في 21 كانون الأول/ديسمبر، عبرت غواصة الصواريخ الموجهة الأمريكية "يو إس إس جورجيا" (SSGN 729) التي تعمل بالطاقة النووية مضيق هرمز ودخلت المياه الضحلة للخليج العربي. وهذه السفينة الضخمة هي واحدة من أربع غواصات فقط تابعة للبحرية الأمريكية جرى تحويلها لتحمل 154 صاروخاً تقليدياً جوالاً للهجوم البري من طراز "توماهوك" - حوالي نصف قدرة الضربة الصاروخية التكتيكية لقوة بحرية كاملة، بمدى يتراوح من 1300 إلى 2500 كيلومتر. ويمكن لـ "جورجيا" أيضاً حمل ستة وستين جندياً من قوات SEAL (قوات العمليات الخاصة الرئيسية للبحرية الأمريكية) ونشرهم خفية للعمليات السرية. ومن خلال تقديم جمع استخباراتي قوي وقدرات اتصالات آمنة على مستوى قيادة فرقة العمل (القوة الاستراتيجية)، عادةً ما يتم تكليف غواصات صواريخ كروز الأربعة التابعة للبحرية الأمريكية بالمهام الأكثر صعوبة.
ووفقاً لبيان صادر عن "القيادة المركزية الأمريكية" في 22 كانون الأول/ديسمبر، تُظهر هذه الخطوة "التزام أمريكا تجاه شركائها في المنطقة والأمن البحري مع إبقاء مجموعة كاملة من القدرات على استعداد للدفاع في حال بروز أي تهديد في أي وقت كان". وظاهرياً، إنها رسالة ردع للقادة في إيران، تحذّرهم من عدم الإيعاز بشنّ هجمات ضد الأفراد أو الأصول الأمريكية في المنطقة مع اقتراب الذكرى السنوية لاغتيال الجنرال قاسم سليماني. وبعد وقت قصير من قيام القوات الأمريكية باستهداف سليماني وقتله في 3 كانون الثاني/يناير الماضي، أطلقت القوات الإيرانية صواريخ باليستية على "قاعدة الأسد الجوية" في العراق، مما تسبب في حدوث أضرار مادية لمنشآت أمريكية وإصابة عدد من أفراد الخدمة العسكرية الأمريكية. ومع ذلك، يواصل المرشد الأعلى علي خامنئي ومسؤولون آخرون إطلاق وعود علنية بشأن الانتقام لاغتيال سليماني، وتتزامن الذكرى السنوية لمقتل قائد «فيلق القدس» السابق مع انتقال رئاسي أمريكي مشحون، مما يثير مخاوف من أن الانتقام قد يأتي عاجلاً وليس آجلاً.
في اليوم نفسه الذي دخلت فيه الغواصة "جورجيا" إلى الخليج العربي، ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن غواصة هجومية إسرائيلية عبرت قناة السويس إلى البحر الأحمر في خطوة نادرة للغاية، ربما متجهة إلى المياه القريبة من إيران أو حتى الخليج العربي نفسه. ولا يمكن استبعاد السيناريو الأخير بالكامل في ضوء التطبيع الأخير للعلاقات الدبلوماسية والأمنية بين إسرائيل وعدد من الدول الخليجية. ومع ذلك، فإن أي محاولة إسرائيلية علنية لعبور مضيق هرمز من شأنها أن تؤدي بشكل شبه حتمي إلى خوض مواجهة مع القوات الإيرانية.
ويمكن أن تبقى الغواصة الإسرائيلية المتطورة "دولفين 2" تحت الماء لفترة تصل إلى ثلاثين يوماً بفضل محركات الدفع المستقل الهوائية. وقد ذكرت بعض التقارير أيضاً أنها يمكن أن تحمل صواريخ كروز بمدى غير مؤكد يبلغ حوالي 1500 كيلومتر، مسلحة برؤوس حربية تقليدية أو نووية. ومن الناحية النظرية، إذاً، يمكن أن تهدّد السفينة أهدافاً برية بالقرب من الساحل الإيراني أثناء وقوفها في البحر العربي، أو حتى منشآت ناتانز وأصفهان النووية الحساسة إذا خاطرت بالإبحار إلى مسافة أبعد شمالاً إلى خليج عُمان.
واختارت إسرائيل إرسال غواصتها عبر قناة السويس، الأمر الذي يتطلب عبوراً على سطح الماء لتجنب الإبحار حول أفريقيا. وربما تمّ تنسيق توقيت هذه الرحلة مع عبور الغواصة "جورجيا"، ولكن على الأرجح من دون إضفاء الطابع السري للغاية لعمليات الغواصات الأمريكية. والاحتمال الآخر هو أن توقيت إسرائيل لهذه الخطوة يتزامن مع تغيير حراسة البحرية الإيرانية في خليج عدن. وكانت "قوة المهام 70" الإيرانية قد عادت بالفعل إلى إيران، بينما انطلقت "قوة المهام 71" لتوها في 19 كانون الأول/ديسمبر لتحل محلها، تاركة خليج عدن وشمال البحر العربي دون أصول بحرية إيرانية نشطة لبضعة أيام.
وتتمثل إحدى المهام المعلنة لقوات البحرية الإيرانية في مراقبة الأنشطة العدائية المحتملة في هذه الممرات المائية ومضيق باب المندب. وتتكون "قوة المهام 71" من سفينتين رئيسيتين - الفرقاطة "البرز" وسفينة الدعم الحاملة لطائرات الهليكوبتر "خارج" (أكبر سفينة في الأسطول الإيراني) - وكانت قد أبحرت من بندر عباس إلى خليج عدن للقيام بمهام مكافحة القرصنة وجمع المعلومات الاستخبارية.
لدى البحرية الأمريكية تقليد طويل الأمد في عدم الكشف عن مكان وجود غواصاتها، ولكن يُعتقد أن الإبحار إلى الخليج العربي من قبل غواصات تحمل صواريخ كروز تعمل بالطاقة النووية (من فئة SSGN) نادرة بشكل خاص. وتعمل غواصات الهجوم السريع الأصغر حجماً (من فئة SSN) التابعة للبحرية الأمريكية بشكل متكرر في الخليج وهي قادرة تماماً على إجراء عمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع وغيرها من المهام في المنطقة. ومع ذلك، يُعتقد أن المساحات الضيقة في الخليج ومضيق هرمز غير ملائمة لعمليات الغواصات الكبيرة بسبب أعماقها الضحلة نسبياً، والتيارات المائية القوية، والعديد من خطوط الأنابيب تحت الماء، والمرافق البحرية، وطرق الشحن المزدحمة للغاية، وتقنيات الكشف الحديثة.
وبالفعل، أثبتت مخاطر الاصطدام أنها كبيرة. ففي كانون الثاني/يناير 2007، اصطدمت الغواصة الهجومية من فئة لوس أنجلوس "يو إس إس نيوبورت نيوز (SSN-750)" بناقلة عملاقة يابانية أثناء مغادرتها لمضيق هرمز وهي تحت الماء. وبعد ذلك بعامين، اصطدمت السفينة "يو إس إس هارتفورد (SSN-768)" من فئة لوس أنجلوس بسفينة دعم برمائية أثناء قيامها بعبور المضيق وهي تحت الماء ليلاً.
الإجراءات المضادة المحتملة التي قد تقوم بها إيران
يُعتقد أن "بحرية جمهورية إيران الإسلامية" تَعتبر غواصاتها الثلاث الروسية الصنع من فئة "كيلو" وغواصتها الأصلية من فئة "فاتح" (كلاهما تعملان بالديزل والكهرباء) كخط دفاعها الأول ضد غواصات العدو (قد تلعب "سافيز، وهي سفينة استخبارات/ترسانة راسية بشكل دائم شمال مضيق باب المندب، دوراً أيضاً). وعند الجمع بين موارد "بحرية جمهورية إيران الإسلامية" و"قوات البحرية التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي»" الإيراني، وشبكاتها الحالية من أجهزة الاستشعار، بإمكان إيران اكتشاف أنشطة الغواصات المشبوهة في المياه القريبة - خاصة في الأعماق الأكثر ضحالة التي توفر القليل من الحواجز الحرارية الصوتية أو لا توفر أي حواجز حرارية (على سبيل المثال، الخط الحراري) للغواصات للاختباء تحت تلك المياه. وفي الوقت نفسه، فإن الدفاعات الجوية الإيرانية قادرة على اعتراض بعض صواريخ كروز على الأقل تلك التي تُطلق على منشآتها الحساسة.
وإلى جانب نشر غواصات مزودة بأجهزة سونار (أجهزة سبر بالصدى) لتحديد مواقع التهديدات تحت الماء، يُعتقد أيضاً أن إيران أجرت تحسينات صغيرة على قدراتها المضادة للغواصات في السنوات الأخيرة. وتشمل هذه حفنة من طائرات الهليكوبتر من طراز "S-61 (SH-3D) Sea King" التي يمكن أن تَنشر أجهزة السونار النشطة والطوربيدات المربوطة. ويمكن للقوات الإيرانية أيضاً نشر ألغام أرضية مضادة للغواصات في سواحل الخليج العربي، في حين لدى "قوات البحرية التابعة لـ «الحرس الثوري»" أسطول من زوارق الطوربيد السريعة الصغيرة (على الرغم من أن قدرتها على الحرب المضادة للغواصات لا تزال غير مُثْبتة). وفي 25 كانون الأول/ديسمبر، خلال جولة للتحصينات بالقرب من مضيق هرمز، كرر قائد "قوات البحرية التابعة لـ «الحرس الثوري»" علي رضا تنكسيري استعداد قواته لمواجهة أي تهديد.
الجوانب القانونية لعبور الغواصات
خرجت الغواصة "جورجيا"عن الممارسات البحرية الأمريكية المعتادة في مضيق هرمز من خلال عبورها له أثناء ظهورها على سطح الماء وخلال ساعات النهار، برفقة طرادَيْن من صواريخ موجهة للدفاع الجوي وطائرة هليكوبتر مراقبة. وهناك فرق قانوني بين عبور مضيق دولي أثناء الظهور على سطح الماء مقابل التواجد تحت الماء. وأصرت الولايات المتحدة على حق "المرور العابر" في مضيق هرمز، وهو تعريف يسمح بالعمليات العادية مثل إطلاق مروحيات محمولة على متن السفن وإبقاء الغواصات تحت الماء. لكن إيران لا تعتبر مضيق هرمز مضيقاً دولياً، وبالتالي تصر على مبدأ "المرور البريء" الذي لا يسمح بمثل هذه العمليات.
وفي الماضي، مارست البحرية الأمريكية بشكل متكرر حقها في المرور العابر بإرسالها غواصات عبر مضيق هرمز وهي تحت الماء. ربما كان المقصود من عبور "جورجيا" على سطح الماء هي أن تبدو أكثر تحدياً وأن ترسل تحذيراً إلى إيران. ومع هذا، فقد تفسر طهران ذلك على أنها علامة ضعف - أي تنازلات بحكم الأمر الواقع لإصرار إيران الطويل الأمد على "المرور البريء".
الخاتمة
كما حذر خامنئي في خطاب ألقاه في 16 كانون الأول/ديسمبر، لا تزال طهران مصممة على توجيه ضربة مؤلمة بما يكفي لإرغام القوات الأمريكية على الرحيل النهائي من الشرق الأوسط. لذلك، اتخذت وزارة الدفاع الأمريكية خطوات لتحسين موقفها الرادع المحلي، مثل المناورة بمجموعة حاملة الطائرات الهجومية الوحيدة المتبقية في المنطقة، وإصدار الأوامر لإقلاع القاذفات الإستراتيجية من طراز "بي 52" وطيرانها مباشرة من الولايات المتحدة إلى الخليج العربي في 10 كانون الأول/ديسمبر، وإرسالها الآن واحدة من أكثر غواصات صواريخ كروز متعددة الاستخدامات إلى الخليج. ومع ذلك، على السلطات الأمريكية أن تكون حذرة للغاية في كيفية تنفيذ مثل هذه التحركات الرادعة لكي لا تسيء إيران تفسيرها على أنها علامات ضعف.
بالإضافة إلى ذلك، في حال اقتراب الغواصة الإسرائيلية من المياه الإيرانية، وهو أمر بعيد الاحتمال، من المحتمل أن تردّ إيران بطريقة دراماتيكية. وقد اختارت إسرائيل التخلي عن أي عنصر من عناصر المفاجأة من خلال الاستغناء عن الرحلة الطويلة حول أفريقيا وإرسال غواصتها عبر قناة السويس وهي عائمة، ربما لأنها أرادت وجود رادع في البحر العربي عاجلاً وليس آجلاً. ومهما كانت الحالة، من المرجح أن تحاول إيران اتخاذ إجراءات متعددة من أجل منع السفينة الإسرائيلية من دخول مضيق هرمز، مثل الإعلان عن أن هذا الإجراء سيتجاوز خط أحمر، ورفض السماح للسفينة بالمرور البريء، وإجراء تدريبات عسكرية في المنطقة، وزيادة دورياتها لتحديد موقع الغواصة واعتراضها. وعلى الرغم من أن طهران قد تمتنع عن اتخاذ إجراءات من شأنها إشعال فتيل حرب دامية، إلا أن مثل هذه المواجهات تترافق مع خطر كبير بالتصعيد.
فرزين نديمي هو زميل مشارك في معهد واشنطن، ومتخصص في شؤون الأمن والدفاع المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج
washingtoninstitute