منقول من بص وطل
ما جرى في روسيا يصيب بالذهول ولكن السر في كلمتين .. فلاديمير بوتين
من يتأمل حال روسيا منذ عشر سنوات، وما جرى اليوم في روسيا سوف يصاب بالذهول، ولكن السرّ يكمن في كلمتين.. فلاديمير بوتين.
الحكاية بدأت عام 1990 حينما انهار الاتّحاد السوفيتي، ثم قام "بوريس يلتسين" بانقلاب عسكري عام 1991 أنهى سيطرة الشيوعيين على الحكم في موسكو، وأصبح "يلتسين" هو الرئيس الروسي الجديد.
وبعد سنوات قليلة بدأت صحة "يلتسين" تتدهور، فأصبح حكام الولايات والجمهوريات الروسية أشبه بالبارونات والقياصرة، كل منهم مستقلّ بحكمه تحت وصاية روسية صورية، وأنتج الفساد عدداً من بارونات الاقتصاد الروسي، وانتشر الانحلال الأخلاقي حتى في المدارس، ووسط كل هذه الفوضى أصبح الرئيس "يلتسين" منذ عام 1996 لا يحكم البلاد فعلياً، ولكن ابنة الرئيس وعدداً من المقربين له كانوا يديرون البلاد من خلف الستار.
وهكذا بدأ رجالات الكرملين في البحث عن خليفة للرئيس الجديد، ولكن الرئيس المريض كبير السنّ كان عنيداً، ولا يريد مغادرة موقعه، إلا أذا اطمأن أنه سوف يكون في مأمن بعد مغادرته السلطة هو ورجالاته، وفي نفس الوقت يريد خليفة قادراً على محاربة الفساد.
وتمّ ترشيح عدد من الأسماء، وتمّ تسليم رئاسة الوزراء لهذه الأسماء تباعاً، فكان كل رئيس للوزراء يسعى فوراً للرئاسة دون القيام بمحاربة الفساد، أو القيام بإصلاحات، والأهمّ دون أن يعطي الأمان للرئيس المريض، لذا يسارع "يلتسين" بإقالة رئيس وزرائه في الفترة الشهيرة التي جعلت روسيا تشهد في أيام "يلتسين" الأخيرة أكثر من أربع وزارات.
قرر "يلتسين" تعيين "بوتين" بمنصب رئيس جهاز الأمن الفيدرالي FSB
"بوتين".. وفاء نادر في عالم السياسة
وفي يوليو 1996 وبينما الرئيس يبحث عن خليفة له، حدثت واقعة مهمة، فقد قدّم مساعد عمدة سان بطرسبرج استقالته بعد أن خسر العمدة السباق الانتخابي في بادرة وفاء نادرة في عالم السياسة، تساءل "يلتسين" عن هذا المسئول الوفي، فعرف أنه فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، مواليد 7 أكتوبر 1952، ضابط سابق بالمخابرات السوفيتية KGB، خدم في مهمة سرية ناجحة في ألمانيا ما بين عامي 1985 و1990 وعاد سالماً.
وقرر "يلتسين" تعيين "بوتين" بمنصب رئيس جهاز الأمن الفيدرالي FSB وهو ما يوازي جهاز أمن الدولة في بعض الدول الأخرى، كما تمّ تعيينه لاحقاً رئيساً لجهاز مخابرات أمن الرئاسة الروسية.
أدرك الرئيس أن لديه ضابطا أمنيا من طراز نادر قادرا على حمايته ولو خرج من السلطة
عملية عسكرية ضدّ القانون تثير إعجاب الرئيس!! وبعد بضعة أشهر من توليه المنصب قام "بوتين" بتحرّك جريء، فالسياسي "أناتولي سوبتشاك" -عمدة سان بطرسبرج السابق- واجه تهما بالفساد، وأصبح على وشك الزجّ به في السجن، وفي عملية عسكرية سينمائية تمّ تهريب "سوبتشاك" إلى باريس، في عملية استلزمت طائرات عسكرية، وسيارات حربية، وعمليات تمويه، بل ووضع الرجل تحت الحماية في باريس أيضاً.
وقد فعل "بوتين" كل هذا وسط دهشة رجالات الكرملين من قدراته الأمنية المذهلة، والأهم هذا الوفاء النادر الذي يجعل "بوتين" يخترق قوانين الدولة بهذه البراعة، وكان يُفترض من الرئيس "يلتسين" أن يقوم بعزل "بوتين"، ولكنه قال في مذكراته إنه يكنّ احتراماً كبيراً للرجل الذي يقوم بهذا العمل.
وهكذا أدرك الرئيس أن لديه ضابطا أمنيا من طراز نادر قادرا على حمايته حتى لو خرج من السلطة، ولكن بقي اختيار صغير.. رئاسة الوزراء، حيث قام "يلتسين" بتكليف "بوتين" برئاسة الوزراء؛ ليرى ماذا سوف يفعل "بوتين" وهل سوف يسعى إلى الغدر به كما فعل السابقون.
فوجئ الروس أخيراً برئيس شاب بعد أن اعتادت روسيا حكم المسنّين حتى الوفاة
"الفلاد" (معشوق الفتيات) يحكم البلاد
حينما قام "يلتسين" بتكليف "بوتين" برئاسة الوزراء قال له "بوتين" بشكل فوري: "سوف أعمل في أي وظيفة توكلها لي"، وبعد أربعة أشهر فحسب كان "يلتسين" قد سلّم "بوتين" رئاسة البلاد.
فوجئ الروس أخيراً برئيس شاب بعد أن اعتادت روسيا حكم المسنّين حتى الوفاة، وأصبح "بوتين" أو "الفلاد بوتين" (معشوق الفتيات) كما أطلق عليه الشعب الروسي، خاصة أن الزعيم الروسي يتمتّع بقوام رياضي، وخرجت الصحف تنشر له صوراً رياضية وعسكرية مبهرة، أشعلت مشاعر الروس الوطنية، وتوحّد الشعب خلف مؤسسة الرئاسة، بعد الشرخ الذي جرى في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبعد بضعة أشهر أصبح حكام الولايات والأقاليم مجرد موظفين صغار في حاشية "الفلاد"، ثم راح يضرب بارونات الاقتصاد ورجال الأعمال حتى المتحمّس منهم لـ"بوتين"، ولم ينسَ "بوتين" أن يخرس ألسنة المعارضة الوهمية سواء الحزبية أو الصحفية؛ لأن البلاد في حالة نهضة، وأنهى التمرّد العاصف في الشيشان وداغستان، وخلال عامين فحسب كان قد مدّد علاقاته السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بشكل مبهر، وعادت روسيا قطبا دوليا وسياسيا، بعد عشر سنوات من وضعها في غرفة الإنعاش على يد بوريس يلتسين.
ليس هذا فحسب، بل دخل إلى حلبة الشرق الأوسط والحروب التي تجري هنالك بالوكالة، حيث دعم إيران من أجل إرهاق الولايات المتحدة الأمريكية بهذا القطب الدولي الصاعد، وحينما فكّرت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في جسّ نبض روسيا عسكرياً عبر جورجيا، أتى الردّ الروسي سريعاً بغزو جورجيا بشكل مهين لكل حلفائها.
حينما استنفد "بوتين" حقه الدستوري في الانتخاب أتى بواحد من أصدقائه رئيساً للبلاد
الحكم من خلف الستار
ويُعرف عن "بوتين" أن ملامحه أشبه بلوح الثلج، فلا يمكن أن تجد وجهه ينطق بما يفكر به، تعلّم "بوتين" في المخابرات كيف لا يجذب الأنظار إليه، كيف يكون حاضراً وغير حاضر.. وكيف يمكن أن يحكم من خلف الستار.
وحينما استنفد حقه الدستوري في الانتخاب مرتين رئيساً لروسيا، أتى "بوتين" بواحد من أخلص أصدقائه رئيساً للبلاد، واستمر "بوتين" يحكم روسيا كرئيس للوزراء.
ويعرف الجميع أن "بوتين" سوف يعود للترشّح خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة رئيساً لروسيا، مستمراً في قيادته للنهضة الروسية الثالثة، بعد الأولى التي جرت على يد القياصرة، والثانية التي جرت على يد السوفييت.