خلال عقد من الزمن، عززت تركيا بشكل كبير استقلاليتها في مجال إنتاج الأسلحة، وحققت نجاحات عديدة في مجال التصدير، لا سيما بالنسبة للطائرات من دون طيار. لكن صناعتها العسكرية ما تزال تعتمد في أبعاد عدة على الممونين الأجانب.
“نحن ضمن البلدان العشرة التي يمكنها تصميم وبناء وصيانة سفنها الحربية الخاصة بها!”، كان هذا ما صرح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم السبت الموافق 23 كانون الثاني (يناير) 2021، عند إطلاق الفرقاطة “تي. سي. جي. إسطنبول”.
وقد تم تقديم هذه السفينة كإحدى مفاخر البحرية، مع أنها تركية بنسبة 75 % فقط؛ إذ لم تتمكن ورشات بناء السفن من الاستغناء عن الدعم التكنولوجي الأجنبي. ولئن حققت تركيا قفزة صناعية وتكنولوجية كبيرة جعلتها أحد أكبر مصدري الأسلحة في العالم، فإنها في الواقع ما تزال تعتمد بقدر كبير على الخارج.
تشمل “رؤية 2023” التي تم الكشف عنها منذ العام 2010، التي أرادتها رئاسة الوزراء التركية، جملة من الأهداف التي من شأنها جعل البلاد قوة مستقلة لا يمكن تجاوزها بعد مائة عام من تأسيس الجمهورية.
وفي هذا الإطار، يظهر قطاع الأسلحة كأحد رؤوس الحربة لهذا المشروع الطموح، حيث يتعين على القوات المسلحة التركية -رمز السيادة بامتياز- أن تتمتع بعتاد مصنوع بالكامل في تركيا.
بغض النظر عن هذه الرمزية السياسية، تتطلع السلطات إلى استقلالية استراتيجية لأسباب أكثر براغماتية.
فقد فرضت الولايات المتحدة بين العامين 1975 و1978 حظرًا على مبيعات الأسلحة لتركيا في إطار أزمة قبرص. وبعد أن عاينت الاختناق الذي أحدثه هذا الحظر على قواتها المسلحة، قررت تركيا الشروع في تطوير صناعة دفاعية مستقلة.
تتغذى ذهنية المُحاصَر هذه منذ ذلك الحين بعدة حوادث مماثلة. ففي العامين 2010 و2012، اعترض الكونغرس الأميركي على تصدير طائرات من دون طيار إلى تركيا بسبب التوترات التي كانت قائمة بين تل أبيب وأنقرة.
وفي كانون الثاني (يناير) 2018، انسحبت برلين من برنامج تحديث دبابات “ليوبارد 2” الألمانية التي تستعملها تركيا بسبب عملية “غصن الزيتون” التي نفذتها أنقرة في محافظة عفرين الكردية السورية.
ومؤخرًا، وأمام تنامي النزعة الحربية لتركيا، قررت دول عدة مثل كندا وألمانيا والمملكة المتحدة في 2019 و2020 الامتناع عن تسليمها بعض المكونات الأساسية لتصنيع الطائرات من دون طيار، التي تشكل رأس حربة تدخّل أنقرة في المنطقة.
أدى انعدام الثقة المتنامي لبلدان أوروبا الغربية وأميركا الشمالية تجاه أنقرة، وسعي الأخيرة بجميع الطرق إلى تطوير صناعتها الدفاعية، إلى انهيار الصادرات العسكرية الأميركية لتركيا بنسبة 81 % من 2010 إلى 2020.
تراجعت تركيا التي كانت ثالث أكبر مشترٍ للأسلحة الأميركية في العالم خلال الفترة ما بين 2011 و2015، إلى المركز 19 في الفترة ما بين 2016 و2020.
وقامت الولايات المتحدة في تموز (يوليو) 2019 بمنع بيع المروحيات التركية “تي-129” (T129 ATAK) إلى باكستان لكونها مجهزة بمحركات CTS800 أميركية الصنع. ولم يكن لتركيا بديل عن هذه المحركات، مما أدى إلى إلغاء العقد وخسارة مالية بلغت مبلغ 1.5 مليار دولار.
وهكذا، عملت السلطات التركية على جعل الصناعات العسكرية إحدى أولوياتها. وقررت الرئاسة بحلول تموز (يوليو) 2018 وضعها تحت إشرافها المباشر من خلال إلغاء الوزارة المنتدبة للصناعات الدفاعية وإنشاء رئاسة الصناعات الدفاعية.
حقق قطاع الصناعات الدفاعية التركية في غضون 10 سنوات قفزة هائلة إلى الأمام. ففي حين لم تكن هناك سوى شركة تركية واحدة مدرجة في ترتيب أكبر مائة شركة للأسلحة في العام 2000، أصبحت لديها اليوم سبع شركات.
وقد انتقل رقم الأعمال من مليار دولار في 2002 إلى 11 مليارًا في 2020، مما جعل صناعات الدفاعات التركية في المرتبة 14 بين أكبر مصدري المنتجات العسكرية خلال العام الماضي.
وباعت تركيا بين العامين 2010 و2019 عتادا حربيا إلى 28 دولة، ناهيك عن بعض الفصائل من الجماعات المتمردة التي تدعمها أنقرة في سورية.
وشكلت كل من تركمانستان والمملكة العربية السعودية وباكستان مجتمعة نصف مشتري صادرات تركيا خلال هذه الفترة.
يبدو رهان الاستقلالية الاستراتيجية على وشك التحقيق؛ فقد قلصت تركيا بين العامين 2015 و2019 نسبة وارداتها من المعدات والتقنيات العسكرية بحوالي 48 % مقارنة بالفترة بين 2011 و2015. ونجحت في تطوير جميع جوانب الصناعة الدفاعية، حيث التحقت اثنتان من شركاتها العام 2020 بتصنيف أكبر مائة صانع عسكري في العالم. وتتخصص إحداهما -وهي “أف أن أس أس للصناعات الدفاعية” FNSS Defense Industries في المعدات، والأخرى -هافيلسان Havelsan- في البرمجيات.
على الميدان، تستفيد القوات المسلحة مسبقًا -أو هي على وشك الاستفادة- من مجموعة متنوعة من المعدات المصممة والمصنعة في تركيا.
فقد تم استبدال المروحيات الأميركية “Bell AH-1” بمروحيات “T129 ATAK” التي تنتجها الشركة التركية “TAI”، بينما تم استبدال البندقية الهجومية الألمانية “HK-G3” التي تعود إلى السبعينيات بالبندقية الهجومية “MPT-76” التي تنتجها شركة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التركية (MKEK).
كما سيتم الاستغناء عن الدبابات الثقيلة “ليوبارد 2” في أوائل 2023، لتخلفها دبابة “ألطاي”، وهي ثمرة عمل مجموعة من الشركات التركية. وقد تمكنت الشركة الصناعية العملاقة “أسيلسان” في حزيران (يونيو) 2021 من تحديث دبابات “ليوبارد 2″، متجاوزة بذلك الألمان الذين رفضوا تحسينها في 2018.
ويتجلى رمز نجاح الصناعة العسكرية بلا شك في الاختراق الهائل في مجال الطائرات من دون طيار ذات الاستخدام العسكري.
فمن الطائرة من دون طيار المسلحة “بيرقدار تي. بي-2″، إلى الطائرة من دون طيار للمراقبة “آقنجي”، أصبحت تركيا متخصصة في هذا المجال بفضل المهندس سلجوق بيرقدار، الذي أصبح اليوم بطلاً قوميًا وصهرًا للرئيس أردوغان.
من الساحل الليبي إلى السهل السوري، مرورًا بالجبال العراقية أو ناغورني قرة باخ، سمحت الطائرات من دون طيار لتركيا وحلفائها بحسم الموقف في ساحة المعركة بفعالية وسرعة وعدد أقل من الضحايا.
وصارت هذه الطائرات تباع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بولندا. ولأول مرة في تاريخها، تمكنت تركيا من بيع أسلحة إلى بلدان من حلف شمال الأطلسي، والغريب أن ذلك تم على حساب الولايات المتحدة الأميركية، التي اتضح أن طائرتها من دون طيار من نوع “بريداتور” أغلى بخمسة أضعاف من “بيرقدار تي. بي-2” التركية (26 مليون دولار للطائرة الأميركية مقابل 5 ملايين للتركية).
ونتيجة لذلك النجاح، تعمل تركيا على زيادة الاستثمار في مجال الطائرات من دون طيار، وهي تقوم حاليا بتطوير نموذج بحري متخصص في الحرب المضادة للغواصات، وأربعة أنواع مختلفة من الطائرات الأرضية المسلحة، إلى جانب أجهزة يمكن نشرها انطلاقا من قاعدة جوية أو سفينة برمائية.
على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته تركيا خلال الأعوام العشرة الماضية، فإنها لا تستطيع الاستغناء عن خبرة القوى الأجنبية بعد. وفضلاً عن استلامها من روسيا خلال الأشهر الأخيرة لأنظمة الأسلحة الدفاعية المضادة للطيران “أس 400″، سيتم تزويد تركيا قريبًا بست غواصات مصممة في ألمانيا، وخمس طائرات متخصصة في حرب الغواصات مصنوعة في إيطاليا، وسفينة هجومية برمائية يتم تصنيعها حاليًا في إسبانيا، والتي ستسمح بإقلاع المروحيات والطائرات من دون طيار والطائرات ذات الهبوط والإقلاع القصير أو العمودي.
وستستخدم السفينة التي تحمل اسم “تي سي جي أناضولو” الرادار الإيطالي SPN-720 للمساعدة على إقلاع وهبوط الطائرات في الظروف المناخية الصعبة.
كما تم تصميم عدد كبير من سفن البحرية التركية، مثل الفرقاطات من صنف “بربروس” أو “يافوز”، أو سفن الهجوم السريع من طراز “كيليدج” في ألمانيا.
كثيرً ما تحتوي المنتجات التركية التي تُقدم على أنها “مصنوعة محليا” على معدات أو تكنولوجيات أجنبية.
وهكذا سيتم تجهيز الدبابة القتالية الرئيسية “ألطاي” بمدفع Rheinmetall الألماني، والمروحيات القتالية T129 ATAK بمحركات أميركية LHTEC.
كما سيتم دفع الغواصات من فئة “رايس” التركية بمحركات شركة “زيمنس” الألمانية. أما الطائرة المقاتلة المستقبلية TF-X، فقد اتضح أنها كارثة صناعية يتأجل تاريخ دخولها إلى الخدمة باستمرار، لا سيما بسبب صعوبة إيجاد محرك مناسب لها.
وقد انسحبت المملكة المتحدة -التي كان من المفترض أن تساعد تركيا في تجهيز الطائرة بالمحرك من خلال شراكة مع “رولز رويس”- من المشروع في آذار (مارس) 2019.
تعاني تركيا فعليًا من قصور مزمن في مجال المحركات.
ويقول مسؤول سابق في الصناعات العسكرية: “كانت هذه مشكلة منذ 15 عاما، كما كان الحال قبلها بعشرة أعوام، وما يزال الأمر إشكاليًا إلى اليوم”.
وسواء تعلق الأمر بالمروحيات أو الدبابات أو الطائرات من دون طيار أو الطائرات القتالية، فإن المحركات التركية غير متوفرة، ولا خيار أمام الصناعيين سوى اللجوء إلى الشركات الأجنبية.
وتحرص تركيا على اختيار شركاء يكون احتمال نشوب أزمة دبلوماسية معهم ضعيفًا. فعلى سبيل المثال، ستقوم الشركات الكورية الجنوبية “دوسان” و”أس. أند تي. دايناميكس” بتزويد دبابة “ألطاي” بالمحرك الذي كان من المفترض في البداية أن يأتي من ألمانيا قبل أن تنسحب الأخيرة من المشروع في 2018، بعد قرار برلين فرض الحظر.
أما مروحيات “أطاك” T129، فستتخلى عن محركها الأميركي وتستبدله بمحرك أوكراني تزوده بها شركة “موتور سيتش”. في حين أن الطائرة من دون طيار “آقنجي” -وهي أثقل من “تي بي-2”- فسيتم تزويدها بمحرك توربيني أوكراني AI-450.
على الرغم من الدعم المالي الكبير المخصص له، يواجه قطاع الأسلحة في تركيا نقصًا في الأيدي العاملة المؤهلة.
ففي أعقاب محاولة الانقلاب في تموز (يوليو) 2016، أدت عمليات التطهير التي أطلقتها السلطات التركية إلى اعتقال أو طرد عشرات الآلاف من الأشخاص وخلق مناخ من الخوف في تركيا: غادر في العام 2020 أكثر من 330 ألف شخص البلاد، جزء كبير منهم من الخريجين الشباب.
في العام 2019، أبرز تقرير نشرته رئاسة الصناعات الدفاعية أن 272 من موظفي صناعات الأسلحة، ومعظمهم من المهندسين والباحثين الشباب، غادروا البلاد نحو الولايات المتحدة وهولندا وألمانيا. والأرقام تتحدث عن نفسها: 41 % منهم بين 26 و30 من العمر، 54 % حاصلون على الدكتوراه، و59 % منهم كانت لهم تجربة تفوق 4 أعوام في الصناعات الدفاعية.
وبالنسبة لقطاع الأسلحة في تركيا، يتعلق الأمر بهجرة حقيقية للأدمغة، وهو ما يفسر جزئيًا الصعوبات الهيكلية التي تواجهها في سد بعض نقاط القصور، مثل تلك الموجودة في مجال المحركات.
إذا كانت صناعة الأسلحة في تركيا لم تتوقف عن النمو منذ عشرة أعوام، فمن المنتظر أن يصل هذا المنحنى مداه سريعًا بسبب هجرة الأدمغة والقصور التكنولوجي المستمر، ناهيك عن الفرص التجارية المحدودة.
صحيح أن الصادرات العسكرية زادت بشكل كبير، لكن معظم الإنتاج ما يزال موجهًا إلى القوات المسلحة داخل تركيا. وستبلغ هذه السوق المحلية حدودها بسرعة، وسيؤدي ذلك بالتالي إلى إبطاء النمو في قطاع الأسلحة.
ومع ذلك، ثبت أن العملاق الصناعي الذي أنشأه رجب طيب أردوغان هو نجاح سياسي لا جدال فيه، وهو ينوي مواصلة الاستفادة منه، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات وحلول الذكرى المئوية للجمهورية خلال العام 2023.
*إميل بوفييه: باحث في العلوم السياسية، متخصص بالشؤون الكردية والتركية. يحمل درجة الماجستير في الجغرافيا السياسية، عمل في وزارة الدفاع، خاصة في مركز التخطيط وإدارة العمليات، وفي رئاسة الأركان في خلية للتحليل الجيوسياسي، وفي بعثة عسكرية في تركيا.
alghad