...........................الامداد والتموين.......................................
نشأت فكرة المستودع التمويني أول ما نشأت في الثغور والقلاع، حيث كانت تعبَّأ بتموينات كافية لمدة ستة أشهر، لتوفير تموينات المقاتلين المرابطين في تلك القلاع والثغور كجيوش متقدمة على حدود الدولة أو الامبراطورية.
ومع نشاةالحروب المستمرة التي أصبحت سمة ملازمة لبدا الشؤون الإدارية ووسائل نقلها توثر على تكتيكات القتال على كل مستويات القيادة والقتال، بدءاً من المقاتل، وانتهاءً بقيادة الجيش، فنشأ بذلك قيادات عسكرية للنقل والتموين والطبابة والصيانة، وبخاصة عندما بدأ الضغط ـــ وبقوة ـــ من قِبل هذه الشؤون الإدارية، والحاجة لنقلها بشكل مستمر في التأثير على قرار الحرب واستراتيجيات المعارك واتجهت للتعقيد وطلب المزيد من الوحدات الفنية والإدارية والتموينية التي ستنضم تحت قيادة الجيوش المقاتلة بحكم ما يستوجبه استخدامها من ذخائر وإصلاح وإدامة ونقل وتموينات وما تحمله متطلبات وقدرات النقل من أعباء فنية ووقود وحراسة.
لقد كان مصير كثير من الدول والامبراطوريات معلقاً وملقياً على كاهل الجيش الذي كان مستعداً ـــ بإدراكه لعظم تلك المسؤولية ـــ لانتهاج عقائد ومذاهب قتالية مرنة وواسعة بمنحه جزءاً كبيراً من الصلاحيات السياسية والمدنية، كالتفاوض، وإدارة الأرض المستولى عليها، مما جعل كثيراً من الملوك والأباطرة يتولون بأنفسهم قيادة الجيوش والمعارك لإدراكهم أهمية ذلك الدور، وضرورة دعمه بكل الإمكانات السياسية والاقتصادية، فهو ركيزة بقاء الدولة أو الامبراطورية إلى حدٍ كبير.
وبرؤية شاملة لمسرح الحرب في ظل تلك الإمكانات الأولى، نجد أن الحرب تدور رحاها، وهناك مسافة من الفراغ موجودة بين رحى الحرب ورحى السياسة في عاصمة الدولة، وكانت شبه موصولة بالمراسلين لإدامة المعلومات عن الحرب وإرسال الإمدادات المحدودة، وكانت هناك حاجة لملء الفراغ على حسب متطلبات إدامة الحرب وكسبها، وأتت قدرات النقل المتمثلة في السكة الحديدية، وقدرات النقل الذاتية العسكرية لتقوم بتقوية وإدامة ذلك الرابط بين جبهة المواجهة الحربية ممثلة في الجيش وعمق الدولة ممثلة بالعاصمة السياسية، وما فيها من إمكانات تصنيع لوسائط النقل وعربات القتال والأسلحة والذخائر والتموينات، فبدأ ذلك الفراغ يمتلئ شيئاً فشيئاً، مما شكّل جسراً ينقل مسؤولية ربح أو خسارة الحرب إلى كاهل الساسة شيئاً فشيئاً حتى تم فصل الأدوار السياسية عن العسكرية إلى حدٍ كبير.
كان الناتج الرئيس لتطور وسائل النقل ووسائطه هو تمكين القادة السياسيين من مد دورهم ونفوذهم عبر ذلك الجسر، ليمارسوا توجيه القادة العسكريين من العمق، وليكونوا مسؤولين بشكل قاطع عن كسب الحرب، أو خسارتها فيما يخص الإمداد والإدامة للمجهود الحربي؛ ولمع بذلك زعماء سياسيون احترافيون، وزعماء عسكريون احترافيون كل في مجال عمله وتخصصه.
وسعي ممالكها للسيطرة والنفوذ، مما أعطي دافعاً قوياً لتطوّر كل أساليب القتال والتسليح، واستدعاء المقاتلين المتواجدين بالقمام حالة الدفاع التي أصبحت عصيّة على الاستنزاف بسبب الإدامة لها وجب تطور النقل، وفشل الهجوم الذي أصبح غير قادر على تطوير وضعه الدفاعي إلى هجومي، حيث فتكت الأسلحة النارية والرشاشات متعددة السبطانات بكل محاولة، اتضحت ملامح تطور الشؤون الإدارية وأثرها في كسب أو خسارة الحرب ودورها الاستراتيجي في ذلك، وتهيأت مسارح العمليات التي بدأت تنتعش وتتطور وتردم الفجوة بين العسكر والساسة، لتفرض نفسها في الحروب وتقتطع جزءاً كبيراً من المجهود الحربي لجيوش متقابلة وثابتة ومتناحرة، وأصبح الجو ملائماً لتطور الشوون الإدارية وإدراك تأثير النقل، وخصوصاً في إدامة أمد الحرب، حيث فشل الساسة والقادة العسكريون وصناع المذهب العسكري في تحديد أمد الحرب وأخفقت توقعاتهم لمدة الحرب، لتمتد من ستة أشهر كحد نهائي إلى أربع سنوات، وكل هذا قد نتج بسبب الجهل منهم بالمدى الذي سيصله تأثر مدة الحرب بقدرة النقل على إدامة أمدها.
قد أصبحت المعارك ليست معارك جيوش، بل معارك دول، وازدادت المساحة المستهدفة عملياتياً في المنطقة الخلفية، ولم تتضح معالم تحول المعركة من معركة جيش إلى معركة دولة إلاّ عندما توجه تطور الطيران الجوي والطلعات الجوية لقصف القوافل، الذي تطور لاستهداف وقصف المصانع ومقار الدولة في عمقها السياسي والمدني، لتصبح هذه هي السمة الأكثر وضوحاً في أساليب الحرب في الحرب العالمية الثانية..
لقد أتى النقل كتتويج لمراحل متطورة سبقت ذلك بكثير، حيث نشأت مفاهيم التموين والإمداد المتحرك بشكل قوافل مدنية تتحرك خلف الجيش، وتلتزم بتعليماته، إلاّ أن التطور التقني والتسارع في وتيرة الحروب والمعارك كان يسير في اتجاه تطوير قدرات النقل، حيث أتت المستودعات المتحركة كمرحلة سبقت تطور النقل ولتلبي احتياجات المعارك وإدامتها ضمن إمكانات الأسلحة وكافة استخدامها وكثرة المقاتلين.
وبذلك أصبحت وحدات النقل هي أداة نقل طاقة القتال من طعام وذخيرة ووقود وصيانة وتموينات من عمق جسم الدولة إلى جبهة القتال، لتتمكّن القوات العسكرية، أو لا تتمكن، من استمرار القتال، وكان أبرز دليل على ذلك هو أن النقل تمكن من إدامة الحرب، وتمكين المصانع الحربية من مضاعفة عدد آليات القتال إلى (17) ضعفاً خلال سنوات الحرب الأربع، حيث بدأت الحرب بــ (16000) عربة قتال، وكان أن تمكن النقل من إدامة القتال بنقل (267700) عربة لإدامة المجهود الحربي، ناهيك عن التموينات والوقود والذخائر المصاحبة لإدامة ذلك المجهود.
موضوع مختصر.