موقف كويتي غريب
عبد الباري عطوان
نقف علي بعد بضعة ايام من الذكري الخامسة لاحتلال العراق من قبل القوات الامريكية، ولكننا لن نتحدث عنها اليوم، وانما عن موقف غريب ومفاجيء لوفدي العراق والكويت في مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي الذي يواصل جلساته في اربيل عاصمة اقليم كردستان العراق.
القصة بدأت عندما وصف السيد علي الجاروش رئيس وفد الجامعة العربية في المؤتمر العراق بانه بلد محتل ، الامر الذي اثار غضب كل من نائب رئيس البرلمان العراقي الشيخ خالد العطية، والسيد جاسم الخرافي رئيس البرلمان الكويتي، فبادرا بالاعتراض علي هذا التوصيف بشكل عنيف صاخب، وطالبا مندوب الجامعة العربية بسحب اقواله والاعتذار علنا عنها.
الشيخ العطية اكد ان العراق ليس دولة محتلة، والا لما كان له ان يستضيف هذا المؤتمر بحرية ودون اي قيود . وشدد ان العراق دولة مستقلة تتمتع بالسيادة الكاملة، وان وجود قوات اجنبية خاضع لاتفاقية امنية . اما السيد الخرافي فقد تساءل عن الاعتبارات التي استند اليها مندوب الجامعة في موقفه، ونفي علمه بصدور قرار عن الجامعة يصف العراق بانه محتل .
نفهم ان يعترض الشيخ العطية علي مندوب الجامعة العربية وتوصيفه للوضع في العراق، ويدافع كما يشاء عن حكومته والعملية السياسية الامريكية التي افرزتها وكل المؤسسات الاخري المماثلة مثل البرلمان، ولكن ما لا نفهمه هو موقف السيد الخرافي، وهجومه الشرس علي مندوب الجامعة العربية، ومطالبته بالتراجع والاعتذار عن اقواله، والتعهد بعدم تكرارها في المستقبل.
ومثلما يتساءل السيد الخرافي عن المعايير والمرجعيات التي استند اليها في اطلاق وصف المحتل علي العراق، فاننا نسأله في المقابل عن المعايير التي استند اليها هو نفسه في نفي صفة الاحتلال عن العراق. فإذا كان وجود مئة وسبعين الف جندي امريكي، و25 الفا من القوات المتعددة الجنسيات لا يمثل احتلالا، فما هو الاحتلال اذن؟
كنا نتوقع من السيد الخرافي الذي ذاق مرارة الاحتلال العراقي لبلاده، وانتقد العرب الآخرين، وخاصة الفلسطينيين منهم الذين اتهمهم بعدم التعاطف مع ابناء بلده اثناءه، ان يكون الاكثر جرأة وشجاعة في ادانة الاحتلال الامريكي، ومساندة كل الدعوات لإنهائه وسحب القوات الاجنبية من ارض العراق، او ان يلتزم الصمت وهو اضعف الايمان، ولكنه للأسف الشديد لم يفعل ووقع في تناقض غريب لم نرده له، خاصة انه يمثل برلمانا يمثل تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها في المنطقة.
مندوب الجامعة العربية السيد الجاروش استند الي التجربة الكويتية وموقف الجامعة العربية من احتلال القوات العراقية للكويت في توصيفه للحالة العراقية الراهنة، وهو قياس مشروع وقانوني ولا يمكن الجدل فيه.
لا يجادل احد في حق الكويتيين في كراهية النظام العراقي السابق، والرقص طربا لسقوطه ثأرا لاحتلاله لبلدهم، ولكن ما يمكن الجدل فيه هو امتداد هذا الحقد لمباركة اي خطوة امريكية، حتي لو جاءت غزوا واحتلالا لبلد عربي وتمزيق وحدته الترابية وقتل مليون من ابنائه وتشريد خمسة ملايين آخرين، وامتداح كل هذه المآسي والجرائم التي لحقت بالعراقيين والدفاع عنها بطريقة تفتقد الي ابسط قواعد العقل والمنطق.
السيد الجاروش مندوب الجامعة لم يخطئ، وكان يتحدث بلسان ثلاثمئة مليون عربي، واكثر من خمسة مليارات انسان في العالم، بمن فيهم الغالبية الساحقة من الامريكيين انفسهم، يعتبرون الوجود الامريكي في العراق احتلالا تسبب في تدمير هذا البلد وزعزعة استقرار العالم، وتوسيع دوائر العنف والارهاب فيه، وخلق ازمة اقتصادية عالمية، ورفع اسعار النفط الي اعلي معدلاتها علي الاطلاق (110 دولارات).
وربما يفيد تذكير السيد الخرافي والكثير من الاشقاء الكويتيين الذين يحملون الرأي نفسه، ان العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز وصف الوضع الراهن في العراق بانه احتلال، اثناء كلمته التي القاها خلال انعقاد القمة العربية في الرياض، ولم يخش مطلقا الغضب الامريكي، وكان شجاعا في تسمية الاشياء باسمائها دون خوف او وجل.
فهل كان العاهل السعودي بعثيا او متعاطفا مع النظام السابق عندما فاجأ الجميع بهذا الموقف، وهل كان اسمه مدرجا علي قوائم الذين تعاملوا مع كوبونات النفط وأيدوا المقابر الجماعية؟
العراق محتل، والولايات المتحدة الامريكية نفسها ذهبت الي الامم المتحدة طالبة الاعتراف بها كقوة احتلال، لإضفاء صيغة قانونية علي وضعها بعد غزوها لأراضيه، وهذا مثبت وموثق في ادبيات المنظمة الدولية ويمكن الرجوع اليه في اي لحظة، ونحن لا نكشف سرا في هذا الصدد.
ولا نعرف اين هي هذه السيادة التي يتحدث عنها الشيخ العطية في العراق حيث تسيطر الميليشيات الطائفية علي مقدرات البلاد، ولم يبق من الحكومة غير اسم رئيسها، وتمارس الشركات الامنية الاجنبية دور الدولة داخل الدولة، ترتكب المجازر في حق العراقيين وتتصرف وكأنها فوق القانون مطمئنة الي قوانين امريكية توفر لها الحصانة المطلقة.
الشيخ العطية يعلم جيدا ان السيادة التي تتمتع بها حكومته لا تمكنها من تسلم اي متهم من المتهمين من اعضاء النظام السابق المحكومين بالاعدام الا اذا قررت قوات الاحتلال ذلك، وربما تفيد الاشارة الي ان الرئيس العراقي نفسه وكذلك رئيس الوزراء لا يعلمان بموعد زيارة الرئيس الامريكي جورج بوش للعراق الا بعد دقائق من وصوله الي المنطقة الخضراء بحماية قوات المارينز.
الكويتيون لم يرحبوا بالغزو العراقي لبلادهم وشكلوا فرقا لمقاومته من ابناء البلاد الذين بقوا علي الارض ورفضوا المغادرة الي دول الجوار، والشيء نفسه فعله ويفعله العراقيون حاليا رغم الفارق الكبير في المقارنة، والا لماذا قتلت المقاومة العراقية اكثر من اربعة الاف جندي امريكي حتي الآن، وارسلت اكثر من ثلاثين الفا آخرين الي المستشفيات جرحي باصابات خطيرة وبعضها مقعد بالكامل.
الاحقاد علي النظام السابق من قبل البعض يجب ان لا تعميهم عن رؤية الحقيقة، والاعتراف بالخطأ، خاصة ان نتائج الاحتلال العراقي الكارثية باتت واضحة للجميع ولا تحتاج الي اثبات. العراق كله تحول الي مقبرة جماعية، وبات شعبه الكريم الأبي يتسول لقمة الخبز ويقف ساعات انتظارا لملء خزان سيارته بالبنزين وهو الذي يعوم علي احتياطي نفطي يزيد عن مئتي مليار برميل.
جميع الشعوب العربية النفطية تعيش حالة من الرخاء بسبب ارتفاع اسعار النفط باستثناء الشعب العراقي، من بقي منه في الوطن ومن غادر فاراً بحياته الي دول الجوار. قلة قليلة فقط من قادة الميليشيات واتباعهم ينعمون بالثروات النفطية في بلد اصبح يوصف بانه الاكثر فسادا في العالم.
لا نعتقد ان مندوب الجامعة العربية السيد الجاروش هو الذي يجب ان يعتذر ويسحب اقواله، وانما السيد الخرافي رئيس البرلمان الكويتي، اما الشيخ العطية فلا عتب عليه، فلولا الاحتلال وقواته لما تمكن من احتلال منصبه، وتمثيل بلد عريق مثل العراق.