يوسف باشا القره مانلي (القره ماللي) (1766 - 1838). المعروف ب يوسف باشا أو باشا طرابلس (1795 -1832) وهو أشهر شخصية في سلالة القره ماللي التي حكمت (طرابلس) في ليبيا الحالية (1711 - 1835). وعرف باعتباره أول رئيس دولة يعلن الحرب على الولايات المتحدة المستقلة حديثا في حرب استمرت بين عامي (1801 - 1805).
تولي العرش
يوسف سليل عائلة القره مانلي، ويرجع أصل الاسم إلى مدينة كرمان جنوب قونية تركيا. انتزع الحكم من أخيه حسن بعد أن قتله في دار أمه التي دعتهما للصلح بينهما، وبعد أن هرب أخيه أحمد الأولى بالحكم خوفا علي حياته عام 1793.
الحروب البربرية (الطرابلسية)
وتعرف أيضا بالحروب الطرابلسية. ويرجع اسم البربرية إلى شمال أفريقيا نسبة للسكان الأمازيغ وتضم طرابلس(ليبيا) وتونس والجزائر وهي الدول التي كانت تتمتع بشبه استقلال عن الامبراطورية العثمانية.
كانت الأساطيل الليبية والجزائرية تقوم بحماية السفن التجارية التي تعمل في البحر المتوسط مقابل رسوم تدفع لها من قبل الدول الأوروبية لحماية سفنها من القراصنة الذين كانو يجوبون البحر المتوسط. فقد كانت بريطانيا تدفع سنويا 600 جنية للخزانة الجزائرية، وتقدم الدانمارك مهمات حربية وآلات قيمتها 4 آلاف ريال شنكو كل عام مصحوبة بالهدايا النفيسة.
أما هولندا فكانت تدفع 600 جنيه، ومملكة صقلية 4 آلاف ريال، ومملكة سردينيا 6 آلاف جنيه، والولايات المتحدة الأمريكية تقدم آلات ومهمات حربية قيمتها 4 آلاف ريال و10 آلاف ريال أخرى نقدا مصحوبة بهدايا قيمة، وتبعث فرنسا بهدايا ثمينة عند تغيير قناصلها، وتقدم البرتغال هدايا من أحسن الأصناف، وتورد السويد والنرويج كل سنة آلات وذخائر بحرية بمبالغ كبيرة، وتدفع مدينتا هانوفر وبرن بألمانيا 600 جنيه إنجليزي، وتقدم أسبانيا أنفس الهدايا سنويا.
في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدأت السفن الأمريكية بعد أن استقلت أمريكا عن إنجلترا سنة 1776 ترفع أعلامها لأول مرة سنة 1783م، وتجوب البحار والمحيطات. وقد تعرض البحارة الجزائريون لسفن الولايات المتحدة، فاستولوا على إحدى سفنها في مياه قادش، وذلك في يوليو 1785 م، ثم ما لبثوا أن استولوا على إحدى عشرة سفينة أخرى تخص الولايات المتحدة الأمريكية وساقوها إلى السواحل الجزائرية.
ولما كانت الولايات المتحدة عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، وكانت تحتاج إلى سنوات طويلة لبناء أسطول بحري يستطيع أن يواجه الأسطول العثماني اضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في 5 سبتمبر 1795 م، وقد تضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية، وهذه الوثيقة هي المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنجليزية ووقعت عليها الولايات المتحدة الأمريكية خلال تاريخها الذي يتجاوز قرنين من الزمان، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها.
وقع جورج واشنطون أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية معاهدة صلح مع بكلر حسن والي الجزائر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بمقتضاها تدفع إلى الجزائر على الفور 642 ألف دولار ذهبي، و1200 ليرة عثمانية، وذلك مقابل أن تطلق الجزائر سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين لديها، وألا تتعرض لأي سفينة أمريكية تبحر في البحر المتوسط أو في المحيط الأطلسي.
على الرغم من امتناع ليبيا من مهاجمة سفن الولايات المتحدة طيلة عام كامل إلا أنها لم تحصل على إتاوة سنوية مجزية، إسوة بحكام الجزائر وتونس. وقد حاول الإنجليز استغلال هذه النقطة ؛ للثأر من عدوتهم اللدودة (أمريكا) وذلك من خلال الإيحاء للباشا بإعادة النظر في شروط المعاهدة مع الولايات المتحدة عبر قنصلهم في طرابلس الغرب "لوكاس". وقد زاد من تفجر غضب الباشا الوضع الاقتصادي الصعب في البلاد ونقص الأموال اللازمة للانفاق على الجيش والجهاز الإداري. كان جيش القرمانلي ينظم في العادة من بين المرتزقة، ويجمع الجيش بالدرجة الأولى من القولوغلية والانكشارية المقيميين في طرابلس، بالإضافة إلى الكتائب المسلحة المشكلة من بين القبائل الصديقة للباشا. وكان القولوغلية يشكلون الركيزة الأساسية للجيش. ويقدم رؤساء تجمعات القولوغلية العدد المطلوب من الجند لقاء الإعفاء من الضرائب وبدلا لامتيازات أخرى. وقد كان بوسع يوسف القرمانلي، أن يجمع جيشا يضم 10 آلاف خيال، و40 ألفا من المشاة. أما بالنسبة للكتائب المقاتلة، فكانت تستخدم بصورة ناجحة في الحملات التأديبية ضد القبائل، التي تكون في حالة عداء مع القبيلة الموالية لحاكم الولاية. أما الانكشارية فكانوا يثبتون أركان الجيش من خلال كونهم المقاتلين المتخصصين، وما كانوا يقاتلون ببراعة إلا عند التعويض المادي الجيد على خدماتهم. أما أسطول الولاية فلم يكن القوة المطلوب منها حماية البلاد من العدوان الخارجي بقدر ما كان القوة التي تؤكد هيبة الإيالة والمنبع المهم لتحصيل الأموال، التي كانت ضرورية جدا من أجل إثراء الصفوة الحاكمة العليا، والانفاق على الجيش وعلى النظام الحاكم بمجموعه. وكان يشمل على 20 سفينة مجهزة تجهيزا عسكريا جيدا ببحارتها البالغ عددهم حوالي الـ 1000. وإلى جانب الجيش كان ليوسف باشا فرق نظامية خاصة، تدعى (الشاويشية) لمهمة الحفاظ على القصر والمدينة، وكان يخدم فيها الانكشارية والمسيحيون الذين اعتنقوا الإسلام، بالإضافة إلى الزنوج الذين أعتقوا من العبودية
الأسطول السادس
أرسلت الولايات المتحدة أسطولها الحربي إلى البحر المتوسط، وكان يدخل في عداده فرقاطتان جهزت كل منهما بـ44 مدفعا، وهما (بريزيدينت) و(فيلادلفيا)، وواحدة صغيرة مجهزة بـ32 مدفعا هي (إيسكس)، وأخرى شراعية مجهزة بـ12 مدفعا هي (انتربرايز). كان رئيس الجمهورية "توماس جيفرسون"، الذي باشر للتو أعماله الرئاسية كثالث رئيس للولايات المتحدة، يأمل بإرسال أفضل قواته إلى البحر المتوسط ؛ كي تعزز هذه القوة من هيبة الولايات المتحدة في المنطقة. "سوف نلقن هذا الأبله، ـ ويقصد حاكم طرابلس ـ درسا لن ينساه في فنون القتال". قال الرئيس موجها كلامه لنائبه ووزير دفاعه في مكتبه الرئاسي. "وسنجعله نصرا مدويا ندشن به حقبة جديدة لأسطولنا وتواجدنا العسكري في أكثر مناطق العالم حيوية، وبهذا أيها السادة نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو بناء الامبراطورية الأمريكية" واصل جيفرسون حديثه بنبرة لا تخلو من الثقة المفرطة بالنفس، مطلا بعينيه الزرقاوين عبر النافذة على حديقة القصر، وقد أضفى لون شعره الرمادي على شخصيته هيبة وجلالا.
صدر إلى الأميرال "ريتشارد ديل" بقيادة هذه الحملة، والتوجه إلى البحر المتوسط ؛ لإلقاء الرعب في قلوب حكام الشمال الأفريقي، وإيجاد موطئ قدم للامبراطورية الجديدة. لقد كان انتقاء مدروسا بعناية، ذاك القرار الذي تم بموجبه تسمية هذا الأميرال ؛ أحد أبطال حرب الاستقلال، والذي يتمتع بخبرة واسعة في مجال البحرية العسكرية. ناهيك عن علاقته الحميمة بالرئيس جيفرسون، إذ ينحدر كلاهما من بلدة "فيرجينيا". ودّع الأميرال ديل ذو الخامسة والأربعين عاما زوجته وولديه وداعا حميما، ثم انطلق على صدر الفرقاطة فيلادلفيا صحبة رفاقه وجنوده.
في 1801، طلب يوسف زيادة الرسوم المدفوعة إلى 225،000 دولار من الرئيس الامريكى توماس جيفرسون. ولكن الرئيس جيفرسون المنتخب حديثا والواثق في قدرة الولايات المتحدة والقوة البحرية الأمريكية المنشأة حديثاً في حمايه السفن الأمريكية تجاهل هذه المطالب.
في 6 فبراير 1802، شرَع الكونغرس قانونا" لحماية التجارة الأمريكية وبحارة الولايات المتحدة من خطر في رمز شرفهم الوطني، عندما أمر في 14 مايو 1801 جنوده بأن يحطموا سارية العلم الأمريكي القائمة أمام القنصلية الأمريكية في طرابلس، إشارة إلى إعلان الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية. انطلقت بعدها الطرادات الليبية التابعة للبحرية الليبية التي كان قائدها الرايس مراد تجوب البحر بحثا عن السفن الأمريكية للاستيلاء على غنائمها وإجبار حكومة واشنطن على دفع جزية سنوية مجزية.
قام القنصل الأمريكي في طرابلس بمقابلة الباشا يوسف القرملي عارضا احتجاج دولته الرسمي على الإهانة التي لحقت بالعلم الأمريكي، وطلب اعادة البضائع التي سلبت من السفن الأمريكية. فقال له الباشا: «أيها القنصل لا توجد أمة أريد معها الصلح مثل أمتكم، وكل دول العالم تدفع لي ويجب أن تدفع لي أمتكم. فقال القنصل: «لقد دفعنا لك كل ما تعهدنا به إليك ولسنا مدينين بشيء !. فرد الباشا متهكما: «في ما يتعلق بالسلام قمتم فعلا بدفع اللازم، أما في ما يتعلق بالمحافظة على السلام فلم تدفعوا شيئا». لقد كان يوسف القراملي يرى بحس قرصان عظيم انه يتعامل مع أمة أسسها قراصنة مخادعون!
كان وقع حرق العلم الأمريكي على قلب القنصل كوقع الصاعقة، واشتط غضبا حينما وصله خطاب الباشا، يأمره بمغادرة البلاد فورا. كانت الأجواء مشحونة والنفوس معبأة بفيض من الكراهية ومشاعر الانتقام من الجانبين. ولم يستطع القنصل فعل أي شيء سوى تمزيق معاهدة السلام والصداقة، التي وقّعها مع طرابلس الغرب سنة 1796، وعند حلول المساء، طفق المنادون يجوبون الشوارع ؛ قارعين طبول الحرب، فيما شرعت المآذن تلهب حماس الناس بآيات من الذكر الحكيم، تحرضهم على قتال الصليبيين. وخلال عشرة أيام بالضبط بعد الحادث، غادر القنصل الأمريكي "كاثكارت" طرابلس صحبة أسرته عبر البر متجها إلى تونس. وهكذا يكون الباشا قد دق بالفعل أجراس الحرب، التي لم يسمع قائد الأسطول الأمريكي "ديل" بأصدائها إلا في الـ30 من يونيو، وذلك عندما دخل جبل طارق للتزود بالمؤن. وهلع ديل مما سمع، إذ لم يكن يتوقع أن تجري الأمور بكل هذه السرعة. وصدرت الأوامر منه على الفور بإغراق وحرق وتدمير أكبر عدد من المراكب الطرابلسية، التي من المحتمل أن تواجههم في عرض المتوسط.
أسطول أمريكي في ميناء طرابلس:
تبدأ قصة اليوم في 14/05/1801 حينما قرر الحاكم الليبي آنذاك يوسف
عبد الحكيم عامر الطويل
القرمانلي - خامس حكام عائلة القرمانلي الليبية التي حكمت ليبيا شبه ذاتياً عن السلطنة العثمانية من 1711 إلى 1835 - قَطْع العلائق الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بعد رفض سفنها دفع رسوم مرورها بأمان أمام الشواطئ الليبية مثلما تفعل سائر سفن الدول الصديقة آنذاك، كان من فصول هذه الأزمة محاصرة أول أسطول أمريكي عسكري لميناء طرابلس في أول مهمة له في المتوسط، كما أنه نواة للأسطول الأمريكي السادس وبداية تواجده الدائم في المتوسط الذي لم يتوقف إلى الآن!
أما أشهر نتائج هذا الحصار فقد كان نجاح البحرية الليبية يوم 31/10/1803 في أسر أكبر قِطَع هذا الأسطول (فيلادلفيا) سليمة مع كامل الـ300 أحياء دون أن يمسسهم جرح فيما اعتبره الأمريكيون أضخم كارثة في تاريخ بحرية الأسطول الأمريكي قبل كارثة ميناء اللؤلؤة PEARL HARBOR في الحرب العالمية الثانية
إحتلال طرابلس:
وحينما فشل الأسطول الأمريكي في تحقيق أيٍ من أهدافه - بما فيها إطلاق سراح أسراه بعد أن مر على وجودهم في طرابلس سنة كاملة - قررت الولايات المتحدة غزو ليبيا من حدودها الشرقية لاستبدال حاكمها بآخر موال لها، ولم تجد الحكومة الأمريكية أفضل من أحمد القرمانلي ليقوم بهذا الدور، فهو شقيق يوسف، هرب إلى مصر وانضم لحكامها الفعليين - المماليك - كضابط رفيع بعد أن نَحَّاه شقيقه عن السلطة بخدعة
أما من قاد العملية العسكرية لهذه الخطة فصاحب فكرتها ذاته: وليام إيتون WILLIAM EATON، نقيب سابق في فوج المشاة الأمريكي الرابع U.S. FOURTH INFANTRY REGIMENT ورجل استخبارات سابق ثم أول قناصل الولايات المتحدة في تونس، لكنه كان وكيل عام البحرية الأمريكية في الولايات المغاربية United States naval agent to the Barbary States عند قيادته لهذه العملية
يوم 26/11/1804 وصل إيتون الإسكندرية على متن إحدى السفن الأمريكية المحاصرة لطرابلس، بعد 70 يوماً منهكة بالمفاوضات والرحلات الصحراوية المضنية نجح في لقاء أحمد سراً في أحد بيوت قرية دمنهور، في هذه المقابلة عيَّن أحمد إيتون قائداً عاماً للجيش الليبي برتبة مُشير GENERAL، الرتبة التي اعتَرَفَت بها شرفياً فيما بعد الحكومة الأمريكية وظل يحملها لآخر عمره! في هذه الجلسة أيضاً إتفقا على أن يتوجهوا في جيش يعبر الصحراء لاحتلال طرابلس بعد احتلال درنة، أكبر المدن الليبية بعد مصر آنذاك
ما أن انتهوا من وضع خطتهما حتى انتقل أحمد إلى غرب ميناء الإسكندرية بنحو 48 كلم والتحق به أنصاره هناك فيما سافر إيتون فوراً إلى الإسكندرية للاتصال بآمر السفينة الأمريكية التي جلبته والتي لازالت راسية هناك ليطلعه على ما اتفقا عليه والبدء في تجهيز جيش الحملة، طلب 100 رجل، إلا أنه لم يزوده إلا بالملازم بريسلي نيفايل أوبانون PRESLEY NEVILLE O’BANNON وكبير ضباط الصف MIDSHIPMAN باسكال باولي بيك و6 جنود! متحججاً بأنهم كل ما يمكنه أن يستغني عنه من رجاله القليلين أصلاً
لكن أحمد كان أكثر حظاً، فقد نجح في جمع مرتزقة من 10 جنسيات!: إنـچليز وألمان وإيطاليون وأسبان ويونان إضافة إلى ليبيين ومصريين وشاميين وألبان وأتراك، ومع فرسان وجمَّالين تشكل جيش من نحو 400 رجل ترافقهم قافلة من 107 جمل وحمار!
معركة درنة
مع الساعة الـ11 من صباح يوم 08/03/1805 تحرك هذا الجيش في رحلة إجتمع فيها أكثر مما يُعْرَف من عراقيل الرحلات الصحراوية! فبالإضافة إلى رمالها الحارقة وزوابعها وشح ماءها وقلة طعامها هطلت أمطار نهاية الشتاء بغزارة!، كما وقعت أكثر من مناوشة ما بين رجال هذا الجيش هددت بالقضاء على الحملة، إلا أنه بعد شهر ونصف، يوم 24/04/1805 بالتحديد كان جيش المعارضة على مشارف "درنة"، هناك رأى إيتون أن يبدأ بالسياسة، فأرسل لحاكم درنة وابن عم الحاكم الليبي ذاته مصطفى بِك درنة رسالة يطلب فيها الاستسلام جاء فيها: "... لا تجعل اختلاف الدين يغريك بسفك دماء هؤلاء الرجال المسالمين (!!)، إلا أن الجواب جاءه مختصر جداً مُذَيَّلاً على ذات الرسالة: رأسي أو رأسك! وهكذا بدأت معركة درنة
العَلَم الأمريكي فوق درنة
كر في هذه المعركة وفر أحد الطرفين تبادلياً لأكثر من مرة إلا أن جيش أحمد وإيتون نجح أخيراً في احتلال المدينة، هنا تقدم الملازم أوبانون وأنزل من على قصر حاكمها علم طرابلس ليرفع بدلاً عنه العلم الأمريكي! (مع أن هدف هذه الحملة لم يكن ضمها إلى الولايات المتحدة بقدر ما كان إعانة الليبيين في إزالة حاكمهم واستبداله بحاكم آخر يُكَرِّس الديمقراطية ويحترم حقوق الإنسان إذا استخدمنا مصطلحات الإدارة الأمريكية هذه الأيام!)
لكن فرحة أحمد العارمة بهذا النصر لم تترك له مجال للتفكير في هذه المفارقة، وفي غمرة انفعاله إستل سيفه الشخصي وقدمه هدية شخصية للملازم أوبانون، في تلك اللحظات لم يكن أحمد يعرف أنه أمام شخصية سيسجلها التاريخ الأمريكي بعمق، فـ أوبانون هذا صار أول مواطن أمريكي يرفع العلم الأمريكي على أرض غير أمريكية كما أكد ذلك نص شاهد قبره ذاته، إلا أنه لا شك في أن أحمد كان ليصدم بشدة لو قيل له إن احتلالُ درنة هذا هو أول عملية عسكرية تنفذها المارينز في تاريخها منذ حرب انفصال بلادها عن بريطانيا!
مقاومة مزدوجة لم تُذْكَر
لقد كتبت صحيفة أمريكية خبر عن هذا الاحتلال تصفه بأنه أول انتصار تاريخي على أهل شمال أفريقيا منذ نهاية الاحتلال الروماني، إلا أنها لم تُشر إلى أن الحاكم الليبي قاومه بطريقة مزدوجة: أرسل جيشه سريعاً إلى درنة، وعرض في ذات الوقت على الأمريكيين تخفيض قيمة فدية أسراهم في طرابلس ورسوم المرور أمام شواطئها مقابل إيقاف عمليتهم البرية وفتح صفحة جديدة ما بين البلدين، وكان أن تحققت كل أهدافه!:
1. أعاد له الأمريكيين أسراه
2. قبض فارق إبدالهم بأسراه الأمريكيين الـ300 نقداً (مع تخفيض بسيط في القيمة التي كان يطالب بها!)
3. استمر في استلام رسوم مرور السفن الأمريكية الآمن أمام الشواطئ الليبية (مع تخفيض بسيط في قيمتها!)
4. رفرف العلم الأمريكي مرة أخرى على القنصلية الأمريكية في طرابلس وكأن شيء لم يحدث ما بين البلدين
5. هرب شقيقه "أحمد" مرة أخرى إلى مصر
6. صدرت الأوامر إلى "إيتون" بالانسحاب فوراً من "درنة" والعودة للوطن
تحويل الهزيمة إلى نصر:
مع ذلك فقادة المارينز لم يعتبروا عمليتهم الدرناوية هذه فاشلة، إذ خلَّدوا ذكراها 7 مرات:
1. بطل درنة:
لقبوا الملازم أوبانن بلقب بطل درنة HERO OF DERNE الذي ظل يحمله حتى ما بعد وفاته، إذ نُقِش لقبه هذا ولازال منقوشاً على شاهد قبره حتى هذه اللحظات
2. ثلاث سفن أوبانون:
كأن هذا التشريف لا يكفي عمدت البحرية الأمريكية إلى إطلاق اسم أوبانون - قائد مفرزة المارينز التي احتلت درنة - بالتعاقب على 3 سفن أمريكية مقاتلة آخرها بُنِيَت سنة 1975 ولازالت قيد الخدمة
3. طرابلس في نشيد المارينز:
ذكروا اسم ليبيا القديم طرابلس في ثاني أسطر نشيدهم الذي لازال يردده رجال هذه القوات إلى اليوم
4. شارع درنة في بوسطن:
أطلقوا اسم درنة على إحدى شوارع عاصمة وأكبر مدن ولاية ماساشوستس: مدينة بوسطن، إذ أن في ميناءها بُنِيَت السفينة كونستيتيوشن CONSTITUTION (الدستور) كإحدى 6 قطع شكلت أول أسطول أمريكي، كما قَصَفَت طرابلس عدة مرات أثناء حصارها لها وأصابتها نيران طرابلس عدة مرات كذلك، ثم وُقِّعَت معاهدة السلام بين البلدين بداخلها يوم 03/06/1805 وأعادت بعد ذلك أسرى طرابلس الأمريكيين إلى بلدهم، واليوم هي راسية في دارها القديمة لبناء وإصلاح السفن، كأقدم سفينة حربية في العالم لازالت حية قرب شارع درنة!
5. تَبَنِّي سيف أحمد:
تَبَنِّوا سيف أحمد القرمانلي رسمياً منذ 25/04/1825، إذ لازال ضباط المارينز (لا ضباط الصف NON COMMISSIONED OFFICERS الذين يحملون سيف آخر غير ليبي) يتمنطقون نسخة منه كجزء من بذلتهم الاحتفالية دون أن ينكروا أصله الليبي! إذ أن هذا الأصل مذكور حتى في موقع هذه القوات على شبكة المعلومات الدولية
يتميز هذا السيف عن كل سيوف ضباط الجيش الأمريكي الأخرى التي تُرْتَدَى ضمن البذلات الاحتفالية بتقوس مقبضه إلى الداخل إذ أنه نوع عريق من السيوف تطور تدريجياً من سيوف القبائل البدوية في وسط آسيا على رأسهم بالطبع المغول MONGOL حتى وصل إلى شكل انفردت به لوحدها السيوف الإسلامية يتميز بشفرة حادة واحدة مُقَوَّسة عمداً إلى الخارج لإعطاء زخم أكبر لتقنية الشطب التي كان يمارسها فرسان المسلمين
يُسمِّي العرب هذا النوع من السيوف الشَمْشير وهي كلمة فارسية تعني حرفياً مُقَوَّس كظِفر النمر، في الفترة العثمانية عُرِف باسم الكيليدج KILIJ وهي كلمة تركية تعني سيف إلا أنها صارت تعني السيف ذي المقبض HILT الذي ينتهي برمانة بَصْلية الشكل BULBOUS POMMEL، كسيف أحمد المذكور
ومع أن ضباط المارينز لا ينكرون أصله الليبي كما ذكرت إلا أنهم يسمونه السيف المملوكي MAMELUKE في وراثة تقليدية للتسمية التي يطلقها ضباط الجيش البريطاني عليه طالما أن أوائل رجال الجيش الأمريكي كانوا جزء منه! فأول تعارف للبريطانيين مع هذا السيف كان أثناء حملتهم ضد مصر في القرن 19م، في تلك الأثناء كان المماليك MAMELUKES لازالوا حكام مصر الفعليين بالرغم من أن مصر صارت من الناحية الرسمية تتبع السلطنة العثمانية منذ 1517م، وبما أن أحمد القرمانلي كان قد لجأ إلى مصر واستقر هناك وتحصل على رتبة عسكرية كبيرة ما بين المماليك ليس غريباً أن يكون سلاحه سيف مملوكي كذلك
لكن الصفة الرسمية الثانية لسيف المارينز أكثر قوة وشهرة، إنه: أقدم سلاح أمريكي لازال يستخدم بلا انقطاع حتى الآن من بين كل أسلحة الجيوش الأمريكية اليوم! Oldest continuously used weapon in the
military arsenal
إن كل نسخة منه مصنوعة يدوياً بمواصفات صارمة تجعله أفخر السيوف المصنوعة على مستوى العالم:
· مقبضه ذو وجه لدن عاجي اللون مصقول يدوياً
· مثبت ببراغي "نجمية الشكل" من النحاس المسبوك المطلي بالذهب عيار 24
· حافة فتحة عُقدة السيف من النحاس المسبوك المطلي بالذهب عيار 24
· واقي المقبض من النحاس المسبوك المطلي بالذهب عيار 24
· نصل السيف من الصلب الذي لا يصدأ ومزخرف بدقة
· غمده من الصلب الذي لا يصدأ مطلي بالنيكل ومصقول يدوياً
· نهاية الغمد من النحاس المسبوك المطلي بالذهب عيار 24
· حاملتا الغمد من النحاس المسبوك المطلي بالذهب عيار 24
نهاية العائلة القرمنلية
مع حلول عام 1819، وبعد معاهدات الحروب النابليونية اضطرت الولايات البربرية (ليبيا، تونس والجزائر) التخلي عن القرصنه كلياً تقريبا، وبدا والاقتصاد في طرابلس ينهار. مما اضطر يوسف لمحاولة التعويض عن فقدان الدخل عن طريق تشجيع تجارة الرق عبر الصحراء، ولكن ازدياد المطالبة بالغاء الرق في أوروبا وبدرجه أقل في الولايات المتحدة، عطل مشاريع الباشا لانقاذ الاقتصاد في طرابلس. مما اضعف من قوة الباشا يوسف وازدياد القلاقل والثورات الشعبية فاضطر يوسف للتنحى في 1832 لصالح ابنه علي الثاني. ثم ارسل السلطان العثماني محمود الثاني قوات لاستعادة النظام، وانهاء حكم القراماللي في ليبيا.