الإمبراطورية الروسية ودور دبلوماسييها في استقلال مصر عن الدولة العثمانية يعود
تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين الإمبراطورية الروسية ومصر الى أكثر من
مئتين وخمسة وعشرين عاما عندما اصدرت الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية عام
1784 مرسوما يقضي بتعين كندراتي فون تونوس كأول قنصل روسي في الاسكندرية
ليضع حجر الأساس في بناء تاريخ طويل من العلاقات بين مصر وروسيا لا تزال
مستمرة ليومنا هذا .
بعثة البارون تونوسحكاية المصير المأساوي لاول قنصل روسي في مصر
تعتبر
السنة الجارية يوبيلية بالنسبة للعلاقات بين روسيا ومصر. وقد اصدرت
الامبراطورة الروسية يكاترينا الثانية قبل 225 عاما اي في عام 1785 مرسوما
بتعيين اول مبعوث رسمي روسي في مصر. وهو الموظف الروسي النمساوي الأصل
البارون كوندرات فون تونوس البالغ من العمر 35 سنة حيث امرته الامبراطورة
بان يذهب الى الاسكندرية ليكون قنصلا عاما لروسيا.
وقد اقيمت علاقات
بين المسؤولين في روسيا ومصر لاول مرة ابان الحرب الروسية التركية (1768 –
1774) حين دخلت السفن الروسية البحر الابيض المتوسط عبر مضيق جبل طارق
ووجدت نفسها في مؤخرة الامبراطورية العثمانية.
وكانت القاعدة الحربية
الروسية في جزيرة باروس اليونانية تستقطب ممثلي الشعوب المختلفة المضطهدة
من قبل السلطات العثمانية والتي كانت تعلق آمالها على السلاح الروسي في
مهمة التحرر من النير التركي. وبينهم مبعوثو الحاكم المصري علي بك الذي
أعلن عام 1768 استقلال مصر عن الامبراطورية العثمانية.
وكانت القوات
المصرية المدعومة من قبل الاسطول الروسي تخوض العمليات الحربية ضد
الاتراك. وبالرغم من ان علي بك الذي توفي في عام 1773 لم يتمكن من تحقيق
الاستقلال التام لبلاده فان سيطرة السلطة العثمانية على مصر ضعفت الى حد
كبير.
وقد نالت روسيا الحق بتعيين قنصل في اية مدينة في الامبراطورية
العثمانية بموجب معاهدة كوتشوك كينارجي عام 1774 التي ثبتت نتائج حرب
السنوات الست بين البلدين. لكن الاتراك كانوا خلال 10 سنوات يتملصون من
تنفيذ هذه المعاهدة. ولم يصل القناصل الروس الى مدن الامبراطورية
العثمانية الا بعد توقيع الاتفاقية التجارية بين الدولتين.
وجرت
العادة آنذاك ان يعين القناصل من اجل مصلحة التجارة الروسية فقط. لكن مصر
اصبحت استثناءا من هذه القاعدة. وكانت بعثة البارون تونوس سياسية وليست
تجارية. وأمل المصريون بالتحرر من الحكم العثماني. اما الروس فاعتبروهم
حلفاء لهم في حال نشوب حرب جديدة مع الاتراك.
وقد رفرف العلم الروسي
فوق مبنى القنصلية العامة الروسية في الاسكندرية في 27 يوليو/تموز عام
1785 . واندلعت الحرب بين روسيا وتركيا بعد سنتين.
وطالب الاتراك السلطات الروسية باستدعاء القناصل الروس من بضعة مدن تابعة لهم بما فيها الاسكندرية.
وقام
القنصل الروسي البارون تونوس في 19 سبتمبر/ايلول عام 1787 بانزال العلم
الروسي من فوق مبنى القنصلية الروسية وغادر البلاد . لكن بعثته لم تنته
بعد.
اذ كانت روسيا تنوي توجيه اسطولها الحربي الى المنطقة الشرقية للبحر الابيض المتوسط.
ورفع البارون تونوس الذي اقام بعد ذلك في ايطاليا تقريرا الى بطرسبورغ اشار فيه الى احتمال انفصال مصر عن الامبراطورية العثمانية.
وظهر
ان نيل مصر استقلالها يخدم مصالح روسيا. لذلك فان الامبراطورة الروسية
يكاترينا الثانية امرت بعد اطلاعها على تقرير تونوس باستدعائه الى
بطرسبورغ ، حيث تلقى امراً بالعودة الى مصر فورا وتسليم رسالة من
يكاترينا الثانية الى الحكام المصريين تعهدت لهم فيها بالدعم العسكري
الروسي في حال اقدامهم على الانتفاضة ضد الاتراك.
حضر البارون تونوس في
سبتمبر/ايلول عام 1788 سراً الى دمياط ثم توجه الى القاهرة حيث حضر هناك
اجتماع الديوان او مؤتمر وجهاء مصر. واطلعهم تونوس على رسالة الامبراطورة
الروسية، فاستمعوا اليها بانتباه. لكنهم لم يردوا عليها ، لانه لم تصل
بعد اليهم اية انباء عن وصول الاسطول الروسي. وجعل الحكام المصريون
القنصل الروسي يقيم في قلعة القاهرة وبدأوا في الانتظار. ولم يعرف البارون
تونوس والحكام المصريون نبأ نشوب الحرب بين روسيا والسويد في اغسطس/آب عام
1788، الامر الذي منع الاسطول الروسي من عبور بحر البلطيق والوصول الى
البحر الابيض المتوسط.
لم ترد اية انباء حول مصير البارون تونوس طيلة
سنة. ثم ورد نبأ موته. وبموجب المعلومات الواردة من الاسكندرية فان
الاتراك طلبوا من حكام مصر تسليم البارون تونوس اليهم. فقرر حكام مصر قتل
القنصل الروسي كيلا يتعرض للتعذيب و لا يطلع السلطات التركية في اسطنبول
على خطط الحرب الروسية المصرية المشتركة ضد الامبراطورية العثمانية.
ويعتقد ان ذلك حدث في 28 سبتمبر/ايلول عام 1789.
وهكذا تم طي اول صفحة للعلاقات الدولية بين روسيا ومصر.
فيما ادناه نص شهادة التفويض الامبراطوري التي منحتها كاترينا الثانية قنصلها العام في الاسكندريةنحن، بارادة الله، كاترينا الثانية امبراطورة وقيصرة روسيا وصاحبة الألقاب الاخرى
نبلغ كل من يهم الامر والجميع بما ينبغي العمل به:
انطلاقا
من الصداقة الطيبة التي تربط امبراطوريتنا بالباب العالي العثماني
واستنادا الى المعاهدات والاتفاقيات المعقودة بيننا وبينه، بما فيها
معاهدة السلام الموقعة عام 1774 والاتفاقية التجارية الموقعة عام 1783 قد
قررنا انه في منفعتنا ومصلحتنا ان نعين قنصلا عاماً لنا في الاسكندرية
وعموم مصر الخاضعة للباب العالي المذكور اعلاه، وذلك من اجل ان تنمو تجارة
رعايانا أكثر فاكثر ولكي يلقى رعايانا الذين يحضرون الى هناك لممارسة
اعمالهم الدعم والمعونة اللتين يحتاجون اليهما.
وبهذا الصدد فاننا نأمر
بأن يختار الرائد البارون كوندراتي تونوس لأداء واجباته ونخوله
بصلاحياتنا الامبراطورية. كما نبلغه بصدور مرسومنا بهذا الشأن ونقرر
تعيينه قنصلا عاما لروسيا في الاسكندرية وعموم مصر.
وبهذا الشأن نحيط علما بذلك جلالة السلطان وولاته والباشوات والحكام وعمدات المدن وغيرهم من المسؤولين العسكريين والمدنيين.
كما
اننا نرغب ونطالب بان يعترف بالرائد كوندراتي تونوس المذكور اعلاه بكونه
قنصلا عاما لنا ويسمح له بأداء واجباته في جو من الهدوء والحرية في سبيل
مصلحة قضيتنا ورعايانا ومن اجل ان يحظى بالحقوق والامتيازات والحريات التي
تتفق ووظيفته الى جانب غيره من القناصل العامين للشعوب الصديقة والمفضلة
في ولايات الباب العالي العثماني.
اما نحن من جانبنا فنتعهد بان نقدم في حالات مؤاتية ومشابهة لحالتنا المساعدة المتبادلة والامتيازات الممكنة.
ونشهد اننا قد ثبتنا تخويلنا بختم الدولة.
سلم في مدينة سانت بطرسبورغ يوم 1 ديسمبر/كانون الاول عام 1784 من قبل امبراطورتنا، وذلك في السنة الثالثة والعشرين لحكمها القيصري.
بعثة ألكسي لاغوفسكي لكن
أول قنصلية روسية أفتتحت بشكل فعلي في القاهرة يعود تاريخها إلى العام
1862 عندما أرسلت وزارة الخارجية خريج دائرة الشرق الاوسط الدبلوماسي
ألكسي لاغوفسكي في محاولة لتنشيط دور روسيا الامبراطورية في الشرق ،
وتحديدا من مصر التي كانت ولو بشكل غير رسمي لا تزال في حينها خاضعة
للسيطرة العثمانية مما جعل من عمل القنصلية في القاهرة امرا ذا أهمية
قصوى. فخلال فترات قصيرة وبنتيجة النجاحات التي حققها لاغوفسكي استطاعت
القنصلية الروسية توسيع نشاطها الدبلوماسي على الاراضي المصرية لتصل الى
مدن اخرى فبإضافة إلى توسيع عمل القنصلية في الإسكندرية تم إفتتاح مكاتب
إخرى في كل من بورسعيد والسويس والمنصورية والاسماعلية وغيرها من المدن
المصرية.
الدبلوماسية الروسية في مصر في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرينمع
تشكل الجمعية الروسية للملاحة والتجارة عام 1856 ودخول قناة السويس قيد
الخدمة، بدأت العلاقات الروسية المصرية تأخذ طابع التعاون في مجالات
عدة
بما فيها التعاون في مجال ري الاراضي والجيولوجيا والآثار والسياحة والطب
والثقافة. وشهدت تلك الفترة تبادل الزيارات لممثلين عن القيصر الكسندر
الثاني ومحمد علي الذي فتح بدوره نافذة للحوار السياسي ايضا مع
الإمبراطورية الروسية في حينها، تكللت فيما بعد بزيارة أخوة القيصر
ألكسندر الثالث الى مصر عام 1888 ونجليه نيقولاي (اخر امبراطور لروسيا
مستقبلا) وغيورغي في عام 1890ومن ثم الزيارة التي قام بها الخديوي عباس
قبل توليه مهمات السلطة إلى مدينة بطرسبورغ. وفي العام 1900 قام بزيارة
إلى مدينة أوديسا عندما كان متوجها إلى رومانيا. إلا أن الزيارة المهمة في
تاريخ العلاقات بين البلدين هي تلك التي قام بها محمد علي عام 1909 إلى
القوقاز ورحلته الشهيرة إلى سيبيريا في طريقه إلى اليابان.
وعلى الرغم
من كل هذه العلاقات المنفتحة على مصر فإن الدبلوماسية الروسية لم تنظر الى
مصر كدولة مستقلة، وذلك مراعاة لأعتبارات اخلاقية وادبية تجاه السلطان
التركي ولكنها كانت تدعم توجهات الشعب المصري للحصول على الاستقلال عن
السيطرة التركية والبريطانية. ونتيجة الدور الكبير الذي لعبه الكسي
سميرنوف كمبعوث وسفير للإمبراطور الروسي استطاعت مصر الحفاظ على القرار
السياسي الذاتي المستقل في إطار
الامبراطورية العثمانية واستمر الامر على هذا الحال حتى الحرب العالمية الاولى.
هذه
الحرب كانت بالنسبة للدبلوماسية الروسية تجربة جديدة لتثبت قدراتها على
تحمل مسؤوليتها أمام الامبراطورية، ولاسيما أن المعارك الطاحنة على جبهات
الحرب في فلسطين أوقعت المئات من الجنود الروس وكان على القنصلية استقبال
الأعداد الكبيرة من الضحايا والجرحى والمهجرين وقد نجحت في إنجاز هذه
المهمة الصعبة.
لكن لم تكن هذه هي المهمة الوحيدة التي وجب على
الدبلوماسين الروس وتحديدا سميرنوف مواجهتها، فالنشاط الملحوظ لمؤيدي ثورة
البلاشفة المتواجدين في مصر في حينها ونتيجة عدم الاستقرار السياسي فيها
والوجود الكبير للمهاجرين من أوروبا جعل من نشاط البلاشفة أمرا واقعيا كان
على القنصلية مواجهته، وقد نجحت في نهاية المطاف في طرد مجموعة كبيرة من
البلاشفة خارج الحدود المصرية، إلا أن انتصار ثورة أكتوبر في روسيا ووصول
البلاشفة الى الحكم وانهيار الامبراطورية حوَّلت سميرنوف وعددا كبير من
الدبلوماسيين الروس إلى مهاجرين نتيجة عدم انصياعهم لقرارات حكومة روسيا
السوفيتية آنذاك.
ان التقلبات السياسية التي عصفت بروسيا بعد انتصار
البلاشفة أثرت بشكل أو بآخر على العلاقات الدبلوماسية مع العالم ككل، لكن
العلاقات المصرية السوفيتية استؤنفت من جديد فقط في العام 1943 ومنذ ذلك
الحين تربط البلدين علاقات متميزه تسعى الحكومة المصرية لتحويلها الى
إستراتيجية والفضل في كل هذا يعود الى الدبلوماسيين الروس الأوائل الذين
وضعوا اللبنة الاولى في تاريخ العلاقات الروسية المصرية.قدم المعلومات :
ن . خوخلوف- القنصل العام لروسيا الاتحادية في الاسكندرية
غ. غورياتشكين - نائب القنصل العام لروسيا الاتحادية في الاسكندرية
(اعداد حسن نصر مراسل"روسيا اليوم")
نبذة عن العلاقات الروسية المصرية (1943-حتى اليوم)