بقلم جورج فريدمان .
" رئيس مؤسسة ستراتفور ، المؤسسة العالمية الرائدة في مجال التحليل الامني والاستخباراتي واحد الكتاب في جريدة " النيويورك تايمز الامريكية " ، وهو خبير في توقع الاحداث الاستراتجية الكبري المستقبلية لمدة عقد قادم علي الاقل ، وهو مؤلف كتاب " المئة عام القادمة " والذي طبع بأكثر من 20 لغة ومن اكثر الكتب مبيعا حول العالم وله العديد من الكتب والمؤلفات الاخري ، وهو خبير لاكثر من 500 شركة من ابرزها : " جيه بي غورمان ، سيتي بنك ، ارنست ، وبوينغ " ويعمل بكلية القيادة الاسترالية وكلية الأركان، ومختبر أبحاث سلاح الجو إغلين، بالولايات المتحدة وكذلك كلية القيادة والاركان لمشاة البحرية الامريكية " المارينز " ، والعديد من المنظمات العسكرية والحكومية الأخرى ، الدكتور فريدمان ايضا عمل في العديد من الدول الاخري ومنها تركيا وألمانيا وبولندا وأذربيجان واستراليا ونيوزيلندا .
بدأت المواجهة الحالية في قطاع غزة قبل شهر من الان ، وتحديدا في الثاني عشر من شهر يونية الماضي ، بعدما اختفي ثلاثة من المراهقين الاسرائيليين في الضفة الغربية ، وأعلنت اسرائيل عن ذلك الاختفاء في اليوم التالي مباشرة اي 13 يونية ، وبعد ذلك مباشرة القت اسرائيل المسئولية علي حماس ، وفي 14 يونية قامت حماس باطلاق ثلاثة صواريخ علي منطقة " هوف عسقلان " ، وأعقب ذلك شن المستوطنين الاسرائيليين في القدس هجمات علي الفلسطينيين ، وفي الثامن من هذا الشهر " يوليو " ، أعلن الاسرائيليين بدأ عملية " Protective Edge " والتي تعني بالعربية " الحافة الواقية " ، وبدأت في استدعاء الاحتياط ، وردت حماس علي ذلك بأستخدام صواريخ اطول في المدي وقامت بقصف تل ابيب العاصمة الاسرائيلية ، وبالتبعية زادت اسرائيل من غاراتها علي قطاع غزة .
عند هذه النقطة ، كان ظاهرا ان اسرائيل قد نشرت قوات كافية لتكون جاهزة للقيام بعملية برية داخل قطاع غزة ، ومع ذلك ، فأن اسرائيل لم تقدم علي هذه الخطوة حتي الان ، وأقتصر الامر علي الهجمات بسلاح الجو ، وبعض الغارات التي تقوم بها القوات الخاصة من جانب اسرائيل ، واطلاق صواريخ ضد اهداف داخل اسرائيل من جانب حماس .
ومن وجهه نظر عسكرية بحتة ، فأن هذه القضية تظهر ان حماس تسعي لوضع رادع للعمليات الاسرائيلية ضد غزة ، ففي عملية Cast Lead " الرصاص المصبوب " في اواخر العام 2008 ومطلع 2009 نجحت اسرائيل في ان تمزق غزة وتعطلها بعمق ، ووجدت حماس نفسها لاتملك اي خيارات سوي محاولة ايقاع اكبر قدر من الخسائر الممكنة في صفوف الجيش الاسرائيلي ، ولكن حجم الخسائر البشرية الاسرائيلية في عملية " الرصاص المصبوب " لم يثبت ان حماس تشكل رادع لاسرائيل من الدخول لقطاع غزة .
اما حماس الان فلقد اضافت الي ترسانتها الصاروخية القصيرة المدي في 2009 صواريخ ذات مدي اطول بكثير ، ووصل الجيل الاحدث منها الي قلب الوسط السكاني الاسرائيلي فعلا " مثلث القدس/تل ابيب/حيفا " ، ومع ذلك فأن مالدي حماس يظل " قذائف " وليس " صواريخ " ، وهذا يعني انها لاتمتلك نظام للتوجيه ، ومسألة انها كانت ذات تأثير مرة واحدة فهو من قبيل الصدفة ، ونظرا لنقاط الضعف تلك ، فأن ما تأمله حماس ان يكون وجود عدد كبير من الصواريخ المختلفه المدي خطرا يضاعف من احتمال وقوع عدد كبير من القتلي بين الاسرائيليين ، ويكون من شأن هذا الخطر رادعا لاسرائيل من ان تقوم بأي عملية ضد غزة.
وفي الواقع فأن التهديد الذي تشكله صواريخ حماس تهديد كبير فعليا ، وفقا لكبار ضباط سلاح الجو الاسرائيلي قاموا بالتعليق علي هذا الموضوع ، خاصة ان اسرائيل تفتقد الي المعلومات الاستخباراتية التي تحدد اماكن تخزين هذه الصواريخ ومواقع اطلاقها ، فغزة هي عبارة عن خلية نحل مرتبطه بالعديد من الانفاق ، والعديد من هذه الانفاق عميق جدا ، وهذه القلة في المعلومات لدي الاسرائيليين ، تحد من قدرة الذخائر الاسرائيلية المحموله جوا علي اختراق مناطق التخزين وتدميرها ، ويحرم اسرائيل بالتالي من هدفها في تدمير القدرة الصاروخية لحماس ، ولدي الاسرائيليين رغبة في تحقيق هدفهم السالف الذكر عبر الهجمات الجوية ، ولكن هذا يصطدم مع انه مع تدمير جزء من هذه القدرة عبر الجو ، وجزء اخر عبر عمليات للقوات الخاصة ، فستظل اسرائيل غير قادره علي القضاء علي هذا التهديد ، ليصبح الحل الوحيد هو القيام بهجوم واسع النطاق علي قطاع غزة بهدف احتلالها ، مما سيمكن الاسرائيليين من اجراء عملية بحث واسعة النطاق عن اماكن هذه الصواريخ ، وتدميرها علي الارض .
وكانت حماس قد اختارت ان تطلق صواريخها لاقناع الاسرائيليين ان لديها القدرة الكافية علي زيادة خسائرهم في المثلث السكاني السالف الذكر ان ارادت حماس ذلك ، ومن هنا يجب علي الاسرائيليين ان يدركوا ان اي هجوم بري لهم علي القطاع من شأنه ان يؤدي في البداية الي وابل هائل من الصواريخ خصوصا ان في هذه الحالة ستكون حماس في وضعية "use-it-or-lose-it" اي " استخدمه او افقده " ، وهذا ايضا تأمل حماس من خلاله ان يشكل ردعا اخر لاسرائيل كي لاتقوم بعملية ضد غزة .
حتي الان ، فأن اسرائيل احجمت عن الهجوم وتستخدم الضربات الجوية ، ولايزال من غير الواضح الي اي مدي كان الخوف من اطلاق حماس لصواريخها عاملا مقيدا لها، ومما لاشك فيه فأن الاسرائيليين قلقين لعلمهم ان حماس الان اكثر استعدادا مما كانت عليه ابان عملية " الرصاص المصبوب " ، وهذا مايعني بجانب الصواريخ الاطول مدي ، ان قدرة حماس علي استخدام الصواريخ المضادة للدروع ضد دبابات " الميركافا " ، والعبوات الناسفة ضد المشاة قد زادت ، وعلاوة علي ذلك فأن احتلال غزة سيكون عملية مكلفة ومعقده للاسرائيليين وذلك لان عملية البحث عن الصواريخ وتدميرها قد تستغرق اسابيع ، وفي هذه الفترة فأن الخسائر الاسرائيلية ستزيد ، بالاضافة الي العواقب السياسية المترتبه علي الهجوم والقادمه من اوروبا علي وجه الخصوص ، بعدما حدثت بعض ردود الافعال عندما اعلن الاسرائيليين بدأ عمليتهم الحالية " الحافة الواقية " .
وكما ذكر ، فأن القضية الرئيسية للاسرائيليين ، هو " المعلومات المخابراتية " ، وبعض المعلومات تشير الي ان الصواريخ التي في يد حماس الان وصلت اليها من ايران عن طريق السودان ، عبر طرق تزيد مسافتها عن الالف ميل ، مما يجعل من الصعب التصديق ان هناك طريقة تنقل بها الصواريخ و لاتستطيع المخابرات الاسرائيلية او الامريكية ان تكتشفها وتمنعها ، وفي النهاية تصل الي غزة علي الرغم من الرقابة المصرية والاسرائيلية عليها ، وحتي لو قلنا اننا لانصدق ان هذا يحدث ، وان هناك طرف اخر يمد حماس بهذه الصواريخ فسيظل السؤال مطروحا ، كيف وصلت هذه الصواريخ ؟ .
وبطريقة اخري فأن السؤال هذا طالما طرح فأن المعني الوحيد له ان اسرائيل فشلت في كشف و اعتراض الصواريخ او اجزاء الصواريخ قبل ان تصل الي حماس ، وهذا مايؤدي لتأثير مباشر علي الثقة في القيادات الامنية والعسكرية والسياسية الاسرائيلية العليا ، وبالتالي فأن هذه النقطة اثارت ان مايطلق حاليا هو جزء صغير مما تملكه حماس فعلا ، وان العملية البرية يجب ان تنطلق .
ومع انه قد تم بذل عدد من المحاولات للتوسط بين اسرائيل وحماس ، ظلت معظم هذه المحاولات باهته ، وظهرت ادانات للعنف ونداءات لوقف اطلاق النار واحلال السلام بشكل روتيني اكثر من المعتاد ، وبدلا من ترك مصر تلعب دورها كوسيط مبدئي ، فأن قطر وتركيا تواجدا في مناقشات وقف اطلاق النار ، وظهرت اخبار تفيد ايضا ان وزير الخارجية الامريكي " جون كيري " قد اجري اتصالا هاتفيا برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم الاحد لكي يقدم المساعدة كوسيط في التهدئة بين الطرفين ، وخلال ذلك كله ناقش دبلوماسيين كبار من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والمانيا جهود التهدئة علي هامش مؤتمر بخصوص ايران ، وبدأت الحكومة الاسرائيلية في الاعلان عن خطة لتنمية واعمار غزة مقابل نزع سلاح حماس .
ومع هذا كله يبقي سبب وجيه لبطء وتيرة جهود وقف اطلاق النار ، فحماس كما يتضح لديها القدرة علي تجديد قدرتها الصاروخية من خلال طرق تعبر بها هذه الصواريخ سيناء ، واسرائيل لايمكنها ان تعتمد علي مصر فقط كوسيط لوقف اطلاق النار ، كما انها في نفس الوقت لاتثق في قطر وتركيا للقيام بهذا الدور ، لذا فبدلا من ذلك كله تحاول اسرائيل ان تلقي تبعه مسئولية وقف اطلاق النار علي " طرف خارجي " وهو الولايات المتحدة ، وعلي الطرف الاخر من المعادلة فأن حماس بينها وبين النظام المصري حالة عميقة من انعدام الثقة ، مما يجعل من انتقال المفاوضات الي الامام يسير بشكل بطئ ، وفي خلال ذلك تركز اسرائيل علي اضعاف القدرة الصاروخية لحماس لتستعيض بذلك المكسب عن اي نقاط ضعف ضمنية لصالح حماس في اي اتفاق تهدئة ، ولكن امكانية القيام بذلك عبر سلاح الجو فقط يظل محدودا ، وتظل شكوك اسرائيل وثقتها الضعيفة في جدوي العملية البرية بسبب نقص المعلومات .
لذا فأن المشكلة بالنسبة لاسرائيل في اي وقف اطلاق نار مستقبلي ، هي ان الوضع الراهن سيظل في مكانه ، وستحتفظ حماس بصواريخها ، بل من الممكن ان تحصل علي انواع اكثر تقدما ، وان اسرائيل لم تكن قادره علي وقف تدفق هذه الصوايخ ، لذا فأنه لايوجد ثقة علي الاطلاق في انها ستكون قادره علي ايقاف ماهو مقبل منها ، ولنفس السبب فأن وقف اطلاق النار سيكون نصرا بالنسبة لحماس ، ولكن من ناحية اخري فالاسرائيليين اذا كانوا لن يستطيعوا دفع ثمن استئصال صواريخ حماس الي الابد - علي افتراض ان ذلك ممكن - فأن وقف اطلاق النار سيجلب لاسرائيل بعض الفوائد السياسية بعيدا عن الحاجة لاتخاذ اجراءات تعرضها للكثير من المخاطر .
وفي هذه اللحظة ، فأننا نعلم يقينا ان اسرائيل تقصف غزة جوا ، وفي نفس الوقت جمعت قوة برية كافية لبدء غزو بري ، لكنها لم تبدأ بعد فيه ، فأن حماس ايضا لم تطلق الهجوم الاقوي الذي يمكن ان تقوم به ، ولكنها اجبرت اسرائيل ان تفترض ان مثل هذا النوع من الهجوم " ممكن " ، وان نظام " القبة الحديدية " سيغرق بسبب الارقام الكبيرة من الصواريخ التي سيتم اطلاقها ، فأننا نرجح ان الخطوة التالية اسرائيلية وذلك علي الرغم من الخلاف علي اعلي المستويات لان هناك عدد من القيادات الاسرائيلية تعتقد ان هذا الهجوم ستقوم به حماس فعلا ، وانه يجب القضاء علي قدرتها الان ، بينما يري قادة اخرين انه من الضروري الحصول علي معلومات استخبارية افضل لتجنب وقوع خسائر كبيرة ولتجنب قيام حماس باطلاق اعداد كبيرة من الصواريخ في بداية الحملة البرية ، وفي ظل هذا الوضع فأننا لانملك ترجيح كفة ونقول من سينتصر ؟ ولكن في الوقت الراهن نستطيع ان نقول ان اسرائيل تنتظر .
stratfor