بتتبع
استعمالات الفقهاء لهذا اللفظ يتبين أنهم يطلقونه على كل مَن يظفر بهم من
المقاتلين ومَن في حكمهم، ويؤخذون أثناء الحرب أو في نهايتها، أو من غير
حرب فعلية، ما دام العداء قائمًا والحرب محتملة.
ويطلق
الفقهاء لفظ الأسير أيضًا على مَن يظفر به المسلمون من الحربيين إذا دخلوا
دار الإسلام بغير أمان، وعلى من يظفرون به من المرتدين عند مقاتلتهم لنا،
كما يطلقون لفظ الأسير على المسلم الذي ظفر به العدو. (راجع مثلاً: مجموع
فتاوى ابن تيمية: 28/355، وبداية المجتهد: 1/282. دار الفكر بيروت).
مشروعية الأسر وحكمته:
والأسر
مشروع في الإسلام، ( كما هو مشروع في كل الأعراف والقوانين البشرية)، ويدل
على مشروعيته النصوص الواردة في ذلك، ومنها قول الله سبحانه ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ (محمد:4)
وقد بيَّن الله في كتابة العزيز (ولم يشترط قتلهم، بل يمكن يتلافي قتلهم بطرق منها):
الوجه الأول: التلطف معهم وترغيبهم في الإسلام . وقد جاء هذا الوجه في قوله تعالى : "
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن
يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا
أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " الأنفال (70).
والذي
يؤخذ من الأسرى هو حريتهم بوقوعهم في الأسر ، وحرمانهم العودة إلى أهليهم .
ومغفرة الله لهم لا تكون إلا بعد إسلامهم وصلاح عقيدتهم واستقامتهم على
صراط الله المستقيم .
والوجه الثاني: هو إطلاق سراحهم مجانا ، بشرط ألا تخشى منهم خطرا في المستقبل . وهذا يرجع إلى إمام المسلمين .
والوجه الثالث :
فهو أخذ الفدية منهم شخصيا أو من دولتهم . وتقدر الفدية حسب ما يراه ولى
أمر المسلمين ، شريطة ألا يكون فيها إجحاف أو تعجيز للأسير عن دفعها .
وهذان الوجهان وردا في قوله تعالى: " فإما منا بعد وإما فداء " محمد (4) .
معالم معاملة الأسرى في الإسلام:
وضع
الإسلام معالم هادية لمعاملة الأسرى منذ أربعة عشر قرنًا، أي قبل أن نسمع
بمعاهدات دولية واتفاقات عالمية في (جنيف) وغيرها، حري بالدنيا كلها أن تقف
أمامها خاشعة متأملة لترى ما للإسلام من تعاليم نبيلة وإنسانية كريمة؛ ذلك
أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم) عقب غزوة بدر وبعد أن فرق الأسرى على
أصحابه ليحرسوهم في رحلة العودة إلى المدينة أذاع بيانًا عامًا صار قاعدة
كلية في التعامل مع الأسرى، وهو "استوصوا بهم خيرا"!!.
فأصبح
لزامًا على كل مسلم أن يعمم هذه الخيرية في كل مجالات معاملات الأسرى،
سواء كانت خيرية مادية أو معنوية، وهي من جوامع كلم النبي- صلى الله عليه
وسلم، والآن إلى المعالم:
أولاً: إطعام الأسير:
الطعام-
كما هو معروف- ضرورة من ضرورات الحياة، وبالرغم من أن المسلمين الأوائل
كانوا في ضيق من العيش، إلا أن ذلك لم يمنعهم من إيثار أسراهم) بما لم يحظَ
به المسلمون أنفسهم، والأصل في ذلك قول الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (الإنسان:8).
(فقد)
جعل الله ذلك من صفات الأبرار الذين يشربون من كأس (في الجنة) كان مزاجها
كافورًا، وهم إنما يطعمونه وهم في أمسِّ الحاجة إليه، كما عبر القرآن
﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ ويبتغون بذلك وجه الله ويطلبون رضاه.. ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا﴾ (الإنسان:9)، ويلتمسون أن ينجيهم الله من كربات اليوم العبوس القمطرير1405هـ).
ويروي
الإمام الطبري في تاريخه هذه الحادثة الباهرة: كان أبو عزيز بن عمير بن
هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى، قال فقال أبو عزيز: مر بي
أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: "شد يديك به.. فإن أمه ذات
متاع لعلها أن تفتديه منك".. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي
من "بدر" فكانوا إذا قدموا غذاءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر***
(كان الخبر عند العرب أحسن من التمر)؛ لوصية رسول الله- صلى الله عليه
وسلم- إياهم بنا ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها، قال:
فأستحي، فأردها على أحدهم، فيردها عليّ ما يمسها (تاريخ الطبري: 2/39. دار
الكتب العلمية. بيروت. ط. أولى. 1407هـ).
إذن
فإطعام الأسير، على الرغم من أنها معاملة إنسانية بحتة، إلا أن الإسلام
أضفى عليها نوعًا من القدسية والعبادة؛ لأن فيها طاعة الله وطاعة رسوله
والقربى إلى الله؛ طلبًا لثوابه واتقاءً لعقابه.
ثانيًا: كساء الأسير:
والكساء
عمومًا أمر واجب لستر العورات، وعدم إشاعة الفاحشة في المجتمع، وأوجب
الشرع كسوة الأسير، وستر عورته، وقد عنون الإمام "البخاري" بابًا كاملاً
أسماه (باب الكسوة للأسارى)، وهو دليل قائم على أهمية ما يحتويه المعْلم من
معنى، قال: "حدثنا عبدالله بن محمد
حدثنا
بن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: لما كان يوم
بدر أُتي بأسارى وأُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي- صلى الله
عليه وسلم- له قميصًا، فوجدوا قميص عبدالله بن أبيّ يقْدُر عليه فكساه
النبي- صلى الله عليه وسلم- إياه فلذلك نزع النبي- صلى الله عليه وسلم-
قميصه الذي ألبسه".
وهذا
دليل على أنه لا بد من كساء الأسير الكساء المناسب له في الطول والعرض
وغير ذلك، فانظر وتأمل، ولعل كثيرًا من أبناء المسلمين لا يجد ما يواري به
عورته.
ثالثًا: مأوى الأسير:
والمأوى
كذلك من ضرورات الحياة وقد كفل الإسلام للأسير في المأوى ما كفله للإنسان
كافةً، وإضافةً إلى تأمين مأكله ومشربه وملبسه ضمن الإسلام مسكنه الصحي
اللائق بإنسانية الإنسان.
وكان هذا المسكن إما في بيوت الصحابة،
فعن الحسن قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُؤتى بالأسير، فيدفعه
إلى بعض المسلمين، فيقول: "أحسن إليه" فيكون عنده اليومين والثلاثة،
فيؤثره على نفسه (صفوة التفاسير للصابوني: 3/493).
وإما في المسجد، فعَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ
"بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْلاً
قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ
ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَرَبَطُوهُ
بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-..." الحديث (رواه مسلم كتاب الجهاد
والسير. باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، وانظر. صحيح ابن حبان:
4/42)
وهكذا
نرى أن مأوى الأسير كان موزعًا بين بيوت الصحابة والمسجد، وقد كانا أكرم
مكانين عند المسلمين، أما ربطه في سارية المسجد فليس فيه شيء من الإساءة،
إنما خوفًا من الهرب فقط؛ لأنه لم تكن توجد في حينها (سجون).
رابعًا: عدم تعذيب الأسير وإكراهِه:
وتعذيب البشر عمومًا وإكراههم أمر محظور في شريعة الإسلام، إذ الإنسان له حرمة محفوظة، وقد كفل الإسلام للأسير ذلك وحفظه من الأذى.
وكيف
يحض الإسلام على إطعامه وسقيه ويوفر له المأوى المناسب والكسوة المناسبة
ويرتِّب الجزاء الكبير على ذلك ثم يستبيح تعذيبه ويهدر كرامته؟!
وتحريم
تعذيب الأسرى يشمل عدم تعذيب الجرحى منهم بطريق الأولى، بل إذا كان الجريح
لا تعينه قوته على المقاومة مُنع قتله وأُمِر بأن يبقى ويداوى ويفدى أو
يُمَن عليه (راجع مثلاً شرح مختصر الخليل: 8/60، الأشباه والنظائر للسيوطي:
52612).
وقد
كان من المعتاد في الأزمنة الغابرة أن يُمثِّل المنتصر بجثث عدوه المغلوب
بقصد التشفي، أما في الإسلام فقد نهى عن ذلك تمامًا، بل إن عموميات الأدلة
الشرعية في الإسلام توصي بالإحسان إليهم كما مر، لكنهم لا يُمثَّل بهم إلا
أن يكونوا مثّلوا بالمسلمين؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ (النحل:126)
وقوله أيضًا:﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة:194).
(والأحسن العفو والصفح، لقوله: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} )
ومن
(الإنسانية العالية) أن شريعة الإسلام لا تجيز إكراه الأسير للحصول على
معلومات عن العدو: "قيل لمالك: أيعذب الأسير إن رُجيَ أن يدل على عورة
العدو؟ قال: ما سمعت بذلك". (التاج والإكليل: 3/353. دار الفكر. بيروت. ط.
ثانية. 1398م)
خامسًا: محادثته والرد عليه وتلبية ما يريد:
ومن
معالم معاملة الإسلام الطيبة للأسير أن يحدثه المسلمون، ويردوا على
استفساراته في حدود سياسة الدولة، وأن يلبوا رغباته في حدود الشرع؛ لأن
تركه وإهماله بعدم الرد عليه نوع من الإهانة وإهدار الكرامة التي نهى عنها
الإسلام في معاملة الأسير، وحوارات النبي مع الأسرى معروفة ومشهورة.
عن
عمران بن حصين قال كانت ثقيف حليف بني عقيل، فأسَرَت ثقيف رجلين من أصحاب
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأسر أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله- صلى الله
عليه وسلم- وهو في الوثاق قال يا محمد، فأتاه فقال ما شأنك؟ فقال بم
أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال "إعظامًا لذلك أخذتك بجريرة حلفائك
ثقيف" ثم انصرف عنه فناداه فقال يا محمد، يا محمد، وكان رسول الله- صلى
الله عليه وسلم- رحيمًا رقيقًا فرجع إليه، فقال "ما شأنك؟" قال إني مسلم.
قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح"، ثم انصرف فناداه فقال يا
محمد، يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ قال إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني
قال "هذه حاجتك" .... الحديث. (رواه مسلم. كتاب النذر. باب لا وفاء لنذر في
معصية الله).
وهذه
المحادثة والكلام والأخذ والرد مع الأسير وتلبية ما يريده- في حدود الشرع
طبعًا- قد تؤدي بالأسير إلى الإسلام، وفيها خير كثير لا سيما لمن يُرجى
إسلامه من الأشراف، الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير.
كما في حديث الرسول مع "ثمامة" وهو مربوط في سارية المسجد.
خرج
إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "ماذا عندك يا ثمامة" فقال:
عندي يا محمد خير، إن تقتل تَقتل ذا دم، وإن تُنعم تنعم على شاكر، وإن كنت
تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
وهكذا ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
"أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد، والله ما
كان على الأرض وجه أبغض إليَ من وجهك.. فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي،
والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك.. فأصبح دينك أحب الدين كله إلي،
والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك.. فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ
.....الحديث (رواه مسلم: كتاب الجهاد والسير. باب ربط الأسير وحبسه وجواز
المن عليه).
سادسا: إعادة الأسير:
تظل
رعاية الإسلام للأسير قائمة منذ وقوعه أسيرًا في أيدي المسلمين إطعامًا
وإسقاءً وكسوةً ومأوىً ومعاملةً طيبةً؛ حتى يعود إلى قومه ويتسلمه أهله.
يروي
الإمام الطبري في تاريخه وقوع ابنة حاتم الطائي في سبايا طيئ، فجعلت ابنة
حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن بها، فمر بها رسول الله- صلى
الله عليه وسلم- فقامت إليه، وكانت امرأةً جزلةً، فقالت: يا رسول الله هلك
الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك.. قال: ومَن وافِدُك؟
قالت: عدي بن حاتم. قال: الفارّ من الله ورسوله... قال: قد فعلت، فلا تعجلي
بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، قالت: فكساني
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحملني، وأعطاني نفقةً، فخرجَت معهم حتى
قدمت الشام على أخيها ليسألها: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى
والله أن تلحق به سريعًا فإن يكن الرجل نبيًا فالسابق إليه له فضيلة( راجع
تاريخ الطبري: 2/187-188).
وبهذه
الحادثة سنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد المن على الأسير، تأمينَ
الطريق الذي سيرجع منه الأسير، وتزويده بالنفقة والمال الكافي، وتوفير
الكسوة والرفقة الآمنة له؛ حتى يصل إلى قومه سالمًا آمنًا.
بعد
هذا البيان لكيفية معاملة الإسلام لأسرى الحرب أترك للقارئ الكريم باب
التفكر والتدبر في صفحة الواقع الدامية؛ ليقارن ذلك بما فعلته أمريكا مع
الهنود الحمر، وما تفعله اليوم مع أفغانستان والعراق، وينظر إلى أسرى
المجاهدين بكوبا (جوانتانامو)، وأسرى المجاهدين الفلسطينيين في السجون
اليهودية، وأسرى المجاهدين الكشميريين في السجون الهندوسية، وأسرى
المجاهدين الشيشانيين في روسيا.. وغيرهم من الأسرى المستضعفين الذين يعانون
التعذيب والتشويه، وصدق الله القائل... ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾. (الكهف:1