتحاد بهدف وقف التهديدات التركية باستخدام القوة العسكرية ودفع أنقرة للجوء للتفاوض.
واختتم بيريني تصريحاته لـ DW عربية بالقول إن بعض السياسيين الأتراك من القوميين يرون أن الازمة لن تحل إلا عسكرياً، "لكني أعتقد أن ذلك سيكون كارثياً لجميع الأطراف، لكنه في الغالب سيكون كارثياً بشكل أكبر لتركيا، خاصة مع تردي الوضع الاقتصادي، إذ انفقت تركيا ما يقارب 65 مليار دولار منذ بداية العام للدفاع عن الليرة ولكن دون جدوى".
DW