تاريخ أكتوبر مليء بقصص البطولة الرائعة، التي لا نملّ منها مهما كررنا فيها، ومهما ذكرنا لها من أمثلة فإنها لا تنتهي؛ لأنها قصة تاريخ أمة بكاملها، وكما تناولنا بالأمس قصة صائدي دبابات العدو الذين برعوا في اقتناصها الواحدة تلو الأخرى، نعرض اليوم قصة عن بطل قدّم روحه فداء لبلده، وكان دائما مع جنوده يداً بيد، وكان بإمكانه أن يظلّ في الأمان، ويبعث بهم إلى الموت..
إننا نتحدث عن البطل أحمد حمدي الذي وُلد في 20 مايو عام 1929، وتخرّج في كلية الهندسة قسم الميكانيكا، وفي عام 1951 التحق بالقوات الجوية، ومنها نُقل إلى سلاح المهندسين عام 1954، وحصل على دورة القادة والأركان من أكاديمية "فرونز" العسكرية العليا بالاتحاد السوفيتي بدرجة امتياز.
في حرب 1956 وأثناء العدوان الثلاثي أظهر الشهيد أحمد حمدي بطولة واضحة، حينما فجّر بنفسه كوبري الفردان؛ حتى لا يتمكن العدو من المرور عليه، وكان صاحب فكرة إقامة نقاط للمراقبة على أبراج حديدية على الشاطئ الغربي للقناة بين الأشجار لمراقبة تحرّكات العدوّ، ولم تكن هناك سواتر ترابية أو أي وسيلة للمراقبة وقتها، وقد نفّذت هذه الفكرة، واختار هو مواقع الأبراج بنفسه.
وتولّى قيادة لواء المهندسين المخصّص لتنفيذ الأعمال الهندسية بالجيش الثاني، وكانت القاعدة المتينة لحرب أكتوبر 1973، وقد أسهم بنصيب كبير في إيجاد حل للساتر الترابي، وقام مع وحدات لوائه بعمل قطاع من الساتر الترابي في منطقة تدريبية، وأجرى عليه الكثير من التجارب التي ساعدت في النهاية في التوصل إلى الحل الذي استخدم فعلا.
وكان الشهيد اللواء أحمد حمدي ينتظر اللحظة التي يثأر فيها هو ورجاله بفارغ الصبر، وجاءت اللحظة التي ينتظرها الجميع، وعندما رأى جنود مصر الأبرار يندفعون نحو القناة، ويعبرونها في سباق نحو النصر أدرك البطل أن التدريبات التي قام بها مع أفراد وحدات الجيش الثالث الميداني على أعظم عمليات العبور وأعقدها في الحرب الحديثة قد أثمرت، تلك التدريبات التي أفرزت تلك العبقرية في تعامل الجنود مع أعظم مانع مائي في التاريخ، وهو ما شهد له العدو قبل الصديق.
وعندما حانت ساعة الصفر يوم 6 أكتوبر 1973 طلب اللواء أحمد حمدي من قيادته أن يتحرّك شخصيا إلى الخطوط الأمامية؛ ليشارك أفراده لحظات العمل في إسقاط الكباري على القناة، إلا أن القيادة رفضت انتقاله؛ لضرورة وجوده في مقر القيادة للمتابعة والسيطرة، إضافة إلى الخطورة على حياته في حالة انتقاله إلى الخطوط الأمامية تحت القصف المباشر، إلا أنه غضب وألحّ في طلبه أكثر من مرة، ولم تجد القيادة بدّا من الموافقة على طلبه، وتحرّك بالفعل إلى القناة، واستمرّ وسط جنوده طوال الليل بلا نوم ولا طعام ولا راحة، ينتقل من معبر إلى آخر، حتى اطمأنّ قلبه إلى بدء تشغيل معظم الكباري والمعابر.. وصلى ركعتين شكرا لله على رمال سيناء المحرّرة.
وفي يوم 14 أكتوبر 1973 حيث كان البطل يشارك وسط جنوده في إعادة إنشاء كوبري لضرورة عبور قوات لها أهمية خاصة وضرورية لتطوير وتدعيم المعركة، ومع القصف الجوي المستمرّ إذ بالبطل يُصاب بشظية متطايرة وهو بين جنوده.. كانت الإصابة الوحيدة، والمصاب الوحيد.. لكنها كانت قاتلة، ويستشهد البطل وسط جنوده كما كان بينهم دائما.
ولقد كرّمت مصر ابنها البارّ بأن منحت اسمه وسام نجمة سيناء من الطبقة الأولى وهو أعلى وسام عسكري مصري، كما اختير يوم استشهاده ليكون يوم المهندس، وافتتح الرئيس الراحل أنور السادات النفق الذي يربط سيناء بأرض مصر، وأطلق عليه اسم "نفق الشهيد أحمد حمدي".
هذه قصة من قصص كثيرة تؤكّد الصمود والعزيمة المصرية والتضحية بالنفس والرغبة في الشهادة، وفي الغد نلتقي مع قصة شهيد جديد قدّم روحه لوطنه.. هو القائد "محمد زرد" الذي دمّر وحده أقوى الحصون الإسرائيلية الذي استعصى على فرقة كاملة من رجالنا البواسل.