القطب الشمالي و صراع السيطرة على الثروات
لم يكن يخطر في بال الباحث الأميركي مايكل كلير، وهو يُسطِّر صفحات كتابه المهم والمثير للقلق، والذي عنونه بـ "الحروب على الموارد: الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية" (صدر في عام 2001 عن دار نشر ميتروبوليتان بوكس)، أن إحدى أكثر المناطق برودة وهدوءاً في العالم، وأبعدها عن أيدي الإنسان العابثة (ونعني القطب المتجمد الشمالي)، سيكون إحدى الساحات التي تتشكل منها هذه "الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية" التي بشّر بها كلير واستقصاها في كتابه من شمال كوكبنا إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، مُحذّراً من تبعات ظهورها في سياق مشهدٍ عالمي يصبح فيه التنافس على الموارد الحيوية "السمة الأبرز للبيئة الأمنية العالمية"، والمبدأ الناظم الذي تُعبأ له الطاقات، وتستخدم من أجله، القدرة العسكرية بين القوى المتنافسة.
لكن المشهد الجيوبوليتيكي الذي بدأ يتكشّف الآن، سيدفع كلير بالتأكيد (إن لم يكن قد دفعه بالفعل)، وباحثين آخرين يشاطرونه الاهتمامات نفسها، إلى إعادة رسم خريطة النزاعات العالمية من جديد؛ فالقطب الشمالي القارس البرودة لم يعد استثناءاً، وانضم هو الآخر إلى باقي بؤر التوتر الساخنة الكثيرة التي يزخر بها عالمنا اليوم. والسبب، كالمعتاد، هو السباق المحموم والشرس على الموارد الطبيعية.
وإذا صدقت التقديرات الأولية، فإن الثروة الكامنة في قلب الجليد القطبي يسيل لها اللُّعاب حقاً، وحتماً فإنها تستثير الكثير من الأطماع والمشاحنات كذلك. ورغم أن معظم هذه التقديرات لا تزال غير رسمية، لكن تقريراً صدر عن دائرة المسح الجيولوجي الأميركي، رجّح أن القطب الشمالي يحتوي على أكثر من 90 بليون برميل من النفط الخام (13% من احتياطيات النفط العالمي التي لم تستكشف بعد)، وحوالي 47.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز الطبيعي (30% من احتياطيات الغاز العالمي التي لم تستكشف بعد) ونحو 20% من الغاز الطبيعي السائل. أما وزارة الموارد الطبيعية الروسية فتقول إن بإمكان روسيا استخراج ما يزيد عن 586 بليون برميل من النفط من أعماق مياه القطب الشمالي في مناطق تعتبرها روسيا ضمن أراضيها مثل: بارينتز، وبيشورا، وكارا، وشرق سيبيريا، وبحر تشوكشي، وبحر لابتيف، إذ يمكن أن تصل كمية النفط في هذه المناطق إلى 418 مليون طن (3 بليون برميل)، بينما تصل احتياطيات الغاز حوالي 7.7 تريليون سنتيمتر مكعب. وتقول الوزارة أيضاً: إن الاحتياطيات غير المستكشفة حتى الآن تقدر بنحو 9.24 بليون طن (67.7 بليون برميل) من النفط، و88.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز. وإضافة لذلك، يحتوي القطب الشمالي على ترسيبات هائلة من المعادن النفيسة والأحجار الكريمة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والماغنسيوم والهيدروكربون والبلوتينيوم والزنك والماس، ثم الثروة السمكية الهائلة غير المستغلة بعد. وكل هذه الثروات لها سوق عالمي كبير اليوم وتشعل التنافس التجاري الدولي خاصة مع صعود الهند والصين وبعض الدول النامية الأخرى على المستوى العالمي.
ويأتي هذا الاهتمام الجديد بالمنطقة القطبية الشمالية، من عدة زوايا. فمن ناحية قانونية، أمهلت اتفاقية الأمم المتحدة للبحار الدول المحاذية للقطب (وهي روسيا وكندا والولايات المتحدة والنرويج والدنمارك وأيسلندا والسويد وفنلندا)، عشر سنوات من لحظة التوقيع على الاتفاقية ومصادقته، لإثبات سيادتها على منطقة القطب. كما أن ما شهدته المنطقة القطبية في صيف العام 2007 للمرة الأولى في تاريخها مثّل حدثاً فارقاً ومفصلياً؛ إذ بدأت مساحات كبيرة من الجليد الكائن بها في الاضمحلال والتلاشي، وبالمثل فإن المنطقة قد تعرضت في العام المنصرم (2008) لثاني أكبر عملية انكماش لرقعتها الجليدية، وهو ما رصدته الأقمار الصناعية التي تعمل لهذا الغرض منذ 30 عاماً. ويقول العلماء إن هذا سيساعد على فتح الممرات البحرية إلى القطب الشمالي من جهة مناطق على الحدود الكندية - الأميركية ومن جهة مناطق أخرى قريبة من الحدود الروسية، الأمر الذي سيصبح معه الإبحار خلال تلك الممرات ممكناً في المستقبل المنظور، وهذا سيسمح بتأمين معبر بين المحيطين الهادئ والأطلسي، قد يشكل طريقاً تجارية دولية جديدة بعد قرون من البحث المضني الذي أودى بحياة مئات المستكشفين عن طريق يصل آسيا بأوروبا. والفضل -إذا جاز التعبير- في ذلك، يعود إلى ظاهرة التغيّر المناخي، الذي يُغيّر شكل القطب الشمالي، حيث باتت المساحات الجليدية التي تطفو على معظم المحيط القطبي أصغر بنسبة 25 في المائة على الأقل مما كانت عليه قبل ثلاثة عقود. وأخيراً ابحث عن النفط؛ ففي ظل الزيادة الحالية للأسعار والطلب العالمي المتزايد على الطاقة، فإن كل دولة من الدول المتاخمة للقطب تحاول الاستحواذ على مناطق سيادة سياسية واقتصادية فيه، لتزيد من مخزوناتها من النفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى.
وكانت روسيا هي أول من بدأ سباق السيطرة على القطب الشمالي. ففي العام 2001 سلّمت موسكو إلى الأمم المتحدة وثائق تزعم فيها أن حافة "لومونوسوف" التي توجد تحت مياه المحيط الشمالي المتجمد، هي في الحقيقة جزء من الرصيف القاري لسيبيريا، لذا يتعين ضمّها إلى الأراضي الروسية، ومع أن الطلب رُفِض من قِبل الأمم المتحدة، إلا أن الروس أصرّوا على مطلبهم. وقد دفعت التحركات الروسية هذه كندا، التي تتوفر على ثاني أطول شريط ساحلي يطل على القطب الشمالي، إلى الدخول بقوة إلى مضمار السباق القطبي ومحاولة قطع الطريق أمام أي "إدعاءات" قد تنال من ما تعتبره حقوقاً لها في المنطقة القطبية. وفي اتجاه موازٍ، أشرع علماء دنماركيون مراكبهم في حملة لاستكشاف قاع المحيط شمالي جزيرة جرينلاند ومحاولة إثبات أن القطب الشمالي كان في السابق جزءاً من هذه الجزيرة التابعة للدنمارك. وكي لا يكونوا الخاسرين، أرسل حرس الشواطئ الأميركي مهمة بحرية مماثلة إلى شمالي ألاسكا. فبالنسبة للولايات المتحدة، البلد الوحيد على الأرض الذي لم يتمكن من استخراج كميات معقولة من احتياطه النفطي، تبدو المناطق الأميركية القريبة من القطب الشمالي محل جذب خاص إذا ما قورنت بالمحمية القطبية الشمالية الواقعة في ولاية ألاسكا حيث لا توجد قيود تشريعية، فيدرالية أو محلية، للتنقيب عن البترول، كما أن الاعتماد على نفط هذه المناطق يُجنِّب الولايات المتحدة التقلب الهائل في أسعار النفط العالمي الذي تجاوز قبل الأزمة المالية 147 دولاراً، كما يجنبها عدم الاستقرار في مناطق شرق أوسطية وأفريقية وأميركية جنوبية.
والحقيقة أن فورة النشاطات هذه من جانب الدول المحاذية للقطب الشمالي، والمتصارعة عليه، قد سلطت الأضواء على اتجاهين قويين يهيمنان على قضية هذه المنطقة. أولهما، السرعة غير المتوقعة لتتابع الأحداث، ما يعكس بصورة جزئية الاعتقاد بأن القمم الجليدية تذوب بصورة أسرع مما كان يعتقد في الماضي. وأما الاتجاه الثاني، فهو العدد الكبير من القضايا السياسية والقانونية والفنية التي تظل دون حل بصورة خطيرة، إذ تهدد توقعات الإدارة المنظمة لإحدى أكثر مناطق العالم هشاشة واستدامة للحياة.
غير أن السؤال (والهاجس) الأكثر أهمية، بلا شك، يتعلق بحدة التنافس ومداه بين دول المنطقة؛ فهل يتم تصعيد التنافس إلى حافة المواجهة المسلحة للسيطرة على القطب الشمالي؟ الواقع أن التجارب التاريخية تُفيد عكس ذلك ولا تدعو للقلق. ففي منتصف القرن العشرين شهد العالم تنافساً مشابهاً على القطب المتجمد الجنوبي بعدما زعمت دول، وهي بريطانيا والأرجنتين وتشيلي وفرنسا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، سيادتها على أراضيه. لكن، وفي تطور غير مألوف خلال فترة الحرب الباردة، انتهى ذلك السباق إلى تطوير نوع من التعاون جاء بمناسبة "السنة الدولية للعلوم الجيوفيزيائية" لعامي 1957- 1958 قامت خلالها 12 دولة بتوقيع معاهدة وضعت الإطار القانوني لإدارة القارة المتجمدة في القطب الجنوبي. وحرّمت المعاهدة على الدول القيام بتفجيرات نووية، والتخلص من النفايات النووية في القارة المتجمدة، أو نشر قوات عسكرية فوق أراضيها.
وبالمثل، فإن حلاً دبلوماسياً مشابهاً يمكنه أن يُنهي السباق المحتدم بين الدول لبسط السيادة على أراضي القطب الشمالي المتجمد. ورغم وجود هيئة دولية تسمى "مجلس القطب الشمالي" تضم الدول المجاورة للقطب مثل كندا والدانمرك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد وروسيا والولايات المتحدة، فإن اتفاقية شاملة حول القطب الشمالي قد يكون لها أثر أكبر في الحد من التنافس الدولي وتنظيم إدارة مشتركة للقطب الشمالي. ويمكن للاتفاقية مثلاً أن تفتح المجال أمام التنمية المستدامة للموارد التي تزخر بها مناطق القطب الشمالي، والقيام بالمسح الضروري لقاع البحر لتسوية النزاعات الحدودية، وتطوير ممرات مائية مختصرة تقود إلى مياه القطب المتجمد، ووضع معايير للإبحار، فضلاً عن حماية السكان الأصليين الذين يعيشون في المناطق المجاورة للقطب الشمالي.
وفي حال لم تقبل الدول المعنية بمثل هذه "الاتفاقية الشاملة"، فإنه بالإمكان العودة إلى القانون البحري للأمم المتحدة الذي يُعد السلطة المشتركة المفروض بها منع تطور النزاعات بين دول القطب إلى صراع قطبي عنيف. ويتيح هذا القانون المجال أمام سلسلة من الطرق القانونية، بما في ذلك التحكيم، والتقدم إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، حيث يمكن للدول تسوية ادعاءاتها المتنافسة. ولا تزال هذه الآليات تتطور من خلال استخدامها في قضايا حول العالم في مناطق تتدرج من خليج غينيا الغني بالنفط في غرب أفريقيا إلى مناطق الأسماك الوفيرة حول بربادوس، وترينيداد وتوباغو في البحر الكاريبي.
لكن حتى لو حُلّت قضية النزاع حول القطب وموارده في النهاية، فإن هذا الأمر لا يعني أن الحظ ابتسم كلياً للدول المتنافسة وعلى نحو تختفي معه كل المعوقات أمامها لاستثمار المنطقة، إذ أن هذا سيدشن البداية الحقيقية في مشوار المتاعب القطبي. وتشير المعطيات إلى أن ثمة مشكلات تقنية كثيرة تعترض عمليات التنقيب عن النفط والغاز واستثمارهما في تلك المجاهل. ويأتي على رأس هذه المشكلات التكلفة الباهظة والصعوبة البالغة التي تكتنف عمليات التنقيب والحفر وحاجتها إلى وسائل تكنولوجية متطورة للغاية نظراً لطبيعة منطقة القطب الجغرافية والمناخية. وإذا كان التنقيب والحفر عملية صعبة ومعقدة، فإن ضخ النفط والغاز بعد استخراجه من الأعماق الباردة سيكون، والحالة هذه، أصعب بكثير. ولا بد من القول أن طبقات الجليد والثلج في القطب الشمالي لا يمكن دحرها بالتكنولوجيات المتوافرة. ولا يمكن للدول الراغبة في استغلاله اقتصادياً الاعتماد على كاسحات الجليد فحسب، بل يتعيّن عليها إزالة الجليد باستمرار كي لا تؤذي حركته منصّات الاستخراج. ومما لا شك فيه أن هذه العملية تتطلب أموالاً طائلة، لاسيما في فصل الشتاء. وأيضاً هناك مشكلة أخرى تتمثل في كيفية نقل هذا الإنتاج إلى الأسواق العالمية، خاصة أن الناقلات لا تستطيع الإبحار في المياه المتجمدة، وأيضاً، فإن الأنابيب تتجمّد من شدّة البرد.
ومهما يكن من أمر، تبقى الحقيقة الأكيدة هنا أن الصراع حول موارد القطب الشمالي سيستمر ما دامت كل الإغراءات، آنفة الذكر، موجودة فيه، ومادامت الأمور تدور حول قضايا تتجاوز تماماً الحاجات المحلية والمصالح القومية. ويشير المتشائمون، في هذا السياق، إلى النزعة القتالية لدى كل من روسيا وكندا في الأمور المتعلقة بالحدود، وكذلك إلى الرفض المستمر من جانب الولايات المتحدة للمصادقة على القانون البحري الدولي، على الرغم من أن الرئيس السابق، جورج دبليو بوش، حثّ الكونغرس على إقراره.
غير أن الحقيقة الأكثر رسوخاً تظل كامنة – للأسف- في نبوءة مايكل كلير، التي أشرنا إليها في بداية مقالنا هذا، والمتعلقة بمستقبل الصراعات العالمية في كوكبنا المضطرب. إن الحروب القادمة، كما حروب العقد الأول من القرن الحالي، ستتمحور حول الموارد ومن أجل السيطرة عليها، وإذا ما اندلعت حربٌ على موارد القطب الشمالي، في يومٍ من الأيام، فليتأكد الجميع أنها لن تكون الأخيرة!
ويرى الخبراء بأن السيطرة على ثروات القطب الشمالي قد تكون بيد الأكثر تأهيلا من حيث امتلاك أدوات الحفر والتنقيب، وهي روسيا التي تمتلك كسارة متقدمة في تكسير الجليد.