أولاً
1- الفقه الإسلامي هو العمل البشري
لمحاولة فهم النصوص الدينية –القرآن وصحيح السنة- .. وفي ضوء هذا الفهم وحدوده يتم تطبيق
تلك النصوص في الواقع العملي.
2- ومن ثم, فإن هدف الاجتهاد –الذي هو ثمرة
الدراسة الفقهية- هو :
أ- تطبيق النصوص قطعية الثبوت والدلالة في الزمن الذي يقع فيه الاجتهاد.
ب- استنباط أحكام للمسائل التي لم يأت فيها نص قطعي الثبوت والدلالة.
3- وحين يقتضي هذان الهدفان اجتهاداً –في
التطبيق أو في الاستنباط- غير مسبوق, أو ترجيحاً لرأي قل مؤيدوه, فإن (خوف الخطأ)
لا يجوز أن يوقفنا عن الاجتهاد, و(خشية معارضة الكثرة) لا ينبغي أن تمنعنا من حسن
الاختيار الذي يناسب تطبيق الشريعة في عصرنا .. وليس لأحد من أهل الاجتهاد –كما
يقول الإمام الشافعي بحق- أن يتبع غيره فيما اختلف فيه رأيهما, بل على كل واحد
منهما أن يعمل باجتهاده.
4- والقيد الوحيد الذي يرد على هذا
الاجتهاد حين تدعو الحاجة إليه, أو على الاختيار الذي يرجح في النظر الصحيح, هو أن
يكون لما نذهب إليه (دليل من أصول الشريعة ونصوصها), أو أن يكون قولنا مما (تقبله تلك الأصول
وتحتمله النصوص), لا مما (يأباه) أي منهما أو (يرده).
5- إن واجب كل جيل أن يكون له فقهه الذي
يفهم به النصوص –مطبقاً إياها أو مستنبطاً منها-, ويؤدي به واجبه نحو الالتزام بها.
إن أسلافنا الذين أدوا هذا
الواجب خير أداء قد برئت منه ذممهم .. ولكن ذمة جيلنا لا تبرأ بالوقوف عند
أقوالهم, وإنما تبرأ بأن نصنع مثلما صنعوا.
صحابها ظانين احتكارهم
للحقيقة وحدهم, وامتلاكهم –دون غ
ثانياً
1- الاجتهاد معناه بذل الجهد العقلي
والفكري في التعرف على الحكم الشرعي لما ينطرح من مسائل.
2- والعقول متفاوتة في استخلاص المعاني
من النصوص, ومتفاوتة في إدراك المصالح والمفاسد, والمنافع والمضار .. وهي –لذلك- تصل
–في الوقت الواحد- إلى نتائج متباينة, مع كونها تنظر في مرجعية واحدة –هي الكتاب
والسنة- , وترمي إلى تحقيق هدف واحد –هو تحصيل المصلحة ودرء المفسدة-.
3- ومن ثم, فالخلاف الذي يقع لهذه الأسباب لا ضرر
فيه, ولا بأس على الناس منه.
4- وإنما الضرر, كل الضرر, هو في التعصب
للآراء والأفكار والمذاهب تعصباً يجعل أصحابها ظانين احتكارهم للحقيقة وحدهم,
وامتلاكهم –دون غيرهم- مفاتيح الحكمة؛ فهم المصيبون دائماً, وغيرهم المخطئ على طول
الخط .. منكرين على الناس اختلاف الرأي مع كونه فطرة, ومنكرين عليهم حرية التعبير
عنه مع أنه حق أزلي, بل ومنكرين عليهم التعاون على بيانه مع كونه أمراً ربانياً.
5- ألا فليعلم الجميع أنه ليس في مذاهب
الفكر التي عرفها البشر مذهب غير الإسلام يجعل البيان واجباً -ولو كان خطأ- ,
ويثيب عليه –ولو لم يصادف الصواب-؛ إذ كاتم العلم –في الإسلام- آثم, ومبينه مأجور
أجرين إن أصاب, وأجراً واحداً إن أخطأ
..
ومن ثم, فليس لأحد –في
منطق الإسلام- من القادرين على النظر وإعمال العقل حجة عند الله, ولا عند الناس,
إن هو قلد وتابع وأهمل عقله وفكره ..
ومن ثم, كان النظر في
القرآن والسنة, وفي أصول الفقه وعلوم الحديث –نظراً لا يقوم على تقليد السابقين-
هو الطريق الوحيد للوصول إلى (فقه جديد) يُصلح أحوال هذه الأمة ويقيلها من عثراتها.
6/1/1- أما أن نقيد أنقسنا بكتابات
الأقدمين؛ ننقل منها, ونصدر عنها, ونجعلها أصولاً يقاس عليها ويعتبر بها, مكتفين
بالإحالة إليها وكأنها هي الوحي المعصوم, تنزيل من حكيم عليم؛ فنجمد على آرائهم
دون نظر في صجتها أو خطئها, ودون بحث في مدى قوة دليلها أو ضعفه .. كل ذلك غير
جائز؛ لأن هذه الكتابات إنما تعبر عن واقع عصور من كتبوها, فتصف هذا الواقع بما
فهموه من حقيقته, وتحكم عليه بمقدار ما اجتهدوا في فهم أصول الإسلام –إن كانوا
مؤهلين للاجتهاد-, أو بمقدار كا فهموا من اجتهادات أسلافهم في فهم هذه الأصول –إن
كانوا مقلدين-.
6/1/2- .. وهل يعقل –على سبيل المثال- أن
يظل المسلمون يحتكمون ويرجعون –في علاقاتهم بغير المسلمين من مواطنيهم- إلى أفكار
وأراء صيغت –بمقدار ما فهم أصحابها من أصول الإسلام- لتناسب (حال الحرب) التي كانت سائدة في
وقت ما, بعد أن مضت على (الحياة المتآخية) و(العيش الواحد) بين الفريقين قرون ؟!
6/1/3- .. وهل يعقل كذلك أن يظل المسلمون
أسرى ما قاله سلافهم في وصف نظم الحكم التي كانت سائدة لديهم؛ وهي كلها نظم فردية
محورها هو الحاكم : الذي تدين له بالطاعة, وتستمد منه القوة, سائر السلطات
والهيئات والأفراد ؟!
6/2- إن إبداء الرأي في مسائل شديدة
الخطورة والحساسية -في حياتنا الثقافية والسياسية والدينية- بمجرد نقل ما قرره
الأقدمون من أحكام اجتهدوا فيها أو قلدوا من سبقهم في تقريرها : لهو سوأة فكرية
وعقلية تسود لها الوجوه؛ إذ كثير من هذه الأحكام مبني –كما نوهنا سابقاً- على واقع
العصر الذي تقرر فيه, أو مبني على عرف بلد و قوم بعينهم, أو على تعميم نص خاص, أو
على إطلاق حكم مقيد, أو غير ذلك مما ينبغي النظر فيه نظراً جديداً متحرراً من
رِبقة التقليد وسلطان النقل .. مع النظر في القرآن والسنة نظرة الاجتهاد الذي يحقق
مصالح الناس ويحفظها .. عاقدين القِران بين (حقائق الدين) و(واقع الناس الذي لا
يستقر على حال) على النحو الذي يزاوج بين (ثوابت الشرع) و(متغيرات الزمان
والمكان), لا على النحو الذي نُصدر به (طبعة جديدة من الإسلام) كما هو غرض
الحداثيين؛ متخذين من شعار (تطوير الفقه) مطية لجعله (فقهاً تبريرياً) يسوغ الواقع
الفاسد والعادات المستوردة, مبقياً الناس على ما هم عليه من فساد عمل, أو سوء
سلوك, أو مخالفة صريحة أو خفية لنصوص الشريعة وصحيح الفقه؛ بحيث لا يغير التزامهم
الإسلامي المزعوم شيئاً من الأوضاع التي ألفوها أو الوسائل التي تعودوا عليها,
بدلاً من العودة بالفقه إلى سابق عهده –أيام عهود الإسلام الزاهرة- : هادياً للناس
إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة, ومقرباً الشرع من الخلق, وميسراً حياتهم في
ظلاله.
7- وجماع الأمر كله أن الاجتهاد باقٍ ما
بقي الإسلام نفسه .. ولا يملك أحد منع من استكمل التأهل له من ممارسته .. والشرط في ذلك
أن يكون (الدليل الرائد) للمجتهد هي القرآن والسنة بمقاصدهما وقواعدهما, أما غير ذلك فهو (تَبَع) لهما, لا
(مقابل) ولا (نظير) ولا (قسيم)؛ ليبقى الإطار الإسلامي التشريعي حاكماً لحركة
المسلمين, وليعود الفقه قائداً هادياً بانياً لحياتهم وفق أحكام الشريعة المنصوصة
والمستنبطة.
ثالثاً
يظن البعض أن "وجود
(مجامع للفقه) يمنع المجتهدين الأفراد من إبداء آرائهم الاجتهادية, وأن كل مسالة
تحتاج إلى اجتهاد فيها يجب أن تحال إلى مجمع من هذه المجامع لكي يبحثها أعضاؤه,
يبدوا رأيهم فيها, وبه –لا بغيره- يكون الإفتاء بعد ذلك " .. فأقول
وبالله التوفيق :
1/1- أما وجود المجامع فهو ضرورة؛ لأنها
تطور (الفقه الإسلامي)؛ فتجعله (نهراً فكرياً) يصب فيه عشرات العقول, بدلاً من فكر عقل
واحد .. ووجود هذا (الفقه الجماعي) من شأنه أن يقرب الآراء, وأن يزيد الثقة بما
يصدر عن مجموعها .. وهذا لا يجحد فائدته عقل سوي.
1/2- ولكن هذا لا يمنع أن يكون كل واحد
من أعضاء هذه المجامع عقلاً مستقلاً, وفقيهاً مستقلاً .. بل لا يصح أن يوجد في هذه
المجامع إلا القادر على البحث العلمي, ومن ثم : الاجتهاد, ومن ثم : الإفتاء وإبداء
الرأي.
2- وهذا لا يمنع, بل ولا يجوز له أن
يمنع, الفقيه الفرد القادر على الاجتهاد من إبداء رأيه؛ إذ المنع -عندي- خطأ وخطر :
1/1- خطأ؛ لأن الاجتهاد الذي أمر به
الإسلام (واجب) على القادر عليه, المؤهل له, وليس مجرد (حق) له يمارسه إن شاء, أو ينزل عنه إن
أراد, أو يُمنَع منه إن قرر الناس ذلك.
إن المجتهد لا يحل له أن يكتم علمه, ولا أن يمنع من
إبدائه, ولا أن يقلد غيره .. والأمر بالاجتهاد أمر يعمل بعمل مضمون الأجر –مرتين
لمن أصاب, ومرة لمن أخطأ- .. ولم يكن ذلك –والله أعلم- إلا لتشجيع العلماء على البيان ..
وفي مقابل ذلك كان الآيات والأحاديث المخوفة من كتمان العلم؛ للترهيب من سكوت
العلماء عند الحاجة إلى الجهر بالرأي أو الصدع بالحق.
1/2- وخطأ –أيضاً-؛ لأنه يحرم الأمة من ثمرات قرائح
علماء مجتهدين ليسوا بأعضاء في هذه المجامع –دون خوض في بيان كيفية الحصول على هذه
العضوية- .. ولا أحد ينكر, بل ولا يمكن له أن ينكر, وجود علماء فطاحل, بل ومجتهدين
مستقلين, خارج هذه المجامع .. فكيف يجوز حرمان هؤلاء من أداء واجب البيان
والتبليغ, وحرمان الأمة من الاستفادة من علمهم وعملهم ؟!
2- وخطر؛ لأن الحظر على العلماء
المجتهدين –خارج هذه المجامع-, والقول بأن لدينا مرجعية واحدة –هي ما يصدر عن هذه
المجامع- من شأنه أن يحول الإسلام إلى كهنوت .. والإسلام لا كهنوت فيه, ولا يجوز
أن نسمح بتحويله إلى كهنوت.
3- والخلاصة أني مع وجود المجامع الفقهية
.. ولكني ضد تحويلها إلى, بل وضد إيجاد, مرجعية واحدة ووحيدة للفتوى –أياً كانت
تلك المرجعية- .. ومع الذين بسمحون بالاجتهاد والإفتاء لكل عالم مؤهل التأهيل
الصحيح؛ أعني: عالماً بالقرآن والسنة, ومطلعاً اطلاعاً واسعاً على أقوال القدماء
والمعاصرين, وقادراً على فهم الواقع فهماً دقيقاً –بمعنى تمتعه بالذكاء والفطنة ..
وهي هبة يعطيها الله لمن يشاء- .. فهذا العالم –بهذه المواصفات- إذا أوتي الإنصاف
والإخلاص, لا يجوز لأحد قط أن يمنعه من الاجتهاد والإفتاء.
المصادر والمراجع
1- الفقه الإسلامي في طريق التجديد,
العلامة القانوني والفقيه المجتهد د/ محمد سليم العوا, ص (39, 235, 63, 82, 55,
54, 86, 66, 65, 42, هامش 105, 60, 45,
50- 51), ط 3, 2006م, دار سفير الدولية للنشر- القاهرة.
2- حوار
أجراه موقع إسلام أون لاين مع د/ محمد سليم العوا, في 6/6/2007م.
3- في فقه الاجتهاد والتجديد - دراسة
تأصيلية تطبيقية, يحيى رضا جاد, تقديم د/ محمد عمارة, دار السلام - القاهرة (سوف
يتوافر قريباً إن شاء الله).