عماد حسن
الخليج، الشارقة، 11/11/2010
تظل علاقة"إسرائيل" مع أي دولة في العالم مثار جدل وريبة، ناهيك عن علاقتها بدولةداخل المنظومة العربية أو الجوار الإفريقي، فالاستنكار والانتقاد يحلانمحل الجدل والريبة . والمحاولات "الإسرائيلية" لاختراق السودان قديمة،وباءت جميعها بالفشل، حتى تسعينيات القرن الماضي، ولا تعلق بالذاكرةالسودانية سوى حادثة الفلاشا الشهيرة إبان حكم الرئيس السابق جعفر نميري،وهي القصة المعروفة بترحيل عدد من الإثيوبين "الفلاشا" من معسكرات نزوحشرق السودان إلى الكيان الصهيوني .
بعد تلك الحادثة لم تظهر "إسرائيل" على الخريطة السودانية إلا لماماً، وفيإطار تصريحات كيدية متبادلة، حتى علاقات الحركات المسلحة في دارفورب"إسرائيل" لم تخرج عن سياق المكايدات السياسية، حتى اكتشف الجميع أن"إسرائيل" حقيقة ماثلة في جنوب وغرب السودان، وطالت أياديها الخطوط الحمروالمحظورات في "منفستو" الحياة السودانية .
ظل الحديث عن علاقة الجنوب السوداني ب"إسرائيل" مجرد تكهنات، حتى رحب وزيرالإعلام بحكومة الجنوب، برنابا بنجامين، صراحة بإقامة علاقات جيدة مع"إسرائيل"، وقال في حديث سابق ل "الخليج": "سيقيم الجنوب المستقل علاقاتمع كل دول العالم، ولن نعادي أحداً، وللعلاقات الدولية أجندة على رأسهاالاعتراف بالحكومات الناشئة، وأية دولة تعترف بنا سنقيم معها علاقات،ومثلما توجد علاقات دبلوماسية لبعض الدول العربية مع "إسرائيل"، فلماذانحن لا"؟
لاحقاً، أعلن سلفاكير ميارديت رئيس حكومة الجنوب صراحة، أنه لا يستبعد فتحسفارة ل "إسرائيل" وإقامة علاقات بعد الانفصال، ويرى أن "إسرائيل" عدوللفلسطينيين فقط، وليست عدواً للجنوب . وقبله أعلن أموس يادلين الرئيسالسابق للاستخبارات العسكرية في الكيان الصهيوني إنجاز عمل عظيم للغاية فيجنوب السودان، من خلال تنظيم خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية وتدريبالعديد منها، والقيام بأعمال لوجستية، ونشر شبكات في الجنوب ودارفور،والإشراف حالياً على تنظيم الحركة الشعبية وتشكيل جهاز أمني استخباري لها .
بيد أن النفي القاطع والمتكرر من قيادات الحركة الشعبية لتلك العلاقة يكشفأن لعنة "إسرائيل" إذا ما التصقت بجهة ما فإنها تخسر كثيراً، وهذا ماأدركه قياديو الجنوب، ولو آنياً، لحين وقوع الانفصال وعندها لكل حادث حديث. غير أن نفي العلاقة لا يحقق مصداقية عدم وجودها على أرض الواقع، وبالأمسالقريب أعلنت تقارير أن عشرات الآلاف من قوات الأمم المتحدة يستخدمونالفنادق بالجنوب التي يسيطر عليها "إسرائيليون" قدموا مع تدشين اتفاقيةسلام الجنوب في 2005 . ووفقاً لبعض الإحصاءات يوجد في كل مدن جنوب السودانقرابة 45 فندقاً، و9 نزل صغيرة، و13 مخيماً، يسيطر على أغلبها بشكل غيرمباشر قياديون من الحركة الشعبية ويوفرون لها الحماية . فيما قالتالتقارير إن الوجود "الإسرائيلي" في منطقة حوض النيل وجنوب السودان ليسمجرد صدفة، برغم أنه يدر مئات الملايين من الدولارات على الصهاينة، فمنجهة هو يوفر لهم أداة قوية لرصد كل المعلومات والأحداث التي تدور فيالمنطقة، ومن جهة أخرى يضع يدهم على منطقة مهمة في مسار مياه نهر النيل.
اليد "الإسرائيلية"
وترتفع تحذيرات من أن "إسرائيل" ستجعل من الجنوب قاعدة جديدة للاعتداء علىالإسلام والمسلمين في إفريقيا، وأن انفصال الجنوب سيجعل "إسرائيل" قريبةجداً من أكثر من بلد عربي، وستكون لها القدرة على التحكم في بعض مياهالنيل، والضغط من خلالها لتحقيق مصالحها، بل إن استطلاع أجراه المركزالعربي الأوروبي أكد أن المطالبة بانفصال الجنوب تأتي ضمن سياق مخططأمريكي صهيوني، وهو التكتيك الجديد في الحرب على المنطقة العربية، أيتقسيم الدول .
وتبدو التحذيرات أكثر حدة حينما يقول مراقب لقد وضع سلفاكير النقاط فوقالحروف، ولم يدع لاحتمالات حسن النوايا أي نصيب في تفكيرنا، وهو إذ يكشفسوءته بهذه الطريقة، إنما يوضح الهدف ويكشف للجميع عن المموّل والداعمالرئيس لحزبه، منذ عهد جون قرنق . ف"إسرائيل" هي التي سلّحت ودعمت وموّلت،وبنفوذها الأخطبوطي تسعى للانتقال لمرحلة متقدمة من خطتها، أي فصل الجنوبرسمياً، وافتتاح سفارة تكون بمثابة قاعدة لنشاطاتها الاستخباراتية، وبقيةما تسعى إليه من حملات تعطيش للسودان ومصر، واستخدام العنصر الإفريقي لضربالعرب والمسلمين .
وقد انفتحت شهية "إسرائيل" على السودان منذ وقت طويل، عندما تكررت اللازمةالدعائية بأن السودان الذي يحتل مساحة كبيرة (مليون ميل مربع) هو سلة غذاءالعالم، فشحذت "إسرائيل" أسلحتها، ووقفت بكل قوة وراء دعاوى انفصالالجنوب، لتضع قدمها هناك وتبدأ مسيرة استخباراتية لاستعمار من نوع جديدلكل ثرواته المعدنية والزراعية والحيوانية . وقبل كل ذلك للهيمنة على مياهالنيل من جهة منابعه، بعدما فشلت محاولاتها عند نهايات جريانه ومصبه .يقول مراقبون إن الجنوب كان في الأجندة "الإسرائيلية"، وتلقى مساعدات ودعممنذ أن بدأت قياداته الذهاب إلى "إسرائيل"، بدءاً من مؤسس الحركة الشعبيةلتحرير السودان جون قرنق، ومروراً بقيادات الوسط ومسؤولي المخابرات منبعده . ويرى كثيرون أن العلاقة بين الجنوب و"إسرائيل" استفادت من تهميشهاوتقليل دورها من قبل القيادات الشمالية، بل إن استبعاد احتمال حدوثها جعلتلك العلاقة تترعرع في صمت وسرية، حتى بدأت المجاهرة بها تأخذ حيزاً فيقاموس الخلافات والاتهامات المتبادلة بين الشريكين .
مخططات "إسرائيل" السرية لم تعد كذلك، حيث صاحبت الكشف عنها تحذيرات كثيرمن المراقبين من خطورتها على الأمن العربي، وأمن مصر على وجه الخصوص، وقدكشفت اجتماعات عقدت في تل أبيب بين أعضاء بالكنيست "الإسرائيلي" ووزراءإثيوبيين، أنه تم بحث إقامة مشاريع مشتركة عند منابع نهر النيل، لحجزالمياه، وتوليد الكهرباء، وضبط حركة المياه باتجاه السودان ومصر، وذلكبهدف إشغال مصر في قضية تمس أمنها القومي وهي قضية المياه . وكشف في حينهاعن وعد "إسرائيلي" للحكومة الإثيوبية بمعونة مالية تفوق المئتي مليوندولار، بالإضافة لمعدات حربية وأسلحة ثقيلة، وتهدف "إسرائيل" من دعممشروعات إثيوبيا المائية، إضعاف وضرب مصر اقتصادياً، كما أنها لعبت دوراًكبيراً مع دول حوض النيل لنقض المعاهدة الدولية التي تنظم توزيع مياهالنيل .
وفي مخطط "إسرائيلي" آخر، كشفت تقارير بثها موقع "ديبكا" الاستخباري"الإسرائيلي" في وقت سابق، نقلاً عن مصادر استخباراتية إفريقية، عن وجودنشاط وتعاون محموم بين أجهزة المخابرات الأمريكية و"الإسرائيلية"والفرنسية، لتنفيذ مخطط يهدف إلى تقسيم السودان إلى ثلاث دويلات، (دولةالسودان الإسلامية، ودولة دارفور، ودولة في الجنوب)، وأشارت التقارير إلىأن أجهزة المخابرات المذكورة تعمل حالياً على تفكيك السلطة المركزية عبرعملاء داخليين وحركات متمردة .
ولمزيد من إلقاء الضوء، كشف يوسي ميلمان، الخبير الاستخباري "الإسرائيلي"،عن قيام تل أبيب بعمليات استخبارية داخل دولة إريتريا من بينها عملياتتتعلق بعدد من الدول العربية، على رأسها مصر والسودان واليمن . واعتبرميلمان، في تقرير له في صحيفة "هآرتس" التي يعمل فيها محللاً للشؤونالأمنية، عدم تعيين سفير لتل أبيب بإريتريا حتى الآن، أمراً خطيراً،مشيراً الى أن إريتريا من أهم الدول الاستراتيجية لسياسة تل أبيبالخارجية، موضحاً أن إريتريا كانت ومازالت منطقة تجمع لعدد من العملياتالسرية للمخابرات "الإسرائيلية"، ونقطة مراقبة لعدد من الدول العربيةالمجاورة، وعلى رأسها اليمن ومصر والسودان، علاوة على أنها مركز لطرقالبحر الأحمر وإيلات .
يقول القيادي الإسلامي والمفكر الأكاديمي البارز، الدكتور حسن مكي، إن"إسرائيل" هددت أمن الشمال بما فيه الكفاية . ويشير إلى أن التهديد مازالحاضراً وماثلاً . ويضيف مكي في حوار إعلامي إن الجنوب بالنسبة ل "إسرائيل"يمثل الدجاجة التي تبيض ذهباً . الآن "إسرائيل" موجودة في الفنادق بالجنوبوتبيض ذهباً للشركات اليهودية، و"إسرائيل" كذلك موجودة في شمال السودان،فحينما هجّرت "الفلاشا" لم تهجّرهم من الجنوب، وإنما هجرتهم من الخرطوم،وهي موجودة في السفارة الأمريكية، وموجودة وحاضرة في وكالات الإغاثةوالأمم المتحدة، وفي كثير من الأجهزة . ويؤكد مكي، أن العلاقة بين قادةالجنوب و"إسرائيل" لم تنقطع أصلاً، ولم يكن آخرها مذكرات جوزيف لاقووالمخضرمين من قيادات الحركة الشعبية، فكل المساعدات السابقة كانت تأتي من"إسرائيل" والآن بعض حركات دارفور لها مكاتب في "إسرائيل" .
ورداً على سؤال حول أطروحات بعض الإسلاميين عن إمكانية إقامة علاقاتسياسية مع "إسرائيل"، وهل ما زالت مثل هذه الأفكار موجودة وتنفيذهاممكناً، يقول مكي إن الرئيس الفلسطيني الأسبق ياسر عرفات ربما يكون مثالاًفي هذا الموضوع، اختار الحوار مع "إسرائيل"، وكان يريد قيام دولة علمانية،ولتحقيق هذا الهدف دخل مفاوضات أوسلو، وفي النهاية مات مسموماً، الآن مصرأجبرت على بناء الجدار الفولاذي بينها وبين غزة كعمل تكتيكي لتأجيلمعاركها مع "إسرائيل" وأمريكا .
ويضيف مكي المتخصص في شؤون القرن الإفريقي أن هناك دولاً أقامت علاقات مع"إسرائيل" وأجلت أمر المواجهة معها، ودولاً أخرى أقامت علاقات داخلية مثلبعض دول الخليج، بعضها لديها قنصليات، واستعادت علاقات قوية مع اللوبياتاليهودية ورجال الأعمال، وآخرون أقاموا علاقات دبلوماسية كما الحالبالنسبة لمصر والأردن، لكن هذا لا يعني أن إقامة العلاقات مع "إسرائيل"تنهي المشكلات . ويؤكد مكي أن مصر بدأت تنتبه إلى أن الطوق لن يكون في عنقالشمال وإنما سيشملها، لأن دولة جنوب السودان ستفتح ملف مياه النيلوتتحالف مع إثيوبيا وتصبح الدولة الخامسة في مفوضية مياه النيل، وبهذهالصورة ستكون دولة الجنوب مهدداً لأمن مصر القومي والاستراتيجي .
ويتوقع مراقبون أن تهبط طائرات الخطوط الجوية "الإسرائيلية" مطلع ديسمبر/كانون الأول المقبل بمطار جوبا، لتخرج علاقة الحركة الشعبية ب "إسرائيل"إلى العلن كترجمة واقعية للعلاقات المعلنة بينهما، ويشير المراقبون إلى أنالاعتراف "الإسرائيلي" بالعلاقة بحكومة الجنوب (الحركة الشعبية) وارد فيكتاب من مئة صفحة، صدر في العام الماضي عن "مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسطوإفريقيا"، التابع لجامعة تل أبيب . عنوان الكتاب هو: ("إسرائيل" وحركةتحرير جنوب السودان نقطة البداية ومرحلة الانطلاق) . ومؤلفه ضابط سابق(عميد متقاعد)، تبين معلوماته أنه وثيق الصلة بدوائر القرار في المخابرات"الإسرائيلية" الموساد، اسمه موشي فرجي . وأهمية الكتاب تكمن في أمرين،أولهما أنه يشرح بالتفصيل الدور الكبير الذي قامت به المخابرات"الإسرائيلية" في مساندة حركة تحرير الجنوب، سواء على صعيد الإمدادبالسلاح والخبراء والمال، أو حشد التأييد الدبلوماسي والسياسي لمصلحتها .الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية أو خطورة أنه يشرح على وجه الخصوصبالتفصيل أيضاً استراتيجية "إسرائيل" لإضعاف العالم العربي بوجه عام .
وتبقى "إسرائيل" واحدة من المهددات التي تضرب السودان من جنوبه المنفصللاحقاً، لكنها تشكل الأخطر بأجندتها المعروفة وايديولوجيتها المرعبة، التيلا تراعي ذمة، وتبقى التحذيرات من الأرضية الخصبة التي ستجدها هناك، دولةضعيفة ووليدة ستتحالف مع الشيطان لثبت للعالم مقدرتها على دارة دولتهاوالعيش بعيداً عن الشمال، كما يبقى الإنصات إلى الأصوات التي بدأت تعلوخلال الأسبوعين الماضيين، مشفقة من حرب ايديولوجية تنطلق شرارتها هذهالمرة من جنوب السودان، بمعاونة ومساندة غربية، للنيل من العرب وعقيدتهم،ليس في الشمال فحسب، بل في كل المنطقة العربية والإفريقية المجاورةللسودان، وتظل المخاوف مبررة وفقاً لتاريخ الصراع العربي "الإسرائيلي"،والذي ستستفيد "إسرائيل" هذه المرة من مقدرات وثروات أرض بكر مثل جنوبالسودان، ولن تخسر شيئاً سوى جهد إدارة هذه المقدرات وتسويقها وتجييرهالمصالحها .