في تاريخ كأس العالم يحتل الثلاث مراكز الأولى لترتيب المنتخبات صاحبة أكبر عدد من البطاقات الحمراء ثلاث منتخبات لاتينية. البرازيل (11 بطاقة حمراء)، والأرجنتين (10 بطاقات حمراء)، والأوروجواي (8 بطاقات حمراء).
قد تفكر الآن أن ذلك الرقم يبدو منطقيًا نظرًا لمشاركة المنتخبات الثلاثة في أغلب نسخ المونديال مما يعني عدد مباريات أكبر، لكن دعني أخبرك أن منتخبات أخرى شاركت في عدد مباريات مقارب للمنتخبات اللاتينية الثلاث ولم تحصل على هذا العدد من البطاقات الحمراء.
إسبانيا على سبيل المثال لم تحصل إلا على بطاقة حمراء واحدة في تاريخ مشاركاتها، وإنجلترا لم تحصل إلا على 3 بطاقات حمراء، لعل أشهرها طرد الناشئ حينها ديفيد بيكهام في مبارة إنجلترا أمام الأرجنتين.
ننتقل الآن من ساحة المنتخبات إلى ساحة الأندية. ففي صباح التاسع عشر من أغسطس/ آب من عام الكورونا 2020، وبعد يوم واحد من نهائي دوري أبطال أوروبا الذي انتهي بحصد بايرن ميونيخ اللقب، أصدر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم UEFA إحصائيات تلك النسخة التي استغرقت وقتًا طويلًا لإكمالها.
أفادت إحدى ورقات هذه الإحصائيات، أن إجمالي عدد البطاقات الحمراء في تلك النسخة كان نحو 20 بطاقة حمراء. 20 بطاقة حمراء في بطولة هي الأقوى والأكثر ندية للأندية على مستوى العالم.
على الجانب الآخر من العالم، بطولة كوبا ليبرتادوريس التي تشارك فيها أندية أمريكا الجنوبية وبعض فرق أمريكا الوسطى للموسم نفسه، كان عدد البطاقات الحمراء فيها 55 بطاقة حمراء.
فالسؤال الذي يفرض نفسه الآن: لماذا يطغى اللون الأحمر للبطاقات على هذه البقعة من العالم؟
الاقتصاد المحلي
في تقرير نشرته قناة دويتش فيليه الألمانية، وُجد أن هناك دراسة مفصلة أجراها المركز الدولي للدراسات الرياضية الإحصائية CIES لها علاقة بالأمر. قامت تلك الدراسة على 87 دوري حول العالم في الفترة ما بين عامي 2015 و2020.
وجد التقرير أن السبع الدول الأكثر حصولًا على بطاقات صفراء وحمراء في المباراة الواحدة، جميعها تقع في أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطي: بوليفيا، وجواتيمالا، والأوروجواي، وكولومبيا، وباراجواي، ونيكاراجوا، والسلفادور.
لكن الدراسة قد قررت الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، لتربط بين معدل حصول اللاعبين على البطاقات الصفراء والحمراء، ونصيب الفرد من الناتج المحلي للدولة، والذي يُعد مؤشرًا مهمًا لقياس رخاء الأفراد في الدولة.
رسم بياني يوضح العلاقة بين نصيب الفرد من الناتج المحلي للبلد، ومعدل البطاقات الصفراء والحمراء في دوري البلد بين عامي 2015 و 2020
وُجد أن 6 دول من السبع دول اللاتينية السابق ذكرها، لا يتعدي نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي حاجز 6500 دولار أمريكي، وهو رقم هزيل مقارنة ببقية الدول الـ87 التي شملتهم الدراسة والذي تجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي فيها حاجز 50 ألف دولار أمريكي ووصل في بعضها إلى 100 ألف دولار أمريكي.
يبدو أن هناك علاقة وثيقة بين عنف اللاعبين على أرض الميدان في الدوري ونصيب الفرد من الناتج المحلي للبلد الذي يقام فيه هذا الدوري.
كانت الأوروجواي الاستثناء الوحيد لتلك العلاقة، حيث يصل فيها نصيب الفرد من الإنتاج المحلي للدولة إلى 17000 دولار أمريكي، مما جعل الباحثين المسؤلين عن تلك الدراسة ينقبون عن أسباب أخرى لزيادة معدل البطاقات الحمراء والصفراء في دول أمريكا اللاتينية والوسطي.
معدلات جرائم القتل
منظور آخر قرر الباحثون المحاولة من خلاله للوصول للبحث وراء ارتفاع معدل البطاقات الحمراء المباشرة في دول أمريكا اللاتينية، ألا وهو: معدلات جرائم القتل في هذه البلدان.
رسم بياني يوضح العلاقة بين معدل جرائم القتل في بلد، ومعدل البطاقات الحمراء المباشرة في دوري البلد بين عامي 2015 و 2020
وجدت الدراسة أن هناك علاقة قوية بين معدلات القتل في البلد وحالات الطرد المباشر بالبطاقة الحمراء في مباريات الدوري للبلد ذاته بين عامي 2015 و2020.
ففي الأوروجواي على سبيل المثال، وصلت معدلات جرائم القتل إلى 12 حالة قتل/100 ألف مواطن، وهو معدل أعلى من نحو 90% من الدول الـ87 التي خضعت لتلك الدراسة؛ لذلك وصلت معدلات الطرد المباشر بالبطاقة الحمراء إلى نحو 0.5 حالة طرد/ مباراة. أي أنه في كل مباراتين في الدوري الأوروجواياني توجد حالة طرد بالبطاقة الحمراء.
السلفادور هي الأخرى وصلت معدلات جرائم القتل فيها إلى نحو 80 جريمة قتل/100 ألف مواطن، لذا صرح الصحفي الرياضي السلفادوري «خوسيه نافاراتي» لقناة دويتش فيليه الألمانية قائلًا: «صار من الطبيعي في سلفادور أن تجد 7 أو 8 بطاقات صفراء وحالتي طرد في المباراة الواحدة. تلك الأجواء المتوترة دائمًا تجعل الحكام متحفزين أيضًا لإشهار البطاقات سريعًا ليكون صوتهم مسموعًا في الملعب».
الأطفال والحكام الدوليون
يتفق الحكم البرازيلي المونديالي السابق «ساندرو ريتشي» مع أبحاث المركز الدولي للدراسات الرياضية CIES فيما يخص الربط بمعدلات البطاقات الصفراء والحمراء بأمريكا اللاتينية.
يقول ريتشي، إن الأمر يبدأ مبكرًا من مباريات الناشئين والشباب. فالأطفال يرون مدربيهم على الخطوط يهاجمون الحكام ويرهبون الخصم بكل عنف، نتيجة تأثر هؤلاء المدربين بعوامل الفقر وارتفاع جرائم القتل والفساد التي سبق ذكرها، والتي تشعرهم بعدم الأمان والرغبة في إثبات الذات بأي طريقة كانت.
يتأثر الأطفال مبكرًا بتلك الأجواء، فيكبرون ويصيرون نسخًا من مدربيهم الذين نشأوا على أيديهم، فتكون تلك هي الحالة في الملاعب اللاتينية.
هناك فارق واضح بين تحكيم المباريات خارج أمريكا اللاتينية حيث الأمر أكثر هدوءًا بكثير، وداخل أمريكا اللاتينية حيث الاعتراض المبالغ فيه على كل شيء، حتى أثناء رمي العملة المعدنية قبل بداية المباراة، قبل بداية أي شيء!
—الحكم البرازيلي الدولي السابق «ساندرو ريتشي»
أغلب الظن أنه لا أحد في تلك المجتمعات قد ربط بين الدخل السنوي والعنف وممارسة كرة القدم، لأن نفس الدول التي تتصدر قائمة البطاقات الحمراء، هي نفسها من ينتج نوعيات مختلفة من مواهب اللعبة. ولأن الجماهير دائمًا ما برعت في إيجاد مسميات أخرى لذلك العنف، لجعله مصدرًا للفخر والانتماء، وبين هذا وذاك، ستظل علاقة أمريكا اللاتينية باللون الأحمر وثيقة، حتى يظهر من يزيح لاعبيها عن المركز الأول.
ida2at