هذا الموضوع منقول من موقع بص وطل وهو احد اجزاء موضوع يتحدث فيه الكاتب الكبير نبيل فاروق عن ما عاشره من احداث فى فترة مابين اندلاع الثوره حتى السادس من اكتوبر وهو احدث اجزاء السلسه
الموضوع يتحدث عن حالة السعب المصرى خلال الحرب وليس بشكل عسكرى ولا يمت للتاريخ بل هو رؤيه شخصيه فأحببت ان انقل اليكم كلامه ولتعرفوا شيئا عن عظمة الشعب المصرى
"
الفترة من نكسة 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973 كانت فترة مشتعلة سياسيا إلى حد كبير.. وبالذات في العام السابق للحرب..
كان السادات قد وعد بحسم المعركة قبل نهاية العام، ولكن المعركة لم تُحسم، ولم يبدُ حتى ما يوحي بهذا، لذا فقد ثار شباب الجامعات وتظاهروا غاضبين، وراح المجتمع كله يُطلق النكات على السادات ويصفه بصفات مُخزية، واحتمل هو هذا في صمت، وتعامل أمنه مع الموقف في عنف، وبدا واضحا للشارع المصري كله أن السادات ليس الرجل الذي يصلح لإصدار قرار الحرب، وأنه أميل للخنوع والاستسلام..
كان السادات يرتدي في كل فترة زيا ما، فهو قائد القوات البحرية تارة، والجوية تارة، والقائد الأعلى للجيش تارة أخرى، وسخر الناس من هذا أيضا، وتناقلوا نكتة تقول: إن ما ينقصه هو زي نسائي فحسب..
ومع نهاية صيف 1973 تضاعف شعور الكل باستحالة اندلاع الحرب، مع التراخي على الجبهة، وفتح الإجازات، وفتح باب العمرة والحجّ للضباط وجنود الصف، والإعلان عن قرب زيارة الأميرة البريطانية مارجريت..
وانشغل الناس بفضيحة صوامع القمح، ومشكلة انتشار التيتانوس في المستشفيات، وصار الإهمال والاستهتار هما حديث المجتمع كله، وجاء رمضان، فانشغل به الناس أكثر، وخاصة أنه جاء مشتركا مع دخول المدارس، في بداية أكتوبر، وبات من المؤكّد أن الكلّ منشغل بكل شيء..
إلا الحرب..
وفي ذلك اليوم، السادس من أكتوبر 1973م، عُدْت من المدرسة في الثانية كالمعتاد، وكان يوم سبت، وهو يوم صدور مجلة "تان تان"، فتلقّفتها في لهفة، ورحت أقرأها في شغف كالمعتاد، حتى عاد أبي قبيل موعده المعتاد..
كان يبدو منفعلا ومتحمّسا، وهو يخبرنا أن قواتنا قد عبرت القناة، وتشتبك مع العدو، على الضفة الشرقية لقناة السويس..
لم نتفاعل معه كثيرا، مع تجربة بيانات نكسة 1967 الكاذبة، ولكنه كان شديد الحماس، ففتح الراديو، وراح يتابع الأخبار في لهفة وانفعال.. وسمعنا كلنا البيان العظيم..
سمعنا أن قواتنا قد نجحت في عبور قناة السويس، واقتحمت خط بارليف المنيع في قطاعات عديدة، وأن العلم المصري قد ارتفع على الضفة الشرقية لقناة السويس..
وفور إذاعة البيان، شعرت وكأن إعصارا قد ضرب شارعنا فجأة.. بل ضرب مدينتي طنطا كلها..
ففي لحظة واحدة تقريبا انطلقت من كل الحناجر صرخة، لن أنساها ما حييت..
صرخة نصر طال انتظاره.. صرخة فرحة.. وسعادة.. وخلاص من ذلّ طويل..
الناس خرجت تعدو في الشوارع، وتهتف باسم مصر.. القلوب والنفوس والحناجر اشتعلت حماسا وفرحا..
أما أنا، فجسدي صار ينتفض لما يقرب من ساعة كاملة، مع فرحة أبي العارمة، وبكاء أمي السعيد، والاتصالات التي انهالت، والكل يهنئ الكل.. وتطوّرت البيانات والأمور في سرعة مدهشة.. وعلى عكس ما حدث عام 1967 كانت البيانات عاقلة قوية.. وصدّقها الناس دون مناقشة..
صدّقوها وهاموا بها، عندما أذاع التليفزيون مع غروب الشمس مشهد طوابير الأسرى، والكباري، وعبور قواتنا، ونقاط خط بارليف التي اقتحمناها، وسيطرنا عليها..
وجنّ جنون الناس في الشارع، وبلغت حماستهم أوْجَهَا، بعد ستّ سنوات من الشعور بالهزيمة والعار..
وعلى عكس ما حدث في نكسة يونيو 1967 كان الناس يصدّقون البيانات العسكرية، ويثقون فيها مائة في المائة، بل إن بعضهم تمادى فأكّد أن بياناتنا العسكرية تقلّل من الخسائر الإسرائيلية؛ حتى تقلّل من التعويضات الأمريكية لإسرائيل..
أما نحن كشباب فقد التهبنا بحماس ما بعده حماس.. كلنا تقريبا تطوّعنا في الدفاع المدني.. وكلنا بلا استثناء وقفنا في طوابير طويلة، للتبرّع بالدم..
كانت الدعوة للتبرّع بالدم قد بدأت، مع أوّل بيان عسكري، وقبل حتى أن ينتهي البيان كان الناس يتسابقون إلى مراكز التبرع بالدم، من أجل الجرحى والمصابين..
الروح الوطنية كانت في أوْج لم أشهد مثله، قبل أو بعد هذا..
حماس مدهش، لم أعِشْ به أو معه، لا قبلها ولا بعدها..
لقد تسابقنا كلنا إلى مراكز التبرّع بالدم، وكان كل منا يتبرع بنصف لتر من دمائه، ووفقا للمتّبَع كانوا يعطون المتبرِّع علبة من المربى المحفوظة..
وبمنتهى الشمم والإباء رفضنا أن نأخذ مقابلا لدمائنا، التي نهبُها للوطن، وطلبنا التبرّع بالعلب المحفوظة للجنود على الجبهة..
وتوالت البيانات ومشاهد التليفزيون، وسقط "عساف ياجوري" -قائد سرب مدرعات إسرائيلي- في الأسر، وجنّ جنوننا حماسا، وتساقطت الطائرات الإسرائيلية على الجبهة وفي وسط الدلتا، فوق مدينتي طنطا، بفضل صواريخ سام، والتي كانت واحدة من مفاجآت المعركة..
ولأوّل مرة في حياتنا، شاهدنا العدو الإسرائيلي ينهزم.. وشاهدنا جيشنا ينتصر.. كان انتصارا حقيقيا، لم تشهد مصر مثله منذ زمن طويل..
صحيح أن الإسرائيليين قد صنعوا تلك الثغرة في الدفرسوار، ولكنهم فشلوا تماما في دخول السويس الباسلة، التي اضطرتهم مقاومتها العنيفة إلى الانسحاب.. ثم كانت الهدنة.. وكان وقف إطلاق النار..
وفي مجلس الشعب ظهر السادات، في زي القائد الأعلى للقوات المسلحة، في مجلس الشعب الذي استقبله بتصفيق طويل، وأعلن بيان النصر، وراح يوزّع الأوسمة والنياشين على القادة..
ولأوّل مرة، منذ وفاة عبد الحكيم عامر أو اغتياله، تشهد مصر رتبة المشير مع أحمد إسماعيل..
وعلى الرغم من حضور الفريق سعد الشاذلي تلك الجلسة، فإنه تمّ عزله من منصبه بعدها؛ لخلافه مع السادات في أسلوب التعامل مع الثغرة
وعندما جاء الفريق الجمسي، كان الإسرائيليون على الضفة الغربية، وقواتنا على الضفة الشرقية لقناة السويس..
وبدأت المفاوضات على أرضنا، في الكيلو 101 من طريق السويس.. ولم يتزحزح حماس الشعب ملليمترا واحدا.. لقد انتصرنا.. وهذا يكفي..
وعندما عدنا إلى الدراسة كانت تلك هي الروح التي تسود الجميع.. وكان عصر جديد قد بدأ.. السادات انتصر، وصار أوّل زعيم عربي يهزم إسرائيل، ويحقق انتصارا تفخر به الأمة العربية كلها.. ولأوّل مرة، تآزرت الدول العربية كلها -باستثناء ليبيا- في مواجهة صريحة.. واكتسب السادات حب واحترام وإعجاب الشعب.. وتحوّل إلى أسطورة.."