ينسبعادة القول لصاحبه ، ولكن توجد أقوال لا يعرف قائلها لسبب ما ، ولكن صحةالقول أو المعلومة التي يسوقها تبقي عليه ، وهنا يكون القول أعظم أهمية منقائله . ولعل القول : " المناخ climate هو ما تتوقع ، لكن الطقس weatherهو ما تجد " هو حقيقة ، وتفسير ذلك أن المناخ هو مجمل حالة الجو لمنطقة ما، وتبنى معلوماته على أساس معدلات ومتوسطات لقراءات وإحصاءات، هي حصيلةمعلومات لسنوات طويلة ، وعلى ذلك إن أشارت معلومات المناخ لمنطقة ما أنصيفها معتدل ، فإن هذا لا يحول من تعرضها لأحوال حارة أو باردة في وقت مامن الصيف.
تتعرضبعض الأقوال إلى بعض التحريف والتغيير أحيانا مع الزمن ، كما قد تختلفنتيجة الترجمة والنقل من لغة القائل إلى لغة أخرى عبر لغة ثالثة فيصيبالقول تغيّر ما ، وإن كانت الفكرة واحدة ، ولكن قد يفقد القول الجمالوالدقة التي أوردتها لغة القائل . ومن أمثلة اختلاف الترجمة ما قالهالمفكر الصيني الشهير صن تزو Sun Tze ( سون تسي ) في كتابه الشهير " فنالحرب " قبل نحو 2500 سنة ، فقد ورد في كتاب ونترز Winters ورفاقه ماترجمته " أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال والغابات ، ومخاطر الشعاب ، والسبخات والمستنقعات ، لا يستطيعون قيادة مسير جيش "
، وقد ورد القول في ترجمة ربيع مفتاح للكتاب بالصيغة التالية : " وهؤلاء الذين لا تتوافر لديهم الدراية بالجبال والغابات والطرق الضيقة الخطرة والحقول والمستنقعات لا يجب عليهم قيادة الجيش "
، وقد وردت في ترجمة ناصر الكندي للكتاب على النحو التالي " و من لا يعرف الجبال والغابات ، الأودية والشعاب ، السبخات و المستنقعات لا يمكنه قيادة جيش " .
ولا تقل أهمية معرفة القائل عن أهمية القول و جوهره ، فالاختلاف على اسم القائل أمر غير مستبعد ، ومن ذلك المقولة الجامعة " قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها "
إذوردت في معجم لسان العرب لابن منظور وفي مجمع الأمثال للميداني على أنهامثل من الأمثال العربية ، في حين وردت في الكامل في التاريخ لابن الأثيرعلى لسان خالد بن الوليد في محادثته لعمرو بن عبد المسيح أثناء حصاره لهفي أحد قصور الحيرة بعد معركة بادقي ، كما وردت على لسان النعمان بن مقرنموجها إياها إلى عناصر الاستطلاع في معركة نهاوند ، وفي رواية أخرى وردتفي تاريخ الرسل والملوك للطبري على لسان عمرو بن أبي سلمى العنزي عنصرالاستطلاع وليس النعمان ، وعلى أي حال يرجح أن القول هو مثل عربي استشهدبه من سبق ذكره .
يصدرالقول عن صاحبه عقب تجربة عاشها ، أو عمل مارسه على أرض الواقع ، فجاءتفكرته أو قوله فيما بعد ، فيوردها في كتاب يضعه أو في محاضرة يلقيها ،وسيكون مقنعا في ما يورده ، لاقتناعه برأيه وفكرته التي خرج بهما . لكنيأتي القول كرد فعل فوري أو شبه فوري ، أي وليد ساعته .
ومنذلك ما قاله اللفتنانت جنرال (الفريق) البريطاني السير كيجل Kiggell بعدرؤيته للطين والأرض الموحلة والأمطار في ساحة معركة أمام الألمان في منطقةالفلاندرز عام 1917 إذ قال : " يا إلهي هل أرسلنا الرجال للقتال هنا حقا ؟ " . فقد كانت معركة رهيبة بلغت فيها الخسائر البريطانية 400,000 بين قتيل وجريح ، مقابل 65,000 للألمان .
وكانللعرب في تاريخهم الطويل دور عسكري هام ، وإنجازات عسكرية لا تقل بحال عنإنجازاتهم الحضارية ، ولم يعد العرب أهل حرب " الكر و الفر " فقط بلأظهروا عبقريات عسكرية تجلّت في فتوحاتهم ، ويحفل التراث العربي بالكثيرمن جوانب الجغرافيا العسكرية التي تشير إلى موروث عسكري يعتّد به ، ولهمأقوال و آراء منها كمثال : كان زياد ابن أبيه (1 – 35 هجرية ) وكان مندهاة العرب يقول لقواده : " تجنبوا إثنين لا تقاتلوا فيهما العدو : الشتاء و بطون الأودية "
وأغزىالوليد بن عبد الملك جيشا في الشتاء ، فغنموا وسلموا ، فقال لعبّاد ابنزياد: يا أبا حرب ، أين رأي زياد من رأينا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قدأخطأت ، وليس كل عورة تصاب . وبذلك يثبت العربي مقدرة في تحديد الوقتوالمكان غير المناسبين جغرافيا للعمليات ، وهما فصل الشتاء ببرده ومطره ،وبطن الوادي المنخفض المعرض لضربات العدو من الأعالي . كما تبين القصةكيفية الدفاع عن الرأي حتى أمام الخليفة القائد الأعلى للجيش.
تتشكلالرؤية العسكرية في كثير من الجوانب والعناصر الجغرافية، مما يعطي شموليةوإحاطة ممتازة للقرار العسكري ، ويبدو ذلك واضحا في رسالة الباحث والمترجموالعسكري لورنس Lawrence (1888- 1945) المعروف باسم لورنس العرب ، والموجةإلى رجل الإستراتيجية البريطاني ليدل هارت Liddell Hart عام 1933 في قوله: " عندما أتخذ قرارا أو أتبنى خيارا ، يكون ذلك بعد دراسة لكل عامل هام .ففي الجغرافيا البنية القبلية ، والدين ، والعادات الاجتماعية ، واللغة ،والميول ، والمعايير ، كل ذلك قريب لي أتلمسه كأصابعي " . وقد سبق السياسيالإيطالي الشهير ميكافيلي Machiavelli (1469-1527) لورنس في الجمع بينالعوامل الطبيعية والبشرية إذ قال : " فيوقت السلم على الجندي تعلُم طبيعة الأرض ، وكم انحدار الجبال ، وكم تنفتحالأودية ، وأين تقع السهول ، و أن يفهم طبيعة الأنهار والمستنقعات ، عندهاوباستخدام المعرفة والخبرة التي حصل عليها في مكان ما ، في ذلك الوقتيمكنه فهم أي مكان آخر "
. وبناء على ذلك يدعو إلى الدراسة المقارنة ، من حيث تعميم الأمور في مكانين يتشابها في أحوالهما .
أكد الزعيم الصيني الشهيرماوتسي تونغ Mao Zedong ( 1893- 1976) على دور الإنسان والجوانب المعنوية عندما قال : " هناكالنظرية المسمّاة ( الأسلحة تعني كل شيء ) …الأسلحة عنصر هــام في الحربلكنها ليست بالسلاح الحاسم ، الذي هو الإنسان الذي يعوّل عليه وليس المادة، إن صراع القوى ليس الصراع بين القوتين العسكرية والاقتصادية فقط ، بل وبين إحدى القوى ومعنويات البشر ".
يصدرقول عن شخص ليس بالعسكري أو الجغرافي ، ولكن يمكن تفسير قوله عسكريا أوجغرافيا بل و يمكن أن يفسر بما لم يقصده القائل أصلا، ومن ذلك قول الشاعرالأمريكي الشهير فروست Frost (1874-1963) القائل : " الأسيجة الجيدة تصنع جيرانا جيدين "
إذيمكن تفسيره بأن القوات المسلحة القوية ( سياج الوطن) تجبر الدولةالمجاورة على أن تكون جارة مسالمة وغير مؤذية ، كما يمكن أن تفسر بأنالحدود السياسية ( الدولية ) واضحة المعالم ، وغير المتنازع عليها ، تضمنحسن الجوار لعدم وجود مبرر للنزاع . كما يمكن أن تصدر عبارات مماثلة فيكراسات تدريب القوات المسلحة ، ومنها ما ورد في كراسة الميدان الأمريكيةالتي تحمل الرمز FM 100-5(1993) وهو " إن الأرض terrain ليست محايدة ، فهي إما تساعد أو تعيق إحدى القوى المتنازعة " .
كما ورد في الكراسة FM 100 – 5 (1982) " إن للطقس والأرض أثرا أكبر من أي عامل مادي آخر بما فيه الأسلحة ، والمعدات ، أو الإمدادات " .
وقد نالت المعالم الطبيعية الكثير من الأقوال و الآراء ، ومما قيل في الصحراء ما أورده C.F Lucas Philip : " يمكنأن تكون الصحراء للوافد حديثا إلى الصحراء ، مكان رعب حقيقي ، حيث لا طرق، و لا منازل ، ولا أشجار ، ولا معالم بارزة من أي نوع ولمسافات مئاتالأميال . وسيجرب الخوف الحقيقي لأول مرة من أن يضيع تماما ، ويلاقي حتفهعلى أيدي عدوّه أو في قسوة الأراضي القاحلة في عمق الصحراء الخاوية "
. وقال Maurice De Saxe في الجبال : " أولئك الذين يشنون الحرب في الجبال ، عليهم أن لا يمروا عبر شعابها قبل أن يجعلوا من أنفسهم أولا سادة المرتفعات "
.وهذا أمر واجب ، إذ بدون السيطرة على المرتفعات الحاكمة لا تتمكن القواتمن عبور الممرات والشعاب . كما قال W B Kennedy Shaw في الرياح : " لكثيرمن البلاد رياحها الحارة ومنها رياح الخماسين في مصر ، و الريح الشرقية فيفلسطين ، ورياح الهرمتان في غرب أفريقيا ، اجمع كل هذه الرياح معا ، وأضفإليها الرمال ومذاقها وانفخها باتجاه الشمال ، لتخرج من أبواب جهنم ،عندها ستبدأ بمعرفة ماهية رياح القبلي في واحة الكفرة الليبية صيفا " .
ويبدومن هذا القول أن صاحبه قد عانى من رياح القبلي في الصحراء الليبية . كمايشابه ذلك تجربة اللفتنانت كوماندر Arlie Capps الذي قال : " لقد أعددنا قائمة بكل ما يمكن تصوره من معيقات طبيعية وجغرافية ، لكن إينشون حوتها جميعها " .