استضاف مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يوم 26 مايو 2016، د. بوحنية قوي، عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورقلة الجزائر، وذلك في لقاء عام تطرق خلاله إلى الحديث عن أبعاد التحديات الأمنية التي تواجهها الجزائر، وملامح المشهد المستقبلي في البلاد.
التحديات الأمنية الجزائرية في الساحل الأفريقي
ثمة ما يبرر التخوف الجزائري الأمني من إمكانية أن تدفع البلاد ضريبة الجوار الإقليمي الهش، حيث سبق أن عانت الجزائر لعشر سنوات عجاف من كل أنواع وأصناف القتل والإرهاب فيما عٌرف باسم "العشرية السوداء".
وظهرت مؤشرات تُنذر بعملية "دَعْشنة" الساحل الأفريقي وانتقال عدوى العمليات العسكرية للتنظيم الدموي إلى هذه المنطقة، ومنها بعض المظاهر المسلحة التي تقتبس منهج "داعش" كآلية من آليات البروز والتسويق الإعلامي، مثل حالة إعدام الرعية الفرنسي "هيرفي غوردال" ذبحاً في شريط بُث عبر اليوتيوب في 21 سبتمبر 2014 حمل توقيع "جماعة جند الخلافة في أرض الجزائر"، والتي أعلنت في شريط فيديو بيعتها لتنظيم "داعش" ونقض البيعة السابقة لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". وكان "داعش" قد أعلن، في نوفمبر 2014، الجزائر ولاية جديدة للتنظيم.
وأوضح د. بوحنية المقاربة الجزائرية لأزمة الساحل الأفريقي، وذلك في النقاط التالية:
1- أقرّت كل من الجزائر وليبيا ومالي والنيجر وموريتانيا، في عام 2009، خطة أمنية ترتكز بشكل أساسي على بناء قوة عسكرية نظامية قوامها 25 ألف جندي مشكّلة من الجيوش النظامية للدول الخمس، بالتعاون مع الميليشيا القبلية المنتشرة في الصحراء، من قبائل الطوارق والعرب ... وغيرها.
2- حلّت خطة الجزائر لعام 2009 مشكلة تسهيل عمل الجيوش النظامية لدول الساحل الأفريقي بما يمكّنها من مطاردة المتطرفين وراء الحدود، وضرب معاقل تنظيم "القاعدة"، وتجفيف منابع الدعم والإمداد اللوجستي التي تمول أفراد التنظيم بالسلاح والأموال، والسيطرة النهائية على منطقة الساحل الأفريقي. كما اتفقت دول الساحل الأفريقي آنذاك على إنشاء أول قاعدة بيانات محلية موحدة، تتضمن كافة المعلومات المتاحة حول تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب"، على أن تلتزم الدول بتغذية هذه القاعدة بالمعلومات للتصدي للتنظيم بفعالية.
3- اتفقت الجزائر وليبيا وموريتانيا ومالي والنيجر على السماح لهيئات الأركان للجيوش الخمسة التابعة لها، بالمطاردة المستمرة للجماعات الإسلامية المسلحة المنضوية تحت لواء تنظيم "القاعدة" في المناطق الصحراوية، وتوفير قوات نظامية جاهزة لمواجهة هذه التنظيمات في الدولة التي تجري على أرضها المطاردة.
4- تم الاتفاق على تجفيف مصادر تمويل الإرهاب والتصدي للمهربين، وتنفيذ مشاريع استثمارية شمال مالي والنيجر.
وبالتالي يمكن القول إن الجزائر تواجه تهديدات أمنية نابعة من المخاطر التي يشكلها تنظيما "القاعدة" و"داعش"، فضلاً عن الاضطرابات في دول الجوار وتحديداً ليبيا ومالي، وانتشار السلاح، بالإضافة إلى تهديدات لينة تتعلق بالهجرة غير الشرعية.
وكانت الجزائر من أكثر الدول التي امتلكت الحجج الكافية لتبرير موقفها من مكافحة الإرهاب، فقد ظلت طوال سنوات التسعينيات من القرن الماضي منكفئة على نفسها في محاربة هذه الظاهرة التي خلفت خسائر مادية بأكثر من 30 مليار دولار و200 ألف قتيل من ضحايا الإرهاب، إضافة إلى حصار طويل على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية وتحديداً بمنعها من التسلح لمكافحة خطر الإرهاب.
وسط هذه المنطقة المضطربة، تناور الجزائر وهي التي تدرك أن الدول الغربية تملك لغة برجماتية مناورة في أحيان كثيرة، إذ لا تزال الدول الغربية مثل فرنسا وسويسرا تحوم حولها شكوك مؤكدة تُنبئ بخضوعها لشروط الجماعات المسلحة بدفع الفدية والأموال لتحرير الرهائن. ولكن هذا السلوك الغربي حتَّم على الجزائر أن تدافع بشكل دائم عن مسألة سيادية ترتبط بعدم الخضوع للتنظيمات المسلحة، وهو ما تشدد عليه في مختلف المنابر الدولية والإقليمية.
وفي إطار التصدي للتهديدات والمخاطر الأمنية، دافعت الجزائر عن تأسيس قوة إقليمية للرد السريع في الأزمات والنزاعات الأفريقية، وذلك خلال قمة الاتحاد الأفريقي التي انعقدت في أديس أبابا عام 2014.
تحديد ملامح المشهد المستقبلي في الجزائر
عرض د. بوحنية بعض النقاط التي يمكن من خلالها استكشاف مستقبل الأوضاع في الجزائر وسياساتها الخارجية، وتتمثل أبرزها في الآتي:
1- استغلت السلطات الجزائرية الأحداث والاضطرابات التي صاحبت ثورات الربيع العربي، ووظفتها بشكل إيجابي، وسوقتها بعناية سياسياً لتعزيز ثقة الجزائريين في المؤسسة الحاكمة. وقد لُوحظ في استقصاءات مختلفة، ومنها البارومتر العربي في طبعته لعام 2013، أن نحو 78% من المستجوبين في الولايات الجزائرية يطالبون بتطبيق إصلاحات تدريجية غير راديكالية خصوصاً بعد انتكاسات الربيع العربي.
2- مازال الرئيس الجزائري يحتفظ بعدد كبير من الصلاحيات، وقد تجددت هذه الصلاحيات في دستور 7 مارس 2016. وظهرت مساعي الرئيس بوتفليقة في إعلاء قيمة سلطة مؤسسة الرئاسة في اتخاذه قراراً، في سبتمبر 2015، بإنهاء مهام مدير الأمن والاستعلامات "المخابرات" الجنرال توفيق (محمد مدين)، وحل المديرية، وإعادة تشكيل جهاز جديد تابع مباشرة للرئاسة. وقد كان هذا القرار بمنزلة إعادة رسم هندسة أمنية جديدة قوامها أن هيكل المخابرات هو جزء من منظومة أمنية عسكرية تحت السلطة الرئاسية مباشرة، كما أنه يمثل رسالة مفادها أن مؤسسة الرئاسة هي راسم السياسة الأول في الجزائر، علاوة على كون القرار يعكس مسعى الرئيس بوتفليقة لتنقية البنية السياسية والأمنية المحيطة لتمكينه من عدم إيجاد أي قوى قد تهدده في رسم خريطة مستقبل الجزائر.
3- سيبقى منطق "الأمنَنَة" هو المحرك الرئيسي للخطاب الجزائري، وهذا سببه اعتبارات كثيرة، منها تنامي خطر الإرهاب، وتهديدات الجماعات المسلحة والمتطرفة في دول الجوار ومنطقة الساحل الأفريقي.
4- ستظل العقيدة العسكرية الجزائرية راسخة بالشكل المتعارف عليه، ورافضة الانخراط في مساع عسكرية إقليمية ودولية حتى ولو كانت تحت غطاء عربي، وهذا ما بدا واضحاً في رفض الجزائر المشاركة في التحالف العربي بقيادة السعودية ضد انقلاب ميليشيا الحوثيين في اليمن، وكذلك رفضها المشاركة في الضربات الفرنسية لشمال دولة مالي.
ختاماً، أكد د. بوحنية أن ملامح تحديد المشهد المستقبلي في الجزائر ستتوقف على عدة عناصر، منها دور مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، واستمرارية هشاشة المعارضة، والمؤشرات الاقتصادية خاصةً في ظل تقلبات أسعار النفط الذي يُعد العمود الفقري للاقتصاد الجزائري وأساس موارده المالية، وخريطة التحالفات الدولية والإقليمية، فضلاً عن الحالة الأمنية والتصدي لخطر الإرهاب.
مصدر