من غير مقدمات هندخل بالجزء التانى من المالات على طول
مسألة أمن قومي(2).. ذلك القادم من الشرق"إن من يسيطر في المعركة على تقاطع الطرق يصبح سيد الأرض".
نابوليون بونابارت
"دولة إسرائيل قد قامت فوق جزء من أرض إسرائيل".
ديفيد بن جوريون
"إن حدود إسرائيل الدولة هي المسافة التي يستطيع أن يصل إليها السلاح الإسرائيلي".
السياسة العسكرية الإسرائيلية *****لو تأملنا تلك العبارات الثلاث بالشكل الكافي لعرفنا لماذا يكون شأن فلسطين والشام شأنًا مصريًا خالصًا؛ فتلك المنطقة -بالذات فلسطين- هي "تقاطع الطرق" التي تحدّث عنها نابوليون بونابارت, وهي جزء من "أرض إسرائيل" التي قال ابن جوريون إن "دولة إسرائيل" تقع عليه؛ ذلك الجزء الذي يشمل المساحة الشاسعة الممتدة من النيل للفرات، والتي أثبت التاريخ إمكانية وصول السلاح الإسرائيلي إليها بالغزو أو بالإغارة.
جملة اعتراضية للتاريخوالمسألة هنا غير مرهونة بالوجود الإسرائيلي فقط؛ فالأنظمة الحاكمة لمصر -منذ أقدم العصور- اهتمت دومًا بالشام كجزء من نطاق الأمن القومي المصري؛ فأولاً: طالما لعبت تلك المنطقة -التي تشمل حدودنا الشرقية وما حولها- دور الممر والمدخل لمختلف الغزوات المؤثرة في التاريخ المصري, الآشورية والفارسية واليونانية والعربية والصليبية والعثمانية, وثانيًا: حَرِص القادة بعيدو النظر على أن ينقلوا إليها المعارك المتصدية للأخطار الموجّهة لمصر؛ بحيث تكون المسافة بعيدة بين أرض المعركة والعمق المصري, بدا هذا واضحًا في العصور القديمة عندما حارب رمسيس الثاني الحيثيين في قادش (العراق), وخروج تحتمس الثالث للتصدي لأعدائه في مَجِدّو (الشام) , وكذلك في العصور الوسيطة في ذهاب الجيش المصري المملوكي لمحاربة المغول في عين جالوت بفلسطين ومحاولات المماليك وقف زحف العثمانيين على مصر بالخروج لمحاربتهم بالشام. والحرص المستمر لأغلب من حكموا مصر في تاريخها الطويل على وضع الشام تحت اليد المصرية ينبغي أن يستفزّ تفكيرنا لمعرفة "لماذا هذا السعي الشديد منهم لذلك؟" فالدولة البطلمية خاضت أعتى الحروب ضد شقيقتها السلوقية في سوريا في سباق على ضم منطقة فلسطين ولبنان, والفاطميون في مصر عاشوا سنوات من الصراع مع العباسيين في العراق لضم نفس المنطقة, والمماليك ضموها فعليًا واعتبروها جزءًا من الدولة الواحدة, ومحمد علي سعى لنفس الشيء. وتكرار نفس السياسة على ذلك المدى الزمني الطويل من حكام مشهود لهم بالحنكة والبراعة, هو أمر يدعو للنظر والتفكير والثقة بأن جهودهم تلك لم تكن اعتباطية أو مجرد طمع في مجد عسكري. إذن فالمبدأ نفسه يُلَخَّص في أمرين: الأول هو حرص أي نظام حاكم خبير على نقل معارك الوطن خارج نطاق أرضه, والثاني هو خلق نطاق واسع للأمن القومي لإضاعة عنصر المفاجأة على أي عدو يطرق أبواب الدولة من الخارج.
إسرائيل.. أمر واقع يدعو للتفكيروعودةً للأمر الواقع -فالمفروض ألا ينفصل تفكيرنا عنه ولا ينفصل هو عن أفكارنا- يوجد أمر واقع يقول إن بجوارنا بالملاصقة دولة معادية؛ بغضّ النظر عن أية اتفاقيات أو معاهدات أو تعاونات؛ فهي أمور أبرمتها "أنظمة" مع "أنظمة أخرى" لتقرر "خلق وضع جديد", أي أن ذلك الوضع الجديد جاء طارئًا على وضع أقدم لا يمكن إنهاؤه بضغطة زرّ.
السياسة الأمنية الإسرائيلية تؤكد ضرورة نقل معارك إسرائيل خارج العمق الإسرائيلي
وليكون كلامي أوضح؛ فلننظر لتلك النقاط المتعلقة بإسرائيل:
1- إسرائيل دولة قامت على "الإحلال", أي طرد شعب مقيم والاستيلاء على أرضه ليحلّ شعب جديد عليها، لم تقم إذن بالاندماج بين دولتين أو بالانفصال من دولة عن دولة, ولكن بـ"الحلول" الذي لا يتمّ إلا باستخدام العنف واغتصاب الحقوق التاريخية للشعب المقيم, وكذلك لا يرتبط بأرض معيّنة يتوقف عندها؛ بل بأقصى ما يستطيع السلاح الوصول إليه!
2- السياسة الأمنية الإسرائيلية تؤكد ضرورة نقل معارك إسرائيل خارج العمق الإسرائيلي, والمبادرة بالضربة الاستباقية للخصم المتوقّع مهاجمته للمصالح الإسرائيلية, وكلا الأمرين يعنيان أن تسمية الجيش الإسرائيلي بـ"جيش الدفاع" هي تسمية تمويهية؛ فهو في حقيقة الأمر "جيش هجوم" لا يعتمد تدخّله على الردّ على الهجوم بل على البدء به.
3- الدولة الإسرائيلية دولة وظيفية أي أن من وضعوها (الغرب) وضعوها لتلعب دور الوكيل لمصالح رعاتها في الشرق, وهذا لأن فكرة تجنيد أنظمة حاكمة عربية لصالح المصالح الغربية قد تكون ممكنة, ولكن ليست لها دائمًا الاستمرارية المطلوبة كوضع كيان يدين من البداية بالولاء للراعي الرئيسي له.
4- المنطقة التي تمّ زرع الكيان الصهيوني فيها لم تُختَر عبثًا؛ فهي منطقة "مفترق الطرق" التي تحدّث عنها نابليون, وهي تمثّل الطريق الوحيد المباشر بين جناحي الوطن العربي، الآسيوي والإفريقي؛ فضلاً عن سهولة وصول الدعم الخارجي لها من الدول الكبرى المؤيدة, عن طريق البحر أو الجو, لإطلالها على طريق مفتوح مباشرة نحو الغرب.
5- التيار القائل بأن دولة إسرائيل لا تضمّ حصريًا كل "أرض إسرائيل" ليس بالضعيف لا في المجتمع الإسرائيلي ولا في الأوساط المتعاطفة معه في الخارج, والاعتماد على بقاء الأنظمة الحاكمة في إسرائيل التي ترى عكس ذلك مراهنة خطرة؛ فالأنظمة تتبدل, والوضع قد ينقلب رأسًا على عقب, وعندها ستكون الكارثة.
المتأمل في تلك النقاط الخمس يدرك أن حالة "السلام" بيننا وبين إسرائيل ما هي إلا جملة اعتراضية في حالة العداوة التاريخية بينها وبين مصر؛ خاصة مع حقيقة أن السلام الآمن هو السلام القائم على رغبة الشعوب والأنظمة لا ذلك القائم على احتياج الأنظمة لحالة سلام, والمعاهدة بيننا وبين إسرائيل تنتمي للنوع الآخر؛ فبقاؤها مرتبط بلحظة إدراك الإسرائيليين أنهم لم يعودوا في حاجة للسلام مع مصر!
ما أشد خطورة الاطمئنان
نتيجة المعطيات السابقة
النتيجة ببساطة هي أن ثمة أمراً واقعاً يقول بوجود كيان معادٍ لنا في منطقة ما, العقل يقول إن علينا دائمًا أن نتعامل بحساسية شديدة مع كل ما يجري بتلك المنطقة وأن نعتبره شأننا الخاص؛ صحيح أن الرسميات تلزمنا بالحديث عن سيادة الدول وعدم تدخل دولة في داخليات دولة أخرى؛ ولكن دعونا نعترف أن تلك المنطقة منذ قديم الأزل لم تعرف هذا المبدأ بدرجة الصرامة التي يُمارَس بها في غيرها من مناطق العالم! ثم إن منطقة الشام بالذات طالما كان سقوطها في يد قوة ما نذيرًا بأن تتبعها مصر إن عاجلاً أو آجلاً, وتكرار الحال عبر التاريخ يعطيه قوة أشبه بقوة القواعد الفيزيائية.
خطورة الاطمئنان
للأسف، ثمة تقصير شديد -حاليًا- تجاه التعامل مع هذا الجانب، يتمثل في الاطمئنان الشديد إلى أن الكيان الصهيوني لن يقلب لنا ظهر المِجَنّ, مع تنامي عداء أكثر قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية تأثيرًا (حماس وحزب الله), وخصومة النظام السوري كله؛ مما يعني -ببساطة- تزايد خصوم مصر في المنطقة يومًا بعد يوم, بكل ما لهم من قاعدة شعبية ودعم خارجي، بل وتعاطف داخلي من بعض فئات الشعب المصري؛ الأمر الذي يجعل مصر في معزل حقيقي عن الواقع، ويُفقِدها ميزة وساطتها الحصرية بين مختلف الأطراف المتصارعة, ويهدد بجعلها عرضة لأية أعمال انتقامية من أية قوى طائشة قد تتطرف في تصنيفها -مصر- كدولة معادية!
من الطبيعي -والمفهوم- أن تكون لمصر خلافات مع هذا النظام أو ذاك, أو هذا الاتجاه أو ذاك؛ ولكن ما دمنا جميعًا في مركب واحد؛ فعلينا -بأي شكل- الوصول لنقطة تفاهم!
والجانب الآخر من التقصير يبدو بشدة في إهمال الجناح الآسيوي لمصر (سيناء) سواء بمقتضى الاتفاقية التي تقلَّص معها الوجود العسكري المصري في سيناء من 1000 دبابة إلى 30 فقط والقوات من 77 ألف فرد إلى 7000 فقط.
هذا فضلاً عن الإهمال الحكومي لسيناء من حيث المرافق والخدمات ومظاهر سيادة الدولة, ومعاملة بدوها وكأنهم رعايا "تحت الاحتلال".. وخلق حالة احتقان وعداوة منهم لوطنهم في عصر أصبح فيه النظام هو الدولة، والدولة هي النظام؛ مما يعني أن كلاً منهما سيؤخذ عند لحظة الانفجار بجريرة الآخر!
كل ذلك يضرب الجانب الشرقي من أمننا القومي بمِعْوَل صلب, ويهدد في أي وقت بكارثة حقيقية تأتينا من بوابة طالما أثبتت أنها الأصلح لغزو مصر!
ختام الجزء الثاني
هل عرف -عزيزي القارئ- إجابة ذلك السؤال: لماذا على مصر الاهتمام بالشأن الشامي (الفلسطيني – اللبناني - السوري) باعتباره شأنها الخاص؟!
حسنًا.. ماذا عن العراق والخليج؟(يُتبع)
مصادر المعلومات:1- الأيام الأخيرة: د.عبد الحليم قنديل.
2- العروش والجيوش: محمد حسنين هيكل.
3- سيناء شأن مصري آسيوي: د.رأفت الشيخ.
4- شخصية مصر: جمال حمدان.
5- الصهيونية والعنف: د.عبد الوهاب المسيري.
6- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: د.عبد الوهاب المسيري.
7- تاريخ تطور حدود مصر الشرقية: د.ألفت الخشاب.
8- تاريخ العرب الحديث: د.رأفت الشيخ.
9- تاريخ المماليك في مصر والشام: د.محمد سهيل طقوش.
10- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن.