الاخ العزيز القناص
نقلك للموضوع قد تؤجر عليه والعلم عند الله ولكن ليس كل ما ينقل يكون صحيحا في معظم الاحيان ومن جملتها هذا الموضوع
فموضوعك قد ذكر ان للشيطان نفساً قد اغوته وجعلته يعصي الله عز وجل ولو ان القران الكريم وحتى السنة النبوية المطهرة لم تتطرق الى ان للشيطان نفس تغويه او تساعده على الهوى والمعصية والا لكان تم ذكرها في القران الكريم ولكان تطرق اليها سيدنا المصطفى صلى الله عليه واله وسلم بينما تطرقت عدة ايات في القران الكريم الى ان النفس جزء من الانسان مرتبطة به ومرتبط بها وقد ذكرت لك عدة ايات ليست هي كلها في المجمل ولو نظرت الى ( الضمير ) في تلك الايات لوجدت ان الضمير الهاء او الياء او حتى الالف انما هي ضمائر تعود على الانسان وليس على الشيطان وحتى الشيطان نفسه لم يذكر ان نفسه هي التي اغوته فكيف تذكر انت ما لم يذكره الشيطان عن نفسه حينما قلت لي ان نفس الشيطان هي التي وسوست له ؟
مع ان الله عز وجل قد قال للشيطان ( فأهبط منها فما يجوز لك ان تتكبر فيها ) وهو ما يعني ان الله عز وجل قد طرد ابليس من رحمته بسبب تكبره حينما رفض امر الله تعالى بالسجود لآدم متخيلا انه خيرا من آدم عليه السلام
بينما لا يوجد نص صريح من القران او السنة يثبت ان نفس الشيطان هي من وسوست له بالمعصية
واخيرا قال الله تعالى عن ابني آدم عليه السلام
فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله
جاء هنا ذكر نفس قابيل التي طوعت له قتل اخيه هابيل
ولكن لم يات ذكر اي آية فيها ان نفس الشيطان هي التي طوعت له معصية الله عز وجل

وبين مجرد الاستفاضة في شرح تلبيسه علي البشر وتلقينهم التعاليم والتعاويذ المعروفة بغية إبعاده واتقاء شره، لا شك أن كل واحد منا يحمل في مخيلته صورة معينة عن شخصية إبليس ورثها كجزء لا يتجزأ من ثقافته التقليدية وتربيته الدينية، ولا أجدني مضطراً لأن أسترسل طويلاًفي إعادة هذه الصورة إلي الأذهان؛ لأنها معروفة جيداً لدي الجميع، كان إبليس من المقربين بين الملائكة وكان له شأن عظيم في نظام الملأ الأعلي، إلي أن عصي أمر ربه فطرده من الجنة ولعنه لعنة أبدية، فأصبح بذلك تجسيداً لكل ما هو شر وجمع في ذاته جميع الخصائص التي تنتفي عن الله.

ونلاحظ هنا أن اسمه يدل علي جوهره وهو «الإبلاس» أي اليأس التام من رحمة ربه ومن العودة إلي الجنة، أو وفقاً للتفسيرات الإسلامية التقليدية لمعني الإبلاس.

ومن منا لا يعرف المثل الذي يضرب بأمل إبليس في الجنة دلالة علي الأمل الضائع كل الضياع، تدل كلمة إبليس عند الجميع علي اللبس والفتنة والوسوسة والإفساد والعصيان وما إليه من الصفات الشنيعة والقبيحة التي جسَّدها خيال البشر في شخصية واحدة هي الشيطان، وعلي مر العصور أضفت شخصية الإنسان قوي كبيرة وقدرات عظيمة علي إبليس: منها الطاقات الفكرية الخلاقة والقوي الفنية المبدعة ومنها القدرة علي القيام بخوارق الأعمال وعجائب الأفعال حتي أصبح إبليس يلي الإله مباشرة حيث قوته وقدرته ومنجزاته. وقد ألف الإمام جمال الدين ابن الجوري كتابًا سماه «تلبيس إبليس». أحاط فيه بالطرق التي يلبس بها إبليس علي البشر فيبعدهم عن طريق الصلاح، والطريف في هذا الكتاب أنه لا يرسم لنا الصورة التقليدية الشائعة لشخصية إبليس فحسب وإنما يسبغ عليه، من حيث لا يعلم ولا يدري، قوي خلاقة مبدعة تثير الإعجاب والتقدير. وعلي سبيل المثال يعزو ابن الجوزي معظم الحركات الدينية والفكرية الكبري التي قامت في تاريخ الحضارة الإسلامية إلي عمل إبليس ويجعله مسئولاً عنها فيحوله بذلك إلي فيلسوف كبير ومتكلم قدير.

ولكن قبل أن أدخل في صلب الموضوع أريد أن يتضح للجميع أن بحثي يدور في اطار معين لا يجوز الابتعاد عنه علي الإطلاق ألا وهو إطار التفكير الميتولوجي-الديني الناتج عن خيال الإنسان الاسطوري وملكاته الخرافية.

ومن هنا يجدر بي أن ألفت الانتباه إلي أن الفكرة المسبقة والشائعة عن الأسطورة وعن أهميتها بعيدة قليلاً عن حقيقة الدور الذي تلعبه الأساطير في حياة الإنسان وفي تركيب حضارته. لقد اعتدنا أن نقول عن أمر ما إنه من باب «الأساطير والخرافات» لنحط من شأنه ونبعد أذهان الناس عنه ولننفي عنه صفات الواقعية والموضوعية ولنبين أنه مجرد وهم وخيال. لذلك أري أنه لابد من الاستطراد ولو قليلاً في شرح بعض الحقائق المهمة عن طبيعة الأسطورة وعن أهمية التفكير الميثولوجي بالنسبة للإنسان والمجتمع.

عرف الفلاسفة الإنسان بأنه حيوان ناطق وإذا كان الإنسان حيوانا ناطقاً فلا شك كذلك بأنه «حيوان خرافي ». فكما أنه الحيوان الوحيد الذي يتصف بالنطق فإنه الحيوان الوحيد أيضاً الذي ينسج الخرافات والأساطير ويحولها إلي ميثولوجيات معقدة يؤمن بها إيمانا جازما كما لو كانت حقائق واقعة لاريب فيها.

التفكير الاسطوري إذن صفة جوهرية من صفات الإنسان ووجه مهم من أوجه نشاطه العقلي بالمعني الواسع للعبارة، لذلك وجه الكثيرون من الباحثين اهتمامهم إلي دراسة نشاط الإنسان الخرافي لما يكشفه من الحقائق الأساسية عن الإنسان وعن مجتمعاته وقدراته وثقافاته وحضاراته، وعلي سبيل المثال عندما اتكلم في هذا البحث عن «مأساة إبليس» لابد أنكم ترجعون في أذهانكم إلي الارتباط العضوي القديم بين المأساة والدراما من جهة وبين الميثولوجيا والتفكير الأسطوري من جهة أخري، كما أن عادة النظر في هذه الشخصية الأسطورية التي درجنا علي تسميتها بإبليس ستتفتق عن أبعاد ونتائج مهمة بالنسبة للدين والفن والفلسفة وقد بذل الباحثون جهوداً كبيرة لشرح العلاقات والارتباطات العضوية بين التفكير الأسطوري وبين الأبعاد الدينية والفنية والفلسفية لأي معضلة من المعضلات الكبري التي يواجهها الإنسان، يقول كاسيرر في تحديده لعالم الأسطورة، وهو العالم الذي حصرت نفسي فيه في هذا البحث، ما يلي:

«فعالم الأسطورة عالم درامي ـ عالم أعمال وقدرات وقوي متصارعة، والأسطورة تري هذا الاصطدام بين تلك القوي في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة والإدراك الأسطوري مفعم دائماً بهذه الخصائص العاطفية، فكل ما يري أو يحس محاط بجو خاص ـ جو من الفرح أو الحزن أو العذاب، أو الهياج والاستبشار والغم في حال الأسطورة لا نستطيع أن نتحدث عن «الأشياء» باعتبارها مادة ميتة أو هامدة، فكل شيء ثمة خير أو شرير، صديق أو عدو، مألوف أو غريب، جذاب معجب أو منفر متوعد».

إذا رجعنا إلي المصادر التي قلنا إننا سنعتمدها في دراستنا لقصة إبليس نجد أن سيرته تبدأ بوصف لمكانته المرموقة في نظام الملأ الأعلي وعرض للمنزلة الرفيعة التي كان يتمتع بها بين الملائكة قبل طرده من الجنة يقول الإمام عز الدين المقدسي في كتابة «تفليس إبليس» مخاطباً الشيطان!

«وأنت الذي خلقك الله بيد قدرته وأطلعك علي بدائع صنعته. ودعاك إلي حضرة قربته وألبسك خلع توحيده وتوجك بتاج تقديسه وتحميده وجعلك تجول في مجال ملائكته يقتبسون من نورك ويستأنسون بحضورك ويهتدون بعلمك ويقتدون بعملك. فما برحت في الملأ الأعلي، تشرب بالكأس الأملي، وتتلذذ بالخطاب الأحلي، طالما كنت للملائكة معلماً وعلي الكروبيين مقدماً».

ومن ثم تصف لنا الآيات القرآنية ماذا حدث لإبليس وكيف عصي ربه فلعنه إلي يوم الدين وطرده من الجنة.

«وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم علي الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.

قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين».

«.... وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبي أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمًأ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلي يوم الدين قال رب فأنظرني إلي يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزيننّ لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين..».

«ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال انظرني إلي يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، قال أخرج منها مذوما مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين»«الأعراف 10 ـ 17»

تبدو قصة إبليس، كما وردت في هذه الآيات، بسيطة في ظاهرها، لقد أمره الله أن يقع ساجداً لآدم فرفض وكان ما كان من شأنه، غير أنه لو أردنا أن نتجاوز هذه النظرة السطحية إلي مشكلة إبليس لرجعنا إلي فكرة مهمة قال بها بعض العلماء المسلمين وهي التمييز بين الأمر الإلهي وبين المشيئة أو الإرادة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال إما أن يطاع وينفذ وإما أن يعصي، وللمأمور الخيار في ذلك أما المشيئة الألهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لأنها بطبيعتها لا ترد، وكل ما تتعلق به المشيئة الإلهية واقع بالضرورة، لقد شاء الله وجود أشياء كثيرة غير أنه أمر عبادة بالابتعاد عنها كما أنه أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم أن يحققوا أشياء أخري «1» لذلك باستطاعتنا القول بأن الله أمر إبليس بالسجود لآدم ولكنه شاء له أن يعصي الأمر، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجداً لوقع ساجداً لتوه إذ لا حول ولا قوة للعبد علي رد المشيئة الإلهية، إذا نظرنا إلي الأمور من هذه الزاوية بإمكاننا أن نعتبر الأمر والنهي أشياء طارئة وعرضية إذا فيست بسرمدية المشيئة الربانية وقدم الذات الإلهية.

عندما نعيد النظر في الآيات القرآنية التي أثبتها في الصفحات السابقة يتبين لنا أن الله أرد للملائكة «أن يسبحوا بحمده ويقدسوا له»، ويقول الطبري في تفسيره الشهير إن «التسبيح والتقديس» هما توحيد الله وتنزيهه وتبرئته مما يضيفه إليه أهل الشرك به وبعبارة أخري يشكل التوحيد واجب الملائكة الأول والمطلق نحو خالقهم ولذلك نراهم منغمسين في أدائه بكم كيانهم ووجودهم أما بقية الواجبات المفروضة علي الملأ الأعلي فتعتبر عرضية وثانوية بالنسبة للواجب المطلق الذي ينبع من المشيئة الإلهية نفسها.

بعد أن بينا الفارق بين الواجب المطلق نحو الله وبين واجبات الطاعة الجزئية لأوامر الرب بإمكاننا أن نميز الأمور التالية في جحود إبليس:

1ـ لا شك أن إبليس قد خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم غير أنه كان منسجما كل الانسجام مع المشيئة الإلهية ومع واجبه المطلق نحو ربه.

2ـ لو وقع إبليس ساجداً لآدم لخرج عن حقيقة التوحيد وعصي واجبه المطلق نحو معبوده، في الواقع يثير اختبار إبليس سؤالاً مهماً جداً هو: هل تكمن الطاعة الحقيقية في الإذعان للأمر أم في الخضوع للمشيئة؟ هل يكمن الصلاح في الانصياع للواجب المطلق أم لواجبات الطاعة الجزئية؟ لو كان الجواب عن هذا السؤال بسيطاً وواضحاً لما وجدت المأساة في حياة الإنسان، ولما وجد إبليس نفسه في هذه المحنة ولما وقع بين براثن الأمر والمشيئة، نستنتج إذن أن موقف إبليس يمثل الإصرار المطلق علي التوحيد في أصفي معانيه وأنقي تجلياته، وكان لسان حال إبليس يقول: «جبين سجد للأحد لا يذل في الوجود لأحد» وعبر شهيد الصوفية الحلاج عن هذه الحقيقة في «كتاب الطواسين» بالكلمات التالية:

«التقي موسي أبليس علي عقبة الطور، فقال له «يا إبليس: ما منعك عن السجود؟» فقال « منعني الدعوي بمعبود واحد» ولو سجدت له لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة « انظر إلي الحبل» فنظرت» ونوديت أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعواي بمعناي».

3ـ برر إبليس رفضه السجود لآدم تبريراً منطقياً واضحاً إذ قال: «أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» وبالإضافة إلي ذلك تتضمن الآيات القرآنية التي أشرت إليها تبريراً خفياً لرفض إبليس وهو معرفته المسبقة بأن آدم وذريته سيعيثون في الأرض فساداً ويسفكون الدماء وكان هذا شعور الملائكة أجمعين عندما قالوا لربهم «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك..» أي كانت الملائكة بمن فيهم إبليس ، علي علم بما سيرتكبه آدم وذريته من الكبائر والمعاصي فاستكبرت واستعظمت أن يخلق الله من يعصيه ويسفك الدماء.

عند إمعان النظر حجة إبليس الأولي التي تتألف من مفاضلته بين جوهره «النار» وبين جوهر آدم «الصلصال» نجد أنها لم تكن استكباراً وفخاراً بقدر ما كانت استذكاراً لحقيقة أساسية شاءها الله وأوجدها علي ما هي عليه، وهذه الحقيقة هي أن الله لم يخلق الطبائع علي درجة واحدة من السمو والكمال وإنما ميز بينها، ليس من حيث خصائصها الطبيعية والمادية فحسب بل من حيث درجات كمالها ورفعتها أيضاً، وبناء عليه ففي إمكاننا أن نصنف الكائنات والأنواع في نظام تقديري معين يبدأ بالكمال المطلق ذاته ثم يتدرج بالأنواع هبوطاً كل حسب درجة كماله التي أسبغها الله عليه إلي أن نقترب من العدم باعتباره الحد الذي نقف عنده ولا ريب أن النار بطبيعتها وجوهرها تحتل مرتبة أسمي وأرفع في هذا الترتيب من المرتبة التي يحتلها الصلصال، بعبارة أخري تنطوي مفاضلة إبليس بين جوهره وبين جوهر آدم علي نظرة فلسفية معينة لنظام الكون وترتيب الطبائع وفقاً لدرجات الكمال التي تتصف بها لذلك كان إبليس علي حق في جوابه لأن الخالق جعل الأشياء علي ما هي عليه من درجات الكمال والسمو، وأمر السجود لآدم يشكل مخالفة صريحة لهذا النظام وخروجاً علي الترتيب الذي شاءه الله وأوجده، فإذا كان جوهر إبليس أرفع في سلم الكمالات من جوهر آدم فلن تستطيع النار عندئذ أن تذل الصلصال إلا بالسير في اتجاه مضاد لطبيعتها ومناف لدرجة الكمال التي أسبغها الله عليها، وهذا أمر محال ما لم يطرأ تحول جذري علي المشيئة الإلهية فتغير ترتيب الطبائع عما كانت عليه منذ أن أوجدها الله، لقد أمر الله إبليس بشي وشاء له تحقيق شيء آخر لذلك سنري فيما بعد أن أمر السجود لم يكن أمر مشيئة وإنما كان أمر ابتلاء، ومن الطريف أن نلاحظ بهذا الصدد أن التحول الذي لحق بإبليس بعد طرده من الجنة لم يمس جوهره وإنما جري علي صفاته وأحواله فتشوهت صورته وأصبح لعينًا رجيمًا.

يلخص الحلاج هذه الناحية من الموضوع بقوله:

قال الله لإبليس: «لا تسجد؟ يا أيها المهين! فأجاب إبليس: محب والمحب مهين، إنك تقول «مهين» وأنا قرأت في كتاب مبين، ما يجر علي يا ذا القوة المتين، كيف أذل له وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، وهما ضدان لا يتوافقان وإني في الخدمة أقدم، وفي الفضل أعظم، وفي العلم أعلم وفي العمر أتم»

نستخلص إذن أن قصة إبليس كما وردت في الآيات القرآنية التي ذكرناها ليست بالبساطة التي كنا نتخيلها، إنها ليست قصة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل، وقع إبليس بين شقي الرحي، رحي المشيئة من ناحية ورحي الأمر من ناحية آخري، فكان عليه أن يختار اختياراً مصيرياً بين واجبه المطلق في التقديس والتوحيد والتسبيح وبين واجبات الطاعة الجزئية التي أمره بها الله، فجاءت محنته مفعمة بالعناصر الدرامية والمأساوية.

قبل أن استمر في استخلاص النتائج المترتبة علي هذا التصور لمنحة إبليس

أجدني مضطرا للرد علي الدعوي التي قال بها العقاد في كتابه إبليس تتلخص دعوي العقاد في محاولة للدفاع عن النظرة التقليدية السطحية إلي شخصية إبليس واعتباره مجرد كائن عصي أمر ربه فطرده من الجنة. لذلك يرفض العقاد الاعتراف بمحنة إبليس ويقول بوجوب سجوده لآدم. وعند تمحيص هذا الرأي نجد أنه يستند إلي حجتين:

1- وجب علي الملائكة السجود لآدم لأنه خير منهم فهو قادر علي فعل الخير والشر بينما الملائكة قادرة علي فعل الخير فقط وهي بمنجاة من غواية الشر ولا توصف به.

2- حق السجود لآدم لأن الله علمه الأسماء كلها ولم يعلمها للملائكة مما جعله أسمي مرتبة منهم وسأرد علي كل من هاتين الحجتين علي حدة.

يبدو لي أن دعوي العقاد القائلة بفضل آدم علي الملائكة لأنه عرضة للخير والشر بينما هي بمنجاة من غوايته دعوي فاسدة من أساسها للأسباب التالية:

أ- تبرهن قصة إبليس أنه حتي سادة الملائكة والمقربين منهم ليسوا بمنجاة من غواية الشر وإلا لما عصي إبليس ربه وانتهي إلي بئس المصير، ستنتج إذن أن الملائكة عرضة للخير والشر وهي كالإنسان، مطالبة بالخيرات ممتحنة بالشرور مما ينفي فضل آدم علي الملائكة وبالتالي يلفي ضرورة السجود له.

ب- لو افترضنا جدلاً مع العقاد إن الملائكة ليست عرضة للخير والشر وإنما هي تفعل الخير دائماً بطبيعتها وجوهرها فهل يعني ذلك أن آدم أفضل منها؟

لنطرح السؤال بصيغة أعم وأشمل: أيهما أفضل، الكائنات التي تصنع الخير أحياناً وتصنع الشر أحيانا أخري فتفسد في الأرض وتسفك الدماء أم الكائنات التي لا تصنع إلا الخير بصورة مستمرة ودائمة أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال واضح كل الوضوح ولا يتطلب مزيداً من النقاش بدليل أن تصورنا الأخلاقي للإرادة الفاضلة في أسمي مراتبها يقول بإنها الإرادة التي تصنع الخير باستمرار وبدون أي عناء أو جهد، ننتقل الآن إلي الرد علي حجة العقاد الثانية التي تدعي بأن سجود الملائكة حق لآدم لأن الله علمه الأسماء كلها ولم يعلمها للملائكة بينا في السابق أن سمو إبليس علي آدم كان سموا بالطبيعة والجوهر وليس سموًا في الأحوال العارضة الزائلة كالتي اكتسبها آدم عندما علمه الله الأسماء كلها بعبارة أخري لايؤلف علي آدم بالأسماء كلها خاصة من خصائصه الجوهرية المميزة، ولا شك أنه كان باستطاعة الملائكة تعلم الأسماء كلها لو شاء الله نري إذن أن علم آدم بالأسماء كلها كان علمًا طارئاً أنعم الله عليه به ليغري الملائكة علي السجود.

نستخلص مما ورد:

1- ألا فضل لآدم علي الملائكة، بمن فيهم إبليس، لا من حيث قدرته علي صنع الخير والشر ولا من حي علمه بالأسماء كلها.

2- أن جوهر إبليس أفضل وأسمي من جوهر آدم لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من صلصال 3- إن دعوي العقاد القائلة بأنه كان يجب علي إبليس أن يسجد لآدم لأنه أفضل من الملائكة دعوي فاسدة ومردودة