الجغرافية العسكرية الإسلامية
يطرح الكاتب العسكري محمد جمال الدين محفوظ في كتاب له السؤال المنطقي التالي :
هل يقبل العقل أن تكونالشجاعة ، وقوة العقيدة وحدهما وراء النجاح في العمليات الحربية للمسلميندون أن يكون معهما شيء من الكفاية الحربية في القيادة و أساليب القتال ؟ويتبعه بسؤال آخر هو : هل يقبل العقل أن يكون من العرب رواد في كل نواحيالعلوم الطبيعية والاجتماعية ولا يكون منهم رواد في فن الحرب ؟ ويأتي الردمن أي مجيب سواء من أهل العلم المختص ، أو من العامة بالنفي . ويسعى كاتبهذه المقالة إلى إلقاء الضوء على بعض من نتاج المدرسة العسكرية الإسلاميةفي مجال الجغرافية العسكرية .
الجغرافية العسكرية كعلم تطبيقي في تعريفها الدارج" حقل متخصص من الجغرافيا بالتعامل مع الظاهرات الطبيعية و الظاهرات التيصنعها الإنسان والتي قد تؤثر في مسار العمليات العسكرية ، أو التخطيط لها" . وعلى ذلك سيعمل القادة على دراسة أحوال وخصائص البلاد والمناطق بوساطةالعيون وما شابهها ، من جمع للمعلومات ، قبل إرسال الجيوش عن مواطن القوةو الضعف فيها، سعيا" لحصول النصر ، و تجنبا لوقوع الهزيمة. وكان ذلك بعضمما أوصى به خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم قادتهم ، فقد كتب الخليفةعمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد أبن أبى وقاص رضي الله عنه ، كتب إليهو من معه من الأجناد " .. وإذا وطئت أرض العدو .. وتعرف الأرض كلها كمعرفةأهلها بها ، فتصنع بعدوك كصنعه بك .." . أن دراسة أرض العدو، كما رأى عمررضي الله عنه أمر واجب ، إذ أن في التعّرف على مسالكها و دروبها ، و مواردمائها ، و نباتها ، ومعالم سطحها ، إدراك لمواطن القوة و الضعف فيها ،وهذا أمر سيحسن الأعداء استخدامه ، فهم أدرى من غيرهم بطبيعة بلادهم ، وأنعرف سعد و جنده أرض العدو فأنهم سيدركون ما يدركه عدوهم عنها ، ويكونبإمكانهم أعداد الخطط الملائمة عن أرض أصبحوا يعرفونها كما عرفها أصحابها. وبذلك لن تكون الأرض ألا لصالح من يحسن استخدامها ، وتسخير مواردها ،ويستفيد من إمكانياتها .
قد يسأل سائل ما هي العوامل الجغرافية التي ساعدت العرب في فتوحاتهم ؟
بالنسبة لفتح العراقيجيب محمد أحمد حسونة ، و يورد من العوامل أن العرب لم يخرجوا في فتحه عنبيئتهم الطبيعية المعروفة ، حيث وجدوا أنفسهم في بلاد صحراوية الأرض والأحوال الجوية ، لا تختلف عن موطنهم بل هي بلاد متممة لها ، كما تعتبرالصحراء ملاذهم ، يعتصمون بها ، ويستندون إليها ، ويتخذونها حاجزا بينهم وبين أعدائهم ، ولا تنسى روابط العرق ، واللغة و العادات ، والتقاليد بينهموبين سكان العراق . وصفوة القول إن العراق بأرضه و سكانه ليس غريبا علىالعرب الفاتحين . أما بما يتعلق ببلاد الشام فالأمر يشبه العراق ، فقد وجدالعرب أنفسهم – أول الأمر – في مثل الظروف الجغرافية التي ألفوها من حيثالتضاريس و بخاصة في القسم الشرقي من بلاد الشام إذ أنه بادية تشكلامتدادا لصحرائهم ، والقسم الأوسط جبلي يعتبر امتدادا للحجاز ، ولرحلةالصيف التي جاءت بالعرب إلى دروب وأسوق الشام دورها ، فعرفها التجار والأدلاء على حد سواء ، إضافة إلى أن العرب المسلمين وجدوا بالشام أناساسبقوهم وتغلغلوا في المنطقة قبل الإسلام بأكثر من ألف عام ، وأستقر بعضهمعلى تخومها الشمالية. ويضاف إلى ما سبق حرية العرب في ضرب الروم أو الفرس، وفي نقل جنودهم بين العراق والشام .
إن في دراسة معركة حطين دروس وعبر، وفيها العديد من الأمثلة على استخدام المسلمين للعوامل الجغرافية فيالعمليات العسكرية والتخطيط لها ، إضافة إلى دور العقيدة والأيمان فيتحقيق النصر المؤزر على العدو الباغي .
تشير الكتب والمراجع التاريخيةإلى عقد هدنة بين المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي ، والصليبيين مدتهاأربع سنوات بدأت بعام 581 هجرية / 1185 م ، لكنها نقضت بعد ذلك بعامينباعتداء الأمير الصليبي أرناط على قافلة للمسلمين أثناء سيرها من القاهرةإلى دمشق مما عجّل بمعركة عسكرية منتظرة بين المسلمين و الصليبيين . عبأصلاح الدين القوات ، وخرج من دمشق ، وقام بأنشطة عسكرية ناجحة ، فكان ردالصليبيين توحيد صفوفهم ، وحشد قواتهم في صفورية . وهنا ظهرت براعة صلاحالدين ، إذ قرر عدم مواجهتهم ، وفضل استتراجهم إليه فيصلونه وقد نال منهمالتعب من طول الطريق ، وحرارة الجو ، وقلة الماء . فبادر إلى احتلال طبريةعدا قلعتها ، وأحرقها . وأراد الصليبيون الانتقام فزحفوا إلى طبرية ، حيثكان صلاح الدين وجنوده يعسكرون ويستريحون قرب طبرية حيث الماء والظلوالراحة ، وينتظرون عدوهم ، وبعد وصول خبر الزحف الصليبي تقدم صلاح الدين، وشدّد الحراسة على شواطئ بحيرة طبرية لمنع الماء عن العدو ، ورابط غربطبرية عند قرية حطين التي تبعد نحو ثلاثة أميال عن البحيرة ، ووسط منطقةوفيرة الماء والعشب .
في اليوم الثالث من تموز(يوليو) وكان شديد الحرارة ، ساكن الهواء وصل الصليبيون هضبة تطل على سهلطبرية ، وأتخذ صلاح الدين مواقع يحول بها بين العدو و ماء البحيرة ، فيوقت أشتد بهم الظمأ . وعادت براعة القائد المسلم تتجدد ثانية ، فأمربإشعال النار بالأعشاب و الأشواك - التي جففتها أشعة شمس الصيف اللاهب –التي تكسو الهضبة ، " وكانت الريح على الفرنج فحملت إليهم الحر والناروالدخان ، فأجتمع عليهم العطش وحرّ الزمان و حّر النار والدخان وحّرالقتال " على قول أبن الأثير .
وعندما أشرقت شمس يومالرابع من تموز (يوليو) ، وهو اليوم التالي ، تبين للصليبيين أن المسلميناستغلوا ظلمة الليل لحصارهم ، وبذلك بدأ الهجوم الشامل ، " فأخذتهم سهامالمسلمين ، وكثر فيهم الجراح ، وقوي الحّر وسلبهم العطش الفرار " على قولالمؤرخ ابن واصل . وكانت نهاية المعركة بوقوع جيش الصليبيين بين قتيلوجريح وأسير ، وعاقب صلاح الدين أرناط بالقتل ، وأحسن معاملة من استسلم منأمراء الصليبيين .
لا يقتصر الأمر على العوامل والعناصر الطبيعية في عالم الحروب فحسب، بل يمتد إلى الجوانب والعناصر البشرية ، أي أحوال الناس أعدادهموأقلياتهم وعاداتهم وأعيادهم . ومن أمثلة ذلك نجاح هجوم خالد بن الوليدعلى قبائل غسان النصرانية يوم عيد الفصح، وعادة يكون جلّ الجيش في إجازة ،ويصعب أو على الأقل يطول استنفاره . ويتكرر الأسلوب عندما شن العرب حربرمضان / أكتوبر / تشرين 1973 يوم عيد الغفران (يوم كيبور) أعظم أعياداليهود ، وكان اختيار اليوم المذكور بعد دراسة مستفيضة شملت السنة والشهرواليوم بل والساعة أيضا بكل عناصرها الطبيعية ، والإستراتيجية ، والتعبوية.
(من كل ما سبق يمكن القول) :- أنالعرب أصبح لهم بعد الإسلام مدرسة عسكرية لأول مرة في تاريخهم ، لقد كانللعرب في تاريخهم الطويل دور عسكري ، وإنجازات عسكرية لا تقل عن إنجازاتهمالحضارية ، عندما خاضوا غمار حروب مع أقوى إمبراطوريات العصر ، الروموالفرس ، انتصروا فيها ، ولم يعودوا أهل حرب الصحراء " حرب الكر و الفر "فقط ، بل أظهروا عبقريات عسكرية منقطعة النظير .