[size=25]بسم الله الرحمن الرحيم[/size]
[size=25]الاستغفارُ السياسيُّ ![/size]
بمجردِ أن يقرأ أحدُهُم أولَ كلمةٍ من عنوانِ هذه
المقالةِ سيتبادرُ إلى ذهنِهِ ذلك الاستغفارُ الذي درج عليه أكثرُ مسلمي
اليوم على أنه عبادةٌ يتقرَّبُ بها الفردُ إلى الله، بل إن هذا ما أقرَّه
أهلُ الفقهَ من أسلافَنا الكرام، إذ أنهم تناولوا الاستغفارَ على أنه من
العبادات، وكان بحثًا من أبحاثِ العباداتِ الفردية، وحُقَّ لهم ذلك،
فالاستغفارُ عبادةٌ فردية.
ولكن ...
يقولُ أهلُ اللغةِ أن حرف (لكن) يفيدُ الاستدراك، إذ يفيدُ نفيَ ما
يُتوهَّمُ ثبوتُه، أو إثباتُ ما يتوهمُ نفيُه، وهنا نحن استخدمنا في
عبارتنا السابقةِ حرفَ الاستدراك (ولكن)
أقول : ولكننا في مقالتِنا هذه سنتناولُ الاستغفارَ من زاويةِ إبصارٍ
جديدةٍ على أفهامِ الكثيرين، ولكنها زاويةٌ أصيلةٌ، إذ أن الذي فرضها علينا
هو آياتٌ قرآنية ٌكريمة، فتعالوا معنا نحلقُ في تلك الأجواء، أجواءٌ
اجتمعت فيها المتناقضاتُ على أشدِّ اجتماعٍ ، أجواءٌ جمعتِ الأنبياءَ على
خطوطِ المواجهةِ ضدَّ المجرمين الكفار.
فهذا نبيُّ اللهِ نوحٍ يقدمُ تقريرًا عن رحلةِ دعوةٍ كان عمرُها 950 سنة من
الدعوة، والتقريرُ مذكورٌ في أوائلِ آياتِ سورةِ نوحٍ الكريمة، وكان
مما جاء في تقريرِه أنه عليه الصلاة والسلام قال :
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ
السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)
مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)}
فهذا نبيُّ الله يدعو قومِه إلى الاستغفار، ثم هو يشرحُ لهم إن استجابوا له
ما هي الآثارُ المترتبةُ على ذلك، وقد أجملها عليه الصلاةُ والسلام في
خمسةِ آثار، وهي :
1. إرسالُ المطرِ والغيث
2. الإمدادُ بالأموالِ والأرزاق
3. الإمدادُ بالبنينَ والعشيرةِ
4. الإمدادُ بالنباتِ والثمارِ والحدائق
5. الإمدادُ بالأنهارِ والمياهِ العذبة
إن الناظرَ المتأملَ في هذه الآثارِ يجدُ أنها آثارٌ ماديةٌ وليست معنويةً
فقط، تعودُ على الجماعةِ كلِّها، إن هي استجابت للاستغفار، لذلك كان
الاستغفارُ المطلوب، ليس هو استغفارُ الآحاد، بل كان استغفارُ الجماعة، أي
أن المطلوبَ منهم هو العملُ بثقافةِ الاستغفارِ في المجتمع، ثقافةِ
الاستغفارِ التي تقتضي الإيمانَ باللهِ وبنبيِّه ومن ثم الاقتناعَ بأن
الإنسانَ مهما أطاع اللهَ فهو حتمًا مقصرٌ في جنب الله، فيُبنى على كلِّ
ذلك أن يُجعلَ الاستغفارُ من أعمالِ الجماعة.
لهذا قلنا أننا سننظرُ إلى الاستغفارِ من زاويةِ إبصارٍ سياسية، والمقصودُ
بكلمةِ سياسيةٍ أي زاويةِ إبصارٍ تتعلقُ برعايةِ شؤونِ الجماعة، فأيُّ
جماعةٍ لن تسودَها ثقافةُ الاستغفار، فحتماً سيصيبُ بناءها الخللُ
وستنتشرُ فيها الثغرَاتُ على جميعِ الأصعدةِ.
نفهمُ من ذلك أن الاستغفارَ ليس عملاً فردياً يقومُ به الفردُ فقط دون
الجماعة، بل هو عملٌ فردي، وعادةٌ مجتمعيةٌ تقوم بها الجماعةُ وهي مدركةٌ
أن آثارَها ستعودُ على الجماعةِ وعلى الفردِ.
لم يكن دعاء سيدنا نوح لقومه دعاءً عبثيًا، بل هو كان يدرك إلام يدعو قومه،
وهم أدركوا ماذا الذي يريده نوح، فقرروا ألا يستجيبوا ظنًا منهم أن
عناصر قوة الجماعة قد توفرت لديهم، فما يسع نوحٌ ولا القليلون الذين
آمنوا معه أن يؤثروا بشيء على مقومات قوة الجماعة. فكان هذا عينه هو
مفتاح انهيارهم ونهايتهم الملعونة التي تناقلتها أجيال البشر جيلًا بعد
جيل، طوفان قوم نوح الذي أغرقهم فما أبقى منهم أخضرًا ولا يابس.
هذه هي فكرتُنا في هذا المقال، الاستغفارُ يجبُ أن يخرجَ من كونِه عبادةً
فرديةً قاصرةً على آحاد الناس، ليصبحَ ظاهرةً مجتمعيةً تسودُ في الجماعةِ
المسلمة، وكلهم يدركُ أن الآثارَ لن تكونَ على الصعيدِ الفرديِّ، بل
ستتعداه إلى الصعيدِ الجماعي، وليست مجردَ آثارٍ معنوية، وهنا مربِطُ فرس.
مربِطُ الفرس، أن دينَ الإسلامِ ربط بين عبادةٍ تحقق قيمةً روحية، وبين
متطلباتٍ ماديةٍ تسعى الجماعةُ إلى إشباعِها، فالحاجةُ إلى المطرِ والماءِ
العذبِ والمالِ والطاقةِ البشريةِ والمزروعات، أقول: الحاجةُ إلى كلِّ
هذه العناصرِ حاجةٌ ماسةٌ تشكلُ معياراً مهماً في تفاضلِ الجماعاتِ
البشريةِ على بعضِها البعض.
هذا الربطُ بين الإشباعاتِ الماديةِ وبين صلةِ الإنسانِ بربِه يميزُ دينَ
الإسلام، حتى أنه يمكنه أن يشكلَ فلسفةَ الإسلامِ كاملًا، فدينٌ يجعل
اللقاءَ الزوجيَّ في مقامِ العبادةِ ،حين جعل في بُضعِ المرءِ صدقة، هو
دينٌ حريٌّ به أن يوفرَ أسبابَ الحياةِ الآمنةِ المطمئنةِ للمجتمعِ وللفردِ
على جميعِ الأصعدة.
وهذا هو الغائبُ عن أذهانِ الكثيرين، أنَّ العقيدةَ الإسلاميةَ كما أنها
عقيدةٌ روحيةٌ، فإنها عقديةٌ سياسيةٌ من الطرازِ الأول، فلو كانت السياسةُ
هي تسييرُ أمورِ الجماعة، ورعايةُ شؤونِها، أو تسييرُ أمورِ الفردِ
ورعايةُ شؤونِه، فإنها -أي العقيدة- تقدمُ مقوماتِ هذه الرعايةِ الجماعيةِ
والفرديةِ بأحكامٍ وتشريعاتٍ محكمةٍ غايةَ الإحكام، فالعباداتُ ذاتُ
أثرٍ سياسيٍّ، والسياساتُ ذات أثرٍ روحي، فهذا الجهادُ جُعل عبادةً من
العبادات، والمعالجاتُ المقدمةُ للفردِ تراعي الجماعة، والمعالجاتُ
المقدمةُ للجماعةِ تراعي الفرد، فسبحان من أكرمَنا بهذا الدين.
يحضرني في هذا المقام، ذلك المشهدُ المهيبُ الذي أفزع أممًا بأكملها، ثوارُ
تونس، ومثلُهم ثوارُ مصر، حين انتفضوا لمعالجةِ شأنٍ سياسي، كان من هذه
المعالجةِ أنهم أدوا الصلاةَ جماعةً في الشارع، فأصبحت الصلاةُ التي هي
عبادةٌ خالصة، أصبحت ذاتَ بُعدٍ سياسي، تحمل أهدافًا سياسيةً تصلُ إلى
الحكامِ وإلى أعداءِ الأمة، وتُرهبُهم.
هذا هو دينُ الإسلام، قد تؤدي صلاةَ جماعةٍ في أحدِ مساجدِ تونس بينما أنت
ممنوعٌ من ذلك، فيكون أداؤُك لهذه الصلاة عملاً سياسياً خالصاً، تحققُ
منه قيمةً روحية، وتوصلُ به رسالةً من أسمى الرسائلِ السياسية، وليس
غريباً بعد ما سبق أن نجدَ أن دينَنا قد سنّ خُطبةَ الجمعة وجعلها واجبة،
وليست خطبةَ الجمعةِ للحديثِ عن العبادات فقط، بل هي لكلِّ شيء، تأمرُ
فيها بمعروفٍ وتنهى فيها عن منكر، تهاجمُ بها حاكمًا ظالماً، وتدعو
لآخرَ عادلٍ، تتكلمُ فيها في كلِّ الشؤونِ السياسيةِ والاقتصاديةِ
والاجتماعيةِ والتعليميةِ والقضائيةِ والثقافيةِ وسائرِ جوانبِ الحياةِ ،
هذا في خطبةِ الجمُعة التي هي في أصلِها عبادةٌ خالصةٌ.
وعودٌ على بِدء، نقول:
الاستغفارُ الذي هو عبادةٌ فردية، إذا أصبحَ ظاهرةً مجتمعيةً تسودُ في
جماعةِ المسلمين، فإنها تعود بمردوداتٍ ماديةٍ على الجماعةِ تشكلُ مقوّماتِ
قوةٍ للجماعةِ والدولة. وفي مقالتنا هذه ليست الدعوةُ إلى الاستغفارِ
فقط، بل هي دعوةٌ إلى إدراكِ أن العقيدةَ الإسلاميةَ عقيدةٌ سياسية، بلغت
من العنايةِ بالسياسةِ وبشؤونِ الجماعةِ أن ربطت بها العباداتِ ذات
القيمةِ الروحية، فصارت تلك العباداتُ تحقق عوائدَ سياسيةً رغم أنها ذاتَ
قيمةٍ روحية، وصارت المعاصي إذا سادت تترك آثاراً سلبيةً على الجماعة،
فعلى سبيلِ المثال هذا انتشارُ الزنا يجلبُ الأمراض.
لذلك كلِّه، نأملُ من أبناءِ أمتنا وهم على مفرقٍ تاريخيٍّ كبيرٍ أن
يلتفتوا إلى هذه الزاويةِ فيبصروا منها تشريعاتِ دينهم، فيرونها على
صورتِها الأصيلةِ واضحةً صافيةً نقيةً شاملة، لم تدعْ شيئاً من الخيرِ إلا
وأحاطت به، ولم تدعْ شيئاً من الشرِ إلا وحذَّرت منه، فسبحانَ اللهِ
العظيم، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
راجي العقابيّ - ساحل غزة