الذاكرة والتاريخ بين فرنسا والجزائر
ثلثا الفرنسيين مقتنعون بالدور الإيجابي للاستعمار
الكاتب: مسعود ديلمي
يقول المؤرخ بيار قوبار (Pierre Goubert) إن ممارسة التاريخ مرتع لممارسة الحرية ، فكيف يمكن تدريس الذاكرة دون التخلي عن العلمية التاريخية؟ كيف يمكن إعطاء معني وطني وقومي للمشروع الذي يجمع أمة متعددة الأعراق ومختلفة العادات ؟ كيف يمكن مساعدة الأطفال علي النظر إلي الماضي ومجابهة تحديات الحاضر وبناء المستقبل والعيش المشترك في عالمنا المعاصر الذي تشابكت فيه المصالح؟ وكيف يمكن أيضا تطوير التحليل النقدي وتأسيس ثقافة الحوار للتفكير في تحديات عالم الغد؟
فرنسا الديمقرطية والفكر الاستعماري:
تعطي برامج البحث الجامعي لتاريخ الحضور الفرنسي في ما وراء البحار، وفي شمال إفريقيا خاصة، المكانة التي يستحقها. كما يُعترف علي وجه الخصوص في البرامج المدرسية بالدور الإيجابي للحضور الفرنسي في ما وراء البحار وشمال إفريقيا بشكل متميز، كما تولي لتاريخ تضحيات جنود الجيش الفرنسي المشكَّل من سكان هذه الأقاليم المكانة البارزة التي تليق بهم . هذا ما يتضمنه البند الرابع من قانون 23 شباط/ فبراير 2005 الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية لأجل تسجيل اعتراف الأمة بما أنجزه الفرنسيون المرحلون وتقديم إسهام لصالحهم . إن هذا القانون لا يحدد فقط التعويضات(منحة الاعتراف) بمعاناة المرحلين من الحرْكة بل يتعداه إلي ما ذكرته وزيرة الدفاع سابقا السيدة ميشال أليو ـ ماري قائلة إن من واجب الأمة الاعتراف لكل الرجال والنساء الذين ساهموا بشجاعتهم وعملهم (...)، ذلك العمل الجماعي الذي تم تحقيقه في شمال إفريقيا والقارات الأخري الذي أصبح في طي النسيان ومتجاهلا، في تألق نفوذ فرنسا وفي تطوير الأقاليم التي أقاموا فيها وكوَّنوا بها عائلاتهم .
أمّا النائب ليونال لوكا، من حزب اتحاد الأغلبية الرئاسية (UMP)، فإنه حاول تبييض تاريخ الاستعمار الفرنسي بالتلاعب بالمصطلحات قائلاً: ما هي الأخطاء التي ارتكِبتْ؟ فرنسا لم تستعبد الشعوب التي تزعمتها (...)، يجب أن نكتب وندرّس التاريخ لكي يعلم الأطفال أن فرنسا لم تكن احتلالية بل مُعمِّرة، وإنها لقنت قيم الجمهورية للنخب التي تحكم هذه الشعوب ، ما دعا بالصحافي إيفان دي رْوَا (Ivan du Roy) إلي التعليق ساخراً في مقال له بمجلة تيمْوانْيَاجْ كْرِيتْياَنْ (Tژmoignage Chrژtien)، عدد 21 نيسان/ أبريل 2005، وداعا لأيِّ نقدٍ للاستعمار: تحيا الجمهورية! تحيا فرنسا! مجازر سطيف 1945 ليست سوي قدح! 80 ألف قتيل بمدغشقر في أقل من شهر في عام 1947 مبالغة! اللاّمواطنة التي فرضت علي مسلمي الجزائر أكذوبة! عمر بانغو، وبن علي، وهفوت بوانيي، وأياديما ديمقراطيون كبار كوّنهم بلد حقوق الإنسان... . ويضاف إلي ذلك ما قاله النائب الاشتراكي فيكتوران ليغال (Victorin Lurel) الذي ذكّر زملاءه يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر بالـ 10 آلاف قتيل في الغْوَادْلوبْ (Guadeloupe) سنة 1802 أثناء إعادة تطبيق الرق، وبالموتي في حرب الهند الصينية وإفريقيا، والعمل الإجباري الشاق، واستغلال خيرات الشعوب المستضعفة... إلخ.
المؤرخون والضمير الحي
بمبادرة من كلود ليْوُزُو (Claude Liauzu)، أستاذ التاريخ بجامعة باريس السابعة، تشكلت جبهة لرفض هذا القانون تضم أساتذة وباحثين من مختلف التخصصات نشروا عريضة في جريدة لومند (Le Monde) الفرنسية بتاريخ 25 ـ 3 ـ 2005، أبدوا فيها التزامهم بعدم تطبيق البند الرابع وطالبوا بفتح نقاش حول قضايا الاستعمار والهجرة في البرامج الدراسية وبرامج تكوين الأساتذة، وكذلك بإلغاء القانون الذي يعيد الاعتبار للاستعمار لأنه:
ـ يعرض تاريخا رسميا ويناقض مبدأ الحياد المفترض في التعليم وأيضا حرية الفكر التي تعد عماد العلمانية .
ـ يركز علي الجانب الإيجابي للاستعمار حيث يفرض الكذب الرسمي حول الجرائم والمجازر والإبادة والرق والعنصرية الموروثة عن هذا الماضي .
يضفي الشرعية علي الانغلاق في الوطنية الضيقة (communautarisme nationaliste) التي تثير رد فعل عليها يتمثل في انغلاق المجموعات المشكلة للمجتمع الفرنسي علي نفسها (communautarisme des groupes) .
ويذكر المؤرخ كلود ليوزو أن التاريخ الرسمي فرض في مرحلتين سابقتين هما عهد الإمبراطورية الثانية، وأثناء حكم فيشي (Vichy) أثناء الحرب العالمية الثانية. وعلق قائلاً: سيدرس مئات آلاف الأطفال، أبناء الحقبة الاستعمارية، تاريخاً مكتوبا من قبل المستوطنين، إن مجتمعنا لم يستطع أن يتخلص من الفكر الاستعماري .
بينما المؤرخ قاي برفيلي (Guy Pervillژ)، أستاذ بجامعة تولوز لوميراي (Toulouse ـ Le Mirail) في رده علي قراء نسخة جريدة لبيراسيون الإليكترونية (Libژration.fr) بتاريخ 05 ـ 12ـ 2005، اعتبر القانون تجاوزا لصلاحيات النواب لظنهم أنّهم يقدمون الحقيقة التاريخية أو علي الأقل يجب تدريسها .
أمّا العريضة الثانية، والأكثر أهمية، فجاءت بعنوان الحرية للتاريخ وقّعها 19 مؤرخا من كبار الأساتذة جاء نصها واضحا ومتزناً، وأسلوبها بسيطا ومباشرا، بدون شاعرية أو لغة جافة، فطالبت بإلغاء القوانين المعرقلة للبحث وتدريس مادة التاريخ. ولأهمية هذا النص نورده كاملاً:
نظرا لتأثرنا بالتدخلات السياسية المتكررة في تقييم أحداث الماضي وبالإجراءات القضائية ضد مؤرخين ومفكرين، نذكِّر بالمبادئ الآتية:
التاريخ ليس دينا، والمؤرخ لا يقبل أيَّة عقيدة، ولا يحترم أي ممنوع، بل قد يكون حتي مزعجا.
التاريخ ليس الأخلاق، ولا يحق للمؤرخ التمجيد أو الإدانة، بل يكمن دوره في التفسير.
التاريخ ليس عبداً لأحداث الساعة. فالمؤرخ لا يُسقِط علي الماضي النظريات الإيديولوجية المعاصرة، ولا يُدخل في أحداث الماضي حساسية اليوم.
التاريخ ليس الذاكرة، إذ يجمع المؤرخ في عمله العلمي ذكريات الناس، ويقارن ما بينها، ويضعها علي المحك بمواجهتها بالوثائق والأشياء المادية والآثار ليبني الوقائع. التاريخ يضع في الحسبان الذاكرة ولا يحبس نفسه في حدودها.
التاريخ ليس أداة قانونية، لأن ليس من حق البرلمان ولا من حق السلطة القضائية في دولة حرة تحديد الحقيقة التاريخية. سياسة الدولة، ولو حسنت نواياها، ليست سياسة التاريخ.
و في خرقها لهذه المبادئ، جاءت القوانين متتالية، خاصة قانون 13 تموز/ يوليو 1990، وقانون 29 كانون الثاني/ يناير 2001، ثم قانون 21 ايار/ مايو 2001، ليليه قانون 23 شباط/ فبراير 2005، وقد حدّت من حرية المؤرخ لتُمْلِيَ عليه، تحت التهديد بالعقوبات، ما يجب أن يبحثه، وما يجب أن يتوصل إليه، ولتفرض عليه المنهجية كما أنها وضعت له الإطار الذي لا يجب عليه تجاوزه.
إننا نطالب بإلغاء هذه الإجراءات التشريعية غير المشرّفة لنظامنا الديمقراطي .
ولم يمض أسبوع علي نشر هذه العريضة حتي برزت علي الساحة السياسية الفرنسية عريضة معاكسة يوم 20 كانون الأول/ ديسمبر 2006، وقعتها 32 شخصية من مختلف التخصصات، تضم مؤرخين، وعلماء اجتماع، ومحامين، وأطباء، جلّهم من المدافعين عن الذاكرة اليهودية، رفضوا مضمون العريضة الأولي لأنها في نظرهم تقوم بخلط ضارٍّ ما بين مادة من قانون 23 شباط/ فبراير والقوانين الثلاثة الأخري التي تكتسي طابعا مختلفا تماما حيث تعترف بوقائع ثابتة من إبادة وجرائم ضد الإنسانية، لأجل محاربة إنكارها، وحفظ كرامة الضحايا من مذلة الإنكار .
دفعت مواقف هؤلاء المؤرخين والمثقفين الطبقة السياسية إلي التحرك وتوضيح مواقفها، لكن وفق رهانات المرحلة. فعلي المستوي الرسمي خرج الرئيس شيراك عن صمته يوم 09 كانون الأول/ ديسمبر 2006 قائلاً: ليس للقانون حق كتابة التاريخ ، ومعلنا عن إنشاء لجنة ذات طابع عام مدة عملها ثلاثة أشهر لتقييم عمل البرلمان في ميداني الذاكرة والتاريخ يرأسها رئيس البرلمان. وعبر عن الموقف نفسه رئيس حكومته آنذاك دومينيك دوفيلبان. واعتبر إجراء شيراك هذا مبدأ ديمقراطيا أساسيا وإقراراً بصواب موقف المؤرخين المناهضين للقانون، خاصة وأنه يتحمل المسؤولية في المصادقة عليه، كما أشار إلي ذلك ضمنيا الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان عندما قال إن السماح بتمرير هذا القانون خطأ .
أمّا نيكولا ساركوزي وزير الداخلية ورئيس حزب اتحاد الأغلبية الرئاسية قبل أن يصبح رئيسا لفرنسا في نيسان/ أبريل 2007، والذي رفضت أغلبيته البرلمانية يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 إلغاء البند الرابع من القانون المذكور أعلاه، فإنه أطلق تصريحات بنوايا انتخابية مثل واجب المصالحة الوطنية إلي جانب واجب الذاكرة ، كما اعترف بأن ليس علي البرلمان كتابة التاريخ ، لكنه اعتبر أن هذا انزلاق نحو محاكمة فرنسا ، وأسماه الاحتقار الذاتي خاتما كلامه بالتساؤل: هل سننتهي في يوم من الأيام إلي الندم علي كوننا فرنسيين؟ وبادر ساركوزي إلي إنشاء لجنة مهمتها دراسة معمقة للقانون، والتاريخ، وواجب الذاكرة وأسند رئاستها للمحامي آَرنو كلارسفيلد (Arnaud Klarsfeld)، جعل هذا الإجراء الحركة ضد العنصرية ومن أجل الصداقة بين الشعوب (MRAP) تصدر بيانا تطلب فيه عدم التعاون مع هذه اللّجنة ورئيسها لأنه من المدافعين عن الاستيطان الإسرائيلي والحرب علي العراق. ولاحظت صحيفة لومند أن إجراءات ساركوزي جاءت لضمان دعم الجالية اليهودية له في الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية التي جرت خلال الربيع الماضي.
بينما وجد اليمين المتطرف ضالته في النقاش المفتوح، إذ هلل رئيسها جان ماري لوبان لموقف شيراك وطالب بإلغاء قانون 13 ـ 07 ـ 1990 المعروف بقانون غريسو (Grayot) المناهض للعنصرية ومعاداة السامية والأجانب، بينما كان نائبه برينو غولنيش (Bruno Gollnisch) متابعا قضائيا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2004 تحت طائلة هذا القانون نتيجة لتشكيكه في مسألة غرف الغاز. طالب هؤلاء المؤرخون الموقعون علي العريضة بحضور محاكمته في آيار/ مايو 2006 للإدلاء بشهادتهم. وردّ عليه جان كلود غريسو، النائب الشيوعي السابق صاحب القانون، في تصريح لجريدة ليبيراسيون مبديا احترامه الكبير للمؤرخين أصحاب اللائحة، ومؤكدا أنّ هذا القانون يجعل من نفي الجرائم ضد الإنسانية جنحة، لكنه لا يكتب التاريخ، ولا يؤسس الحقائق العلمية، بل يحدد فقط بداهة ويحكم علي معاداة السامية المناضلة، فمثل ما نقول أن الأرض تدور، نثبت أن المحرقة وقعت ونفيها يخالف القانون. وكل هذا لا يمنع المؤرخين من تحديد ظروف الهولوكوست .
ويري مراقبون في مطالبة الجبهة الوطنية المتطرفة بحرية التعبير محاولة لإعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية، أي المرحلة التي حكم فيها اليمين فرنسا.
أمّا اليسار بمختلف توجهاته من التروتسكيين مرورا بالشيوعيين والخضر والاشتراكيين فإنه توحد في إطار مبادرة إصدار بيان مشترك يطالب فيه بإلغاء قانون 23 شباط/ فبراير الممجد للاستعمار.