بالرغم من الارتفاع المتزايد للتوتر في المنطقة وتكاثر الكلام خلال الأسابيع الماضية عن إمكانية وقوع "حرب لبنانية ثالثة" تشنها إسرائيل، إلا أن المناوشات الدامية التي نشبت على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية في الثالث من آب/ أغسطس بين جيش الدفاع الإسرائيلي والجيش اللبناني قد فاجأت العديد من المحللين والمسؤولين على حين غرة لسرعتها المفاجئة، وحدتها وطبيعة لاعبيها.
في السنوات الأربع الأخيرة، كان المسؤولون الإسرائيليون يُعبِئُون، بطريقة منتظمة، الرأي العام المحلي والعالمي ضد ما يشكله حزب الله من خطر، وكيف أن هذه الفئة الموالية لإيران تعمل على تقويض ما تمثله الحكومة اللبنانية. لكن الحادث الأخير لم يحصل مع حزب الله، بل مع الجيش اللبناني الذي يمثل الشرعية اللبنانية، والذي أنفقت الولايات المتحدة الأميركية والحلفاء الغربيين والعرب مئات ملايين الدولارات لتجهيزه وتدريبه من أجل نشر سلطة الدولة، وحماية السيادة الوطنية، ومكافحة الإرهاب، بانتظار أن يقوم في يوم من الأيام بنزع سلاح كافة الجماعات المسلحة.
غير أن الانتهاكات الإسرائيلية اليومية للحدود الجوية والبحرية والبرية اللبنانية، والتي كان يتم التبليغ عنها باستمرار بواسطة القوات الدولية المؤقتة اليونيفيل UNIFIL في السنوات الأخيرة، كانت تضعف صورة الجيش اللبناني وتدعم موقف حزب الله على أنه القوة المقاومة التي يحتاج إليها لبنان لتوفير الدعم للقوات العسكرية النظامية الضعيفة، التي لا تستطيع مجابهة الخروقات اليومية التي يقوم بها جيش الدفاع الإسرائيلي ضد السيادة الوطنية اللبنانية.
لقد أعطت إسرائيل لنفسها باستمرار الحجة لكي تبرر انتهاكاتها اليومية للأجواء والشواطئ والأراضي اللبنانية. فهي لم تنسحب من الأراضي اللبنانية بتاتاً بحسب قرار الأمم المتحدة رقم 1701، ورفضت الانصياع لكافة
النداءات والمحاولات التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية والمسؤولون الأوروبيون للانسحاب من الأراضي اللبنانية في قرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا، لتعزيز الموقف السياسي لرئيس الوزراء اللبناني السيد سعد الحريري المدعوم من الغرب عبر تجريد حزب الله من حجته الرئيسية لحمل السلاح، وهي لتحرير الأراضي التي تحتلها إسرائيل. فمع تواجد حكومة ضعيفة تشترك فيها أحزاب مدعومة من إيران وسوريا ومن بينها حزب الله، وجد الحلفاء الغربيون والعرب في الجيش اللبناني المؤسسة الرئيسية التي من الممكن الاستثمار فيها للمحافظة على الوحدة والسيادة الوطنية اللبنانية حتى يأتي اليوم الذي يمتلك فيه الجيش القوة الكافية لكي يستطيع أن يحل كافة الميليشيات المسلحة غير القانونية ويصبح القوة المسلحة الوحيدة في البلاد.
تتعارض الحملة الإسرائيلية الأخيرة مع مخططات المجتمع الدولي، بل أكثر من ذلك، فإنه يهدد واحدة من أهم القوى التي خاضت معارك بطولية ضد الإسلاميين الإرهابيين الذين كانوا في طريقهم إلى العراق لقتل جنود الولايات المتحدة الأميركية والمدنيين العراقيين الأبرياء. لقد خسر الجيش اللبناني 241 جندياً في العام 2007 في المعارك الضارية التي خاضها ضد قوات فتح الإسلام الإرهابية المتطرفة التابعة لتنظيم القاعدة في معسكر نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان. ومنذ ذلك الوقت قام الجيش اللبناني بالقبض على والتخلص من العديد من الناشطين في منظمة القاعدة الذين كانوا يخططون لشن هجمات على أهداف عربية وغربية في المنطقة. والآن بدأت الحكومة الإسرائيلية تحث الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والعديد من البلدان الغربية لوقف المساعدات العسكرية للجيش اللبناني ومن خلال ذلك المخاطرة بالجهود المبذولة لمحاربة الإرهاب، وتقويض مستقبل لبنان، ليس لشيء سوى لأن الجنود اللبنانيين تجرؤوا على ممارسة حقهم في الدفاع عن حدودهم ضد إحدى الانتهاكات الإسرائيلية اليومية.
تدعي إسرائيل أن حزب الله قد تغلغل داخل القوات العسكرية اللبنانية وأن هذه العناصر هي التي تسببت في القتال في الثالث من آب/ أغسطس الحالي. إلا أن أحد شهداء الجيش اللبناني في هذه المعركة كان جندياً مسيحياً، ومن ثم فهو ليس المجند المثالي بالنسبة لحزب الله. فمسقط رأسه قرية مغدوشه في جنوب لبنان ذات الأكثرية المسيحية أصبحت بين ليلة وضحاها بلدة معادية لإسرائيل ومتعاطفة مع حزب الله.
ثمة عنصر إيجابي لهذه الواقعة، فقد قامت قوى الرابع عشر من آذار المؤيدة للغرب باستغلال هذا الحدث، كبرهان على أن الجيش اللبناني بالرغم من عدم تكافؤه بالمقارنة مع جيش الدفاع الإسرائيلي، يمكنه أن يقف في مواجهة إسرائيل، لذا ليس هنالك من ضرورة للمقاومة المسلحة من قبل حزب الله. فقد وحد هذا الحدث الذي جرى في 3 آب/ أغسطس كافة اللبنانيين ضد العدو الإسرائيلي، لأن جيش الدفاع الإسرائيلي تجرأ على مهاجمة الرمز الوحيد للوحدة الوطنية أي الجيش اللبناني. فبقراءة الصحف المحلية ومشاهدة الأخبار التلفزيونية المسائية في اليوم الذي تلا هذا الحدث يشعر المرء بأن اللبنانيين المستائين من حمل حزب الله للسلاح، مستعدون لإثارة هذه المشكلة من جديد.
وقد قال أحد كبار المسؤولين في الجيش اللبناني تعليقاً على الإدعاء الإسرائيلي القائل بأن الأسلحة التي ترسل إلى الجيش اللبناني يجرى تمريرها إلى حزب الله : "برهنت جميع التحريات التي أجراها المسؤولون العسكريون الأميركيون عبر السنوات الماضية أن كل قطعة من المعدات العسكرية التي منحتها الولايات المتحدة الأميركية إلى لبنان منذ العام 1980 ما زالت موجودة وليس هنالك أي نقص. لذا فإن الإدعاءات بأن الجيش اللبناني كان يعطي السلاح لحزب الله أو لأي مجموعات أخرى قد برهن على أنه أكاذيب. وأضاف المسؤول:"إن حزب الله قد حصل ويحصل على أسلحة أكثر تقدماً وحداثة من مصادره الخاصة، وأنه لا يحتاج إلى الجيش اللبناني في أي شيء." وقد أشار هذا المسؤول الرفيع المستوى في الجيش اللبناني أن هنالك جهود دولية تبذل لجعل الجيش اللبناني يفوق حزب الله تسليحاً، "ولكن كافة هذه الجهود تتم عرقلتها وتأخيرها من قبل اللوبي الإسرائيلي في واشنطن وأوروبا." ويُذكِّر هذا المسؤول الغرب:" أنه لولا الجيش اللبناني، لكان شمال لبنان قد أصبح حصناً منيعاً لنظام القاعدة بينما النصف الثاني من لبنان في حال غياب الدولة تحت سيطرة المحور الإيراني كلياً."
وبالكلام مع مجموعة من الجنرالات في الجيش اللبناني معظمهم من المسيحيين، أجمع هؤلاء على رأي واحد في ما يختص بالحدث الأخير مع إسرائيل، الذي بالرغم من أنه لم يكن مقصوداً أو مدبراً من قبل اللبنانيين، " كان ولا شك رسالة إلى الإسرائيليين وإلى العالم يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وهي أن الجيش اللبناني مصمم على تنفيذ مهمته بالكامل وهي الحفاظ على السيادة الوطنية ضد كافة التهديدات بما في ذلك إسرائيل." وقد أضاف هؤلاء : "إذا كنا حلفاء للغرب ونتقبل المساعدة من الولايات المتحدة الأميركية، ويكون مؤدّى ذلك أننا نحارب فقط أعداء الغرب ونسمح لإسرائيل أن تخرق وتنتهك سيادتنا، فإن هذا الأمر الذي يضعف من سلطة الدولة ويفقدها بريق صورتها محلياً ويضعف من معنويات الجنود، ويكون معنى ذلك أن الغرب ينتهج سياسة خاطئة متداعية سوف يكون لها عواقب وخيمة على لبنان والمنطقة برمتها بما في ذلك إسرائيل."
إن بناء دولة لبنانية قوية بجيش لبناني قوي يمكنه أن يتغلب على الإرهابيين وأن يبسط سلطته على كافة أراضيه هو السبيل الوحيد لإقامة دولة لبنانية قادرة في يوم من الأيام أن توقع معاهدة سلام مع إسرائيل، كجزء من اتفاق سلام شامل للنزاع في الشرق الأوسط. فالتمسك بالسياسة الإسرائيلية التقليدية التي تعتمد على التكنولوجيا العسكرية المتفوقة والاستئساد والتخويف بهدف الردع بغية حل المشاكل السياسية قد ثبت أنه كارثي بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في المنطقة مراراً وتكراراَ.