تعرّفنا في الحلقة الماضية على البطولات التي حقّقتها القوات الجوية المصرية في سماء سيناء، بعضها قاد العدو إلى درجة الجنون، وبعضها قادنا نحن نحو البكاء، وبعضها الآخر أثار غيرتنا ورجولتنا التي ضربوا فيها نموذجا يُحتذى.. واليوم نعيش مع بطولة جديدة، وتحديدا بطولة العقيد "الحجف"، ذلك الرجل الذي كان وجوده في قلب المعركة سببا في تغيير مجريات الحرب كلها.بعد مرور 37 عاما على حرب أكتوبر المجيدة، وأنت تسير في شوارع الإسماعيلية وتقع عيناك على لافتة شارع باسم "أحمد الحجف" من الطبيعي وقتها أن تتساءل عن هذا الاسم، ولمن يكون؟!
الاسم وحده يجعل الفضول يملأ صدرك لمعرفة صاحبه، وبالبحث والسؤال تكتشف أنه أحد أبطال حرب أكتوبر الذين خلّدهم التاريخ العسكري، وكتب بدمائه قصة كفاحه من أجل تراب الوطن.
عندما تدخل بيته في الإسماعيلية تجد مصحفا مُخضبا بالدماء، كما تجد ساعته الشخصية، وصورة لبطل تتوسط جدران بيته.. فهذا آخر ما تبقّى من الشهيد العقيد "أحمد الحجف".
وُلد "السيد أحمد الحجف" في 9 أغسطس عام 1935، وكرّس حياته لردّ شرف الأمة التي استرق منها وقت غفلة في 1967، فكانت المعارك التي خاضها دروسا في فنون القتال والعسكرية، فانضمّ إلى أول فرقة صاعقة في مصر عام 1955 وكانت في منطقة "أبو عجيلة"، التي أسسها الشهيد البطل "إبراهيم الرفاعي".
كما شارك الحجف في حرب السويس 1956، وكان أحد أفراد قوات الصاعقة المصرية التي شاركت في حرب اليمن، وفي نكسة 1967 كان يقاتل بضراوة ضد العدو الصهيوني.. وأثناء حرب الاستنزاف كان مساعدا لكبير معلمي مدرسة الصاعقة الشهيد العميد "إبراهيم الرفاعي"، فشارك في تصنيع وتجهيز رجال الصاعقة لخوض معركة الكرامة والتحرير عام 1973.
عُرف العقيد "السيد أحمد الحجف" بين أقرانه بتديّنه الشديد، وإيمانه بقيمة العمل الجماعي لتحقيق النصر، لكن ما فعله "الحجف" خلال مشواره مع المعارك "كوم"، وما فعله في حرب أكتوبر المجيدة كان "كوم تاني".. فعندما بدأت ملحمة العاشر من رمضان صدرت الأوامر للسيد "الحجف" قائد قوات الصاعقة وقتها، بالتصدي لأحد ألوية العدو الإسرائيلي المدرّعة بأي ثمن، قبل سيطرتها على مضيق "رأس سدر" ومنع الجيش المصري من العبور إلى شرق القناة.
وبالفعل بدأ الاشتباك بين اللواء الإسرائيلي المدرّع وفرقة الصاعقة بقيادة "الحجف"، ووجد القائد نفسه أمام فارق كبير في العدة والعتاد، فطالب رجاله بأن ينالوا إحدى الحسنيين "إما النصر أو الشهادة".. وعلى الفور انهالت القنابل والصواريخ على رؤوس أفراد الصاعقة المصرية، لكن دون جدوى، فكما ذكرنا في سابق الحلقات أن التدريبات التي كانت تتلقاها فرق الصاعقة كانت النيران فيها أهون الأمور، فضلا عن الحماس والإيمان الرهيب الذي زرعه "الحجف" في نفوسهم، فأعانتهم على تحمّل قنابل العدو وصواريخه.. ولم يجد العدو حلا سوى الانسحاب إلى الشرق لـ"لملمة" صفوفه.. مندهشا ومذعورا في الوقت نفسه.
بعد 48 ساعة من القتال عاود العدو الهجوم، مستعينا بغطاء نيراني مكثف، فأخذ البطل "الحجف" يُحمّس رجاله، ويطالبهم بزرع الألغام أمام مدرّعات العدو، لتشتدّ المعركة، وترتفع أصوت الانفجارات، وتمتلئ أرض المعركة بحطام المدرّعات.. وتتناثر دماء الشهداء على الرمال أسفل جنازير الدبابات الصهيونية.. ويستمر القتال وسط دهشة العدو من الأداء المستمرّ لفرقة الصاعقة دون مهابة الموت أو الأسر، بل منهم من وصلت به الجرأة حد الإقبال على المدرّعات والأسلحة الثقيلة للصهاينة بصدور عارية وأسلحة خفيفة.. فأجبروا للمرة الثانية على الانسحاب نحو الشرق، بعدما تعاظمت خسائرهم في الأرواح والمعدات.
في الوقت نفسه صدرت الأوامر من القيادة العليا إلى فرقة العقيد "الحجف" بالعودة إلى مقدمة الجيش الثالث المتمركز في منطقة "عيون موسى"، وفي طريق العودة نجح الشهيد -رحمة الله عليه- في تنفيذ العديد من الإغارات والكمائن على قوات العدو، وكبده خسائر فادحة.
وأثناء استعداد البطل "الحجف" لتنفيذ كمين جديد إذ بشظية طائشة تصيب صدره، فيسقط على الأرض بين رجاله، ولكن حسب رواية أحد معاونيه استجمع قواه التي خارت، وعاد للوقوف على قدميه، ثم نطق الشهادة، وسلّم روحه لبارئها.
ليسطر البطل الشهيد "أحمد الحجف" بدمائه في التاريخ، ويختم حياته بنطق الشهادتين.. بسم الله الرحمن الرحيم.. {وَلاَ تَحُسَبَنَ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللهِ أَمَواتاً بَل أَحَياَء عِندَ رَبِهِم يُرزَقوُنَ} صدق الله العظيم [آل عمران: 186].
وتكريما لذكرى الشهيد خصّصت القوات المسلحة قاعة بالكلية الحربية تحمل اسمه، كما تمّ إطلاق اسم الشهيد على اثنين من شوارع مصر، الأول بمحافظة الإسماعيلية مكان إقامة الشهيد، والثاني بأنشاص، حيث كان موقعه وقت حرب أكتوبر المجيدة.
و
في الحلقة القادمة نتعرف على شخصية جديدة وبطل جديد عاد إلى الحياة بعد أن ظنّوه ميتا وأودعوه ثلاجة الموتى! حتى أثار ذعر كل من كان بالمستشفى.. إنه اللواء "حمدي الحديدي".. واحد ممن كتبوا ذكريات حرب أكتوبر بدمائهم.فتابعونا،،،