إذاً.. فنحن ـ بعد هذه الإشارات إلى: ـ مخطط الفتنة الطائفية.. وجذورها منذ مطلع العصر الحديث.. وفي ظل الغواية الاستعمارية..
ـ وبعض وقائع أحداث تلك الفتنة.. في طورها الذي صاحب قيام الإحياء اليهودي الصهيوني..
ـ والفكر العنصري المنظر لهذه الفتنة ـ
واجدون أنفسنا ـ بعد هذه الإشارات ـ
أمام انقلاب، ليس على هوية بلادنا ـ الوطنية.. والقومية.. والحضارية ـ
فحسب.. بل أمام انقلاب طال ـ كذلك ـ طبيعة المسيحية ذاتها، وطبيعة الرسالة
التاريخية لكنيستها ـ كما عرفتها الدنيا وتعارفت عليها عبر التاريخ..
وإذا كانت هذه إشارات ـ مجرد إشارات ـ
لمعالم هذا الانقلاب الطائفي العنصري الانعزالي، الذي تبلور تياره في
أوساط النخبة الأرثوذكسية عقب الحرب العالمية الثانية.. في ظلال ـ
وبالموازاة مع ـ نزعات الطائفية والعنصرية التي انتعشت بعد النجاح في إقامة
الكيان الصهيوني على أرض فلسطين..
فإننا لا
نبالغ إذا قلنا : إننا بإزاء انقلاب طائفي.. تقوده الكنيسة الأرثوذكسية على
مقومات الهوية الوطنية والقومية والحضارية لمصر.. وعلى تاريخها..
ورسالتها التي حملتها وتحملها إلى العالمين.. وأمام "حلم مجنون" بإعادة
عقارب الساعة إلى ما قبل أربعة عشر قرنًا.. وذلك طمعًا في تكرار ما حدث على
أرض فلسطين بأرض الكنانة!..
إننا أمام أقلية دينية، لا تتجاوز نسبتها 5.8% من السكان.. يقودها
تيار طائفي عنصري انعزالي يسعى إلى إدارة عقارب التاريخ والجغرافيا
والهوية إلى الوراء، في انسجام تام مع مخطط التفتيت والفوضى الخلاقة الذي
ترعاه الإمبريالية الأمريكية والعنصرية الصهيونية والصليبية العالمية.. غير
عابئ بالأغلبية المسلمة.. بل ولا حتى بقطاعات من عقلاء المسيحيين المصريين الذين يرفضون الانخراط في هذا الاتجاه..
***
ـ وكما سلطنا الأضواء على المخطط
"الإمبريالي.. الصليبي.. الصهيوني" لإعادة تفتيت وشرذمة العالم الإسلامي ـ
بما فيه مصر.. بل وخاصة مصر ـ بواسطة الأقليات الدينية والقومية والمذهبية ـ
.. وسلطنا الضوء ـ كذلك ـ على الشرائح التي سقطت في مستنقع الخيانة الذي
رسمه هذا المخطط..
فإننا ـ إعمالا للمنهج القرآني:{ليسو سواء} ـ قد سلطنا الضوء على مواقف العقل والحكمة الوطنية التي عبرت عنها أصوات رموز دينية ومدنية بين هذه الأقليات..
أولئك الذين أعلنوا أن هذه الأقليات هي جزء أصيل من النسيج الوطني والقومي
والحضاري للأمة العربية الإسلامية.. وأن مشكلاتهم هي مشكلات الأمة..
وطموحاتهم هي طموحات الأمة.. ومصيرهم لا ينفصل عن مصير الأمة.. وأمنهم
وأمانهم في مشروع الأمة الحضاري والنهضوي..
نعم.. لقد سلطنا الأضواء على مواقف هؤلاء العقلاء الحكماء.. الذين قالوا ـ بلسان الأنبا موسى ـ أسقف الشباب بالكنيسة الأرثوذكسية ـ :
"نحن، كأقباط، لا
نشعر أننا أقلية، لأنه ليس بيننا وبين إخواننا المسلمين فرق عرقي "إثني"
لأننا مصريون، وأتجاسر وأقول: كلنا أقباط، بمعنى أنه يجري فينا دم واحد من
أيام الفراعنة، ووحدة المسألة العرقية تجعلنا متحدين مهما اختلفنا.
هناك طبعًا التمايز الديني، لكن يظل
الأقوى والأوضح الوحدة العرقية. ولا نشعر، نحن الأقباط، بشعور الأقلية
البغيض الذي يعاني منه غيرنا.. نحن أقلية عددية فقط، ولكن هذا لا يجعلنا
نشعر أن هناك شرخًا بيننا وبين إخواننا المسلمين.
من جهة الهوية
العربية، نحن مصريون عرقًا، لكن الثقافة الإسلامية هي السائدة الآن، كانت
الثقافة القبطية هي السائدة قبل دخول الإسلام، وأي قبطي يحمل في كثير من
حديثه تعبيرات إسلامية، يتحدث بها ببساطة ودون شعور بأنها دخيلة، بل هي جزء
من مكوناته.
نحن نحيا العربية لأنها هويتنا الثقافية،
ومقتنعون بالطبع بأن فكرة العروبة فكرة سياسية واقتصادية وثقافية،
بالإضافة لوحدة المصير المشترك.. والعلاقة بين الجذور والعروبة علاقة
تناصرية.. هذه دوائر متداخلة..
ومصر دائما
دولة مسلمة ومتدينة، ولكن بدون تطرف، ولو عشنا، كمسلمين وأقباط، وفي إطار
الصحوة الدينية المصحوبة بصحوة وطنية فسيكون المستقبل أكثر من مشرق.
نحن، في مصر، نسيج واحد، وسعداء
بذلك، وهذه حماية استراتيجية لنا كأقباط، ونحن نرفض المسيحية السياسية، لأن
المسيح قال:"مملكتي ليست بالعالم".. ولو حدثت المسيحية السياسية تصبح
انتكاسة على المسيحية..
وتقسيم مصر فكرة مستحيلة، وغير مسيحية، ولو فكرنا في ذلك معناه أننا نجهز أنفسنا للإبادة.. إنها فكرة غبية.. فكرة صهيونية من أجل تفتيت مصر.."(1)
هكذا تحدث صوت العقل والحكمة، على لسان الأنبا موسى، من داخل الكنيسة الأرثوذكسية.
ـ ومن داخل الكنيسة الكاثوليكية.. تحدث صوت العقل والحكمة، على لسان الأنبا يوحنا قلته، نائب البطرك الكاثوليكي في مصر.. فقال:
"أوافق تمامًا على أن أكون مصريًا.. مسيحيًا، تحت حضارة إسلامية.
أنا مسلم ثقافة مائة في المائة..
أنا عضو
في الحضارة الإسلامية كما تعلمتها في الجامعة المصرية.. تعلمت أن النبي،
صلى الله عليه وسلم، سمح لمسيحيي اليمن أن يصلوا صلاة الفصح في مسجد
المدينة.. فإذا كانت الحضارة الإسلامية بهذه الصورة.. التي تجعل الدولة
الإسلامية تحارب لتحرير الأسير المسيحي.. والتي تعلي من قيمة الإنسان
كخليفة عن الله في الأرض.. فكلنا مسلمون حضارة وثقافة..
وإنه
ليشرفني، وأفخر أنني مسيحي عربي، أعيش في حضارة إسلامية.. في بلد إسلامي..
وأساهم وأبني، مع جميع المواطنين، هذه الحضارة الرائعة.."(2)
ـ وغير أصوات العقل والحكمة عند بعض رجال الكهنوت.. وجدنا هذه المواقف العاقلة والحكيمة بين عقلاء المسيحيين العلمانيين ـ أي غير الأكليروس..
فالدكتور غالي شكري (1935 ـ 1998م) يكتب فيقول:
"إن الحضارة الإسلامية هي
الانتماء الأساسي لأقباط مصر.. وعلى الشباب القبطي أن يدرك جيدًا أن هذه
الحضارة العربية الإسلامية هي حضارتنا الأساسية.. إنها الانتماء الأساسي
لكافة المواطنين.
صحيح أن لدينا حضارات عديدة،
من الفرعونية إلى اليوم، ولكن الحضارة الإسلامية قد ورثت كل ما سبقها من
حضارات، وأصبحت هي الانتماء الأساسي، والذي بدونه يصبح المواطن في ضياع..
إننا ننتمي ـ كعرب من مصر ـ
إلى الإسلام الحضاري والثقافي، وبدون هذا الانتماء نصبح في ضياع مطلق..
وهذا الانتماء لا يتعارض مطلقًا مع العقيدة الدينية. بالعكس ـ لماذا؟ لأن
الإسلام وحد العرب، وكان عاملاً توحيديًا للشعوب والقبائل والمذاهب
والعقائد.."(3)
ـ وفي نفس الموقف العاقل والحكيم ـ والعميق ـ نجده عند المفكر الحضاري الدكتور أنور عبد الملك.. الذي كتب يقول:
"إن أي إنسان عاقل يدرك أن مصر هي أقدم أمة وحضارة في التاريخ قاطبة.
ومنذ الفتح العربي الإسلامي دخلنا بالتدريج في إطار دائرة أسميناها ـ
منذ خمسين عامًا ـ الدائرة العربية، ولكنها في الواقع هي دائرة الحضارة
الإسلامية، التي تتمركز حول مبدأ واحد هو "التوحيد" الذي يتفق بشكل مطلق مع
خصوصية مصر. فالحياة العامة في مصر بها قبول بالسليقة للتوحيد، ناتج من
وحدة الأمة المصرية منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة، وبالتالي فالإطار
الحضاري للإسلام يشمل المرحلة القبطية، "أي المسيحية المصرية"، كما أن
لغتنا هي العربية، لغة القرآن"(4)
ـ ونفس الموقف العاقل والحكيم ـ والواعي ـ نجده عن المفكر الحضاري والمناضل السياسي الدكتور رؤوف نظمي ـ (محجوب عمر) ـ الذي قال عن المرجعية الإسلامية الواحدة، والموحدة، لكل الأمة:
"الأمة مرجعيتها واحدة، وهي
الإسلام، بما له من تراث وعقائد وأصول.. والأساس هو أن يكون للأمة مرجعية
واحدة، فإذا كانت الأمة الإسلامية فمرجعيتها الإسلام، وإذا كانت
كونفوشيوسية، فمرجعيتها الكونفوشيوسية..
إن أغلبية الأمة مسلمون، والمطلوب هو توجيه الجهود للعمل مع الأغلبية
التي لا تزال على مرجعيتها التاريخية، على تراثها الحضاري، وعلى عقيدتها..
نحن لدينا دستور يقول: إن دين
الدولة هو الإسلام، وكافة مواد القانون تكون في حدود الشريعة، والمطلوب
فقط ترويج هذا الفهم لإطلاق طاقات الإبداع في المشروع الحضاري..
وإذا كانت المرجعية الإسلامية
هي مرجعية الجميع، تنتهي المشكلة. فالمطلوب أن يكون مشروعنا حضاريًا، من
حضارتنا، وحضارتنا إسلامية، فالمطلوب أن يكون الإسلام هو المرجعية العامة
للجميع"(5)
ـ ونفس الموقف العاقل والحكيم نجده واضحًا وحاسمًا عند الكاتب صادق عزيز.. الذي قال:
"إن مصر دولة إسلامية منذ
دخلها الإسلام، ويومها كان المسلمون هم الأقلية، وكان الأقباط هم الأغلبية،
ومع ذلك كانت إسلامية. بل إن مصر في تاريخها لم تكن دولة "قبطية" حتى من
قبل الإسلام، فهي تقع دائمًا تحت الحكم الروماني أو البيزنطي أو المقدوني،
أما الحكم القبطي فلم نسمع عنه أبدًا.. وفيما عدا الأحوال الشخصية فإن
أحكام الشريعة الإسلامية لا تتعارض إطلاقًا مع المسيحية، وذلك لعدة أسباب
أهمها:
1ـ أنه إذا كانت الدولة
إسلامية، فالقوانين الوضعية يجب أن تكون إسلامية، وعلينا قبول ذلك، بل
والترحيب به، عملاً بقول المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"
2ـ أن أحكام الشريعة الإسلامية تنطبق في كثير جدًا من الأحوال مع شريعة العهد القديم، وهي ما جاء المسيح لا لينقضها.. بل ليكملها..
3ـ أن المسيحية لم تأت بأحكام وقوانين وضعية، عملا بقوله ـ (المسيح) ـ :
"مملكتي ليست في هذا العالم"، ومن ثم ترك للحكام أو لقيصر وضع الأحكام
الأرضية، وأمرنا أن نعطي ما للحكام للحكام.."(6)
فمصر دولة إسلامية.. مرجعيتها
الإسلام، منذ دخلها الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا.. ولم تكن دولة قبطية حتى
قبل دخول الإسلام إليها، لأن المسيحية ليست دولة، ومملكة المسيح ليس في
هذا العالم.. والعروبة هي الهوية الثقافية والقومية لمصر..
وليس في مصر مشكلة "عرقية ـ
إثنية"، لأن شعبها نسيج عرقي ووطني واحد: مصريون أسلموا ـ هم الأغلبية
الساحقة ـ ومصريون ظلوا مسيحيين ـ وهم الأقلية في الدين فقط.. أي في
الاعتقاد، أما في منظومة القيم والأخلاق والثقافة فالجميع مسلمون حضاريًا..
والمسيحية السياسية تعني "تجهيز المسيحيين للإبادة"!..
***
هذا هو موقف العقلاء والحكماء ـ من المسيحيين المصريين ـ من رجال الكهنوت ومن العلمانيين..
لكن السؤال ـ المطروح اليوم ـ وأمام تصاعد النزعة الطائفية العنصرية الانعزالية التي تقودها الكنيسة
ـ أين موقف هؤلاء العقلاء الحكماء؟!.. ولماذا الصمت على هذا المشروع
الطائفي، الذي "يجهز المسيحيين للإبادة" ـ كما قال الأنبا موسى؟!..
نحن نعلم درجة القمع التي يمارسها الكاهن الأكبر
(البابا شنودة) إزاء المعارضين لسلطاته المستبدة.. ونعلم تأثير سلاح
"الحرمان الديني" الذي استخدمه ويستخدمه بإسراف غير مسبوق ضد من تحدثه نفسه
بالخروج على هذه النزعة الطائفية التي دفع الأقباط في مستنقعها..
لكن.. ومع أخذ كل ذلك في
الاعتبار.. فإن القضية قضية وطن وأمة وحضارة ومصير ـ ولابد من موقف واضح
وشجاع ومعلن لإنقاذ الأقباط وكنيستهم من هذا المنزلق الخطير الذي يوشكون
على التردي فيه!..
***
ــــــــــــــــــــ
* هوامش:
1ـ د. سعد الدين إبراهيم (الملل والنحل والأعراق) ص529 ـ 534.
2ـ الأنبا يوحنا قلته: من حوار دار عقب محاضرة لي ـ في
جمهور من النخبة المسيحية، الممثلة لمختلف الطوائف ـ دعت إليها "اللجنة
المصرية للعدالة والسلام" ـ عنوانها: "أثر البعد الديني في الاشتراك في
العمل العام"، بفندق الحرية ـ بمصر الجديدة ـ بتاريخ 9 نوفمبر سنة 1991م ـ
انظر كتابنا (الإسلام والسياسة) ص136 طبعة مكتبة الشروق الدولية ـ القاهرة
سنة 2008م.
3ـ صحيفة (الوفد) عدد رجب سنة 1413هـ ـ 21 يناير سنة 1993م.
4ـ صحيفة ( أخبار الأدب) في 30/4/2000م.
5ـ مجلة (منبر حر) عدد خريف سنة 1989م ـ ص41و42 ـ بيروت.
6ـ جمال بدوي (الفتنة الطائفية: جذورها وأسبابها. دراسة تاريخية ورؤية تحليلية) ص137 ـ 141 ـ طبعة القاهرة سنة 1992م.