من المؤسف أن الكثير من الدول العربية تعاني من قصور واضح في الخدمات الأساسية لمواطنيها وتشتكي من ترهل فاضح في بناها التحتية المتآكلة، فيما تنفق المليارات على أسلحة لن يتم استخدامها على الأرجح. لقد آن الأوان لأن يتكلم مثقفو الأمة ومفكروها رافضين وبشكل واضح تبديد ثروات الأمة وتدمير مقدراتها، مما يهدد حاضرها ومستقبل أجيالها القادمة وأن يسموا الأشياء بأسمائها. إن المليارات التي تنفق على شراء السلاح لا يليق لها أن توصف بصفقات القرن، ولكن بجرائمه الاقتصادية والتنموية.
بين وقت وآخر تتصدر الأخبار عالميا وإقليميا أنباء عن صفقات أسلحة بعشرات المليارات من الدولارات لتسليح وتحديث جيوش عربية. وسرعان ما يتم توصيف تلك الصفقة بصفقة القرن, ولعل من حق المرء أن يتساءل هل القرن المقصود هنا ببعده الزماني أم بما باستحقاقاته. ذلك لأن مردود تلك الصفقات على الدولة والمجتمع سلبي للغاية، وفيه من تضييع المقدرات الاقتصادية والإمكانيات الشرائية، ما يشبه تماما اللعب بالقمار بشكل خيالي. فالأسلحة التي تُشترى لا تستخدم على الأغلب، وبعد سنوات وربما أشهر من التخزين تتحول إلى خردة قد تحتاج إلى ميزانية حتى يتم تفكيكها والتخلص منها. أضف إلى ذلك أن شروط الشراء لا تتيح للمشتري أو تسمح له ببيع أسلحته إلا بإذن البائع وموافقته.
ترى كيف تكون أحوالنا على المستوى العلمي والتصنيعي والتقني إذا كان ربع أو حتى عٌشر ما أُنفق على مشتريات السلاح قد بُذل واستثمر في مجالات البحث العلمي وإنشاء بنية تحتية علمية قادرة على مجاراة المنافسة في الأسواق العالمية والوصول إلى حد الاكتفاء الذاتي في كثير من المجالات عوض الاعتماد على الاستيراد والبقاء القاتل ضمن دائرة الاستهلاك المؤدي إلى حتمية التبعية.
نحن نعيش في عالم سريع التطور, ربما يكون الثابت الوحيد فيه هو التغير, وفيما تحولت قضايا التجسس بين القوى العالمية في جانب كبير منها إلى ساحة التجسس العلمي والتقني. فبمقدار ما يكون تقدم دولة أو أمة في المجال العلمي والتقني، تتعزز مكانتها على الساحة الدولية تأثيرا ونفوذا. مع كل ذلك وبالرغم منه فإن ما يُنفق في غالبية الدول العربية الثرية منها والفقيرة في مجالات البحث العلمي يكاد لا يذكر على الإطلاق خاصة إذا ما قورن بما أنفق وما يزال على تكديس السلاح شراء واستيرادا.
المبالغ التي أُنفقت على تسليح الجيوش العربية تعتبر خيالية بكل المقاييس والمعايير، ورغم كل ذلك فإنك تجد تلك الجيوش مترهلة وعاجزة تماما عن صد عدوان أو دعم حليف. فلا المعاهدات العربية فيما يتعلق بالدفاع المشترك وما شابه ذلك يتم احترامها أو التقيد بها, وحين يتهدد بعض الدول العربية خطرا سواء كان واقعا أو موهوما فإنها تسارع للاستنجاد بالدول الكبرى طالبة منها الغوث والعون. وهنا يأتي السؤال المؤلم: لماذا إذا كانت تلك النفقات ولمن ولماذا تعد الجيوش الجرارة وتنشأ الكليات الحربية وتعقد الدورات العسكرية؟ مهمة الجيوش العربية أو غالبيتها العظمى على ما يبدو تنحصر في حماية الأنظمة الحاكمة والمشاركة في الاستعراضات العسكرية في الاحتفالات الوطنية, كان من الممكن أن تستخدم في حل النزاعات الحدودية وبشكل محدود مع الدول العربية الأخرى.
أما الغاية الأساسية من صفقات الأسلحة فهو على ما يظهر لتوزيع العمولات على الشخصيات المتنفذة في المؤسسات الحاكمة ولدعم اقتصاديات الدول الكبرى، حتى توفر هي الأخرى الدعم السياسي والدولي للأنظمة الحاكمة مع تحصينها من دعوات الإصلاح والديمقراطية المزعومة. لو طبقت في بلادنا ديمقراطية ولو كانت عرجاء فإني أكاد أجزم بأن أي من صفقات الأسلحة والتي تتم مع الدول المتشدقة بالدعوة إلى الديمقراطية ما كان لها أن تنعقد أو تُنجز.
من المؤسف أن الكثير من الدول العربية تعاني من قصور واضح في الخدمات الأساسية لمواطنيها وتشتكي من ترهل فاضح في بناها التحتية المتآكلة، فيما تنفق المليارات على أسلحة لن يتم استخدامها على الأرجح. لقد آن الأوان لأن يتكلم مثقفو الأمة ومفكروها رافضين وبشكل واضح تبديد ثروات الأمة وتدمير مقدراتها، مما يهدد حاضرها ومستقبل أجيالها القادمة وأن يسموا الأشياء بأسمائها. إن المليارات التي تنفق على شراء السلاح لا يليق لها أن توصف بصفقات القرن، ولكن بجرائمه الاقتصادية والتنموية.