روسيا: ملامح للحضور في الشرق الأوسط
تبدو روسيا تسابق الزمن للعودة للتأثير في الوضع الدولي مجدداً، لتعميق قدرتها على تحقيق مصالحها في كل مناطق العالم، وفي ذلك يجري التحرك وفق نظرية تقوم على سقوط مرحلة القطب الواحد- أو نهاية السطوة الأمريكية- وانفتاح الطريق عمليا لتثبيت وضع دولي يقوم على تعدد الأقطاب في العالم، الذي تجد فيه روسيا فرصتها للعودة مجدداً إلى تحقيق مصالحها على نطاق واسع.
وحين تقول روسيا إنها تطور الوضع الدولي باتجاه تحقيق "مقولة" ووضعية تعدد الأقطاب، فالأمر الذي يجب إدراكه جيدا واعتباره أساسا للرؤية والتقييم، هو أن التحرك الروسي، لا يأتي وفق منطق "تبادل الأدوار" أو انقلاب دورة القوة والضعف مع الولايات المتحدة إلا في جانب منه، إذ تحول الروس الراهن من الضعف إلى القوة، وإن جاء على خلفية ضعف الولايات المتحدة- مع تصاعد عوامل قوتها هي- لكنه يجري في حالة مختلفة عن تلك الحالة التي أتاحت للولايات المتحدة التحول إلى قطب واحد، حين جرى انفرادها بالعالم نتيجة سقوط القطب الآخر (الاتحاد السوفيتي)، وهو ما لم يحدث الآن، إذ نحن أمام استثمار روسي لحالة ضعف وتراجع للولايات المتحدة ولسنا أمام تحولها لقطب دولي وحيد نتيجة انهيار القطب الآخر، كما أن هذا الضعف الأمريكي، لا يسمح لروسيا وحدها بالتحرك دولياً، بل هو يسمح لدول أخرى كثيرة في العالم بذات التحرك، أهمها الصين والاتحاد الأوروبي والهند والبرازيل وتركيا وإيران وجنوب أفريقيا، وهو ما يجعل التحرك الروسي الراهن مختلفا عن حالة الاتحاد السوفيتي السابق وعن حالة الولايات المتحدة ما بعد الحرب الباردة.
والمعنى أن التحرك الروسي الراهن على الصعيد الدولي، هو تحرك في ظرف دولي معقد متشابك ومتعدد، فالولايات المتحدة لم تسقط مثلما سقط الاتحاد السوفيتي السابق، بل هي لا تزال قوة عظمى، ومن ثم فإن روسيا لا تتحرك في فراغ دولي، بل هي تقوى وسط أقوياء آخرين، بما يجعل تحركها بغير اندفاع أو غطرسة، كما أن قوة ومقدرات روسيا ليست هي ذات مفاهيم ومقدرات وعوامل قوة الاتحاد السوفيتي السابق، ولذا هي تعتمد المناورة أكثر من اعتماد الصدام، وكذا هي تتحرك الآن كدولة رأسمالية تبحث عن مصالحها وفق آليات وأسس جديدة، بما يحدد أهدافا لتحركاتها جد مختلفة عما كان يسير عليه السوفيت.
والآن إذ يصل الرئيس الروسي إلى سوريا في زيارة هي الأولى من نوعها، فإن من الخطأ، التفكير في أهداف التحرك الروسي من خلال ذاك المنظار القديم، أو من خلال ذات القواعد التي حكمت علاقات الاتحاد السوفيتي بالعالم، وخاصة الشرق الأوسط، أو وفق تصور أننا أمام حالة شبيهة بما جرى خلال انفراد الولايات المتحدة بالعالم، مع تغيير الاسم من أمريكا إلى روسيا.
فكل التغييرات التي حدثت في موقع روسيا من قبل، وكل العوامل المستجدة على الوضع الدولي، خلال مرحلة أحادية القطبية الدولية، والتغييرات الجارية في العالم حاليا، ومن قبل ومن بعد، التغييرات التي حدثت في "توجهات" روسيا الداخلية والخارجية، كلها عوامل تحدد طبيعة التحرك الروسي الراهن باتجاه الشرق الأوسط.
وكذا يجب الوضع في الاعتبار أن الشرق الأوسط الراهن نفسه، ليس هو الشرق الأوسط الذي كان موجودا في زمن الاتحاد السوفيتي، إذ دخلت تغييرات حاسمة على المنطقة وقضاياها، لا شك أن التحرك الروسي الراهن يراعيها ويحدد على أساسها نمط تحركه الجاري.
في الزمن الماضي، كانت مصر هي البوابة الأكبر للتواجد والدخول السوفيتي إلى المنطقة، وكانت حركة النهوض القومي واليسار في المنطقة على أشدها، ولم يكن هناك من قضايا أساسية في المنطقة (تقريباً) سوى القضية الفلسطينية، والأهم أن الشرق الأوسط نفسه وفق "المضمون الراهن" لم يكن موجوداً، إذا كانت إيران وتركيا في عداد الموالية للغرب والأطلنطي، وعلى درجة من التقارب مع إسرائيل، وهو ما كان يجعل الحركة السوفيتية في المنطقة محصورة في الدول العربية أو بالدقة في بعضها... إلخ.
لكن الوضع الراهن "للشرق الأوسط" يجعل منه "شرقاً أوسط" آخر، حيث الدول العربية الناهضة التي كانت تعتمد التحالف الاستراتيجي أو الشراكة مع الاتحاد السوفيتي لم تعد كذلك (بل صار أحدها محتلاً- العراق-)، كما القضية الفلسطينية لم تعد وحدها محوراً للصراعات مع الغرب، بل ظهرت قضايا أخرى أهمها الملف النووي الإيراني وحالة الصراع بين العرب وإيران فضلاً عن قضايا احتلال العراق واضطرابات اليمن والسودان، وغيرها.والأهم أن إيران وتركيا قد تغيرت ملامح توجهاتهما على نحو كبير ومؤثر على صعيد العلاقات الإستراتيجية الدولية وفى المنطقة.
كل ذلك يجب استحضاره عند النظر ومحاولة فهم طبيعة التحرك الروسي الراهن في المنطقة، والبحث في كيفية انعكاس تلك الأوضاع والتغييرات على هذا التحرك،وصولا لفهم أسبابه وكيف يجب التعامل معه.
الإقليمي والدولي
في النظر للتوجهات العامة للإستراتيجية الروسية على الصعيد الدولي- التي تتحدد من خلالها النظرة للشرق الأوسط وصراعاته- يبدو الأمر الأساس هو أن روسيا كانت تحولت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من دولة عظمى وقطب منافس للولايات المتحدة في طول العالم وعرضه إلى مجرد دولة إقليمية كبرى وإن كانت ذات أسنان دولة عظمى، وأنها في الرحلة الراهنة، تتحول من تلك الدولة الإقليمية إلى قطب دولي ضمن أقطاب أخرى بعضها صاعد إلى درجة تطور وقوة أعلى مما يمكن أن تصل إليه روسيا. ويمكن تحديد اتجاهات حركة روسيا وفقا لذلك في أنها تحاول، أولا: إعادة الاعتبار لنفوذها ودورها في الإقليمي، أو تطوير محاولة استعادة نفوذها في الدول التي كانت واقعة من قبل تحت هيمنتها، وهو ما رأيناه في الحرب على جورجيا وفى الانقلاب السياسي الأوكراني، وعبر ما يجرى في قرغيزستان فضلاً عن علاقاتها المتصاعدة مع بيلاروسيا... إلخ. وهى تحاول،ثانيا: الوصول مع أوروبا الموحدة إلى نمط عن العلاقات"الإستراتيجية"، يقلص مخاوف أوروبا من روسيا، ويكون أساسا لعزل التأثيرات الإستراتيجية الولايات المتحدة عليها، بل هي توفر أساسا لدفع الدور الأوروبي المنافس للولايات المتحدة للتصاعد أيضاً. وهى قطعت شوطا طويلا، ثالثا: في خطتها لدفع العلاقات الروسية الصينية إلى درجة من التوثيق والتحالف الاستراتيجي، لضمان أسس مستديمة لنمو الاقتصاد الروسي إذ تعتمد الصين على التكنولوجيا الروسية في مجال التسليح وعلى الطاقة الروسية بقدر كبير، ولتغيير المعادلة التي أرستها الولايات المتحدة خلال السبعينيات من استخدام الخلاف الصيني- السوفيتي لإضعاف كليهما، وكذا للارتباط بقوة دولية قادرة على منافسة الولايات المتحدة، ولتعميق فكرة وإستراتيجية تعدد الأقطاب. وروسيا تعمل،رابعا: على تعزيز العلاقات مع الهند، والبرازيل وغيرها من الدول الصاعدة بقوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية في العالم، لربط نفوذها ودورها الدولي بتلك الدول.
وهنا تبدو العلاقات مع الشرق الأوسط، والدور الروسي فيه، واحدة من الاتجاهات الإستراتيجية الروسية التالية في الاهتمام. فإذا تصورنا اتجاهاً لحركة روسيا ناحية أوروبا غربا، وتحركًاً باتجاه الصين جنوبا، وكلاهما يستهدف الارتباط بدول صاعدة تشكل ظاهرة تعدد الأقطاب، وتحركا في نصف قوس للالتفاف حول الدول سابقة الخضوع للهيمنة الروسية لتحقيق المصالح الروسية في المحيط الإقليمي المباشر، فإن حركة روسيا باتجاه خط إيران وتركيا، هو خط يستهدف تحقيق جملة من الأهداف، منها الدخول المباشر على مناطق نفوذ كانت تقليدياً تحت سيطرة الغرب الذي كان يوجهها للعداء مع الاتحاد السوفيتي السابق، أو لنقل إن روسيا تستهدف توثيق علاقاتها بدول كانت بمثابة السور العازل للنشاط والدور الروسي في العالم، وباتجاه الشرق الأوسط كلها، إذ كانت إيران وتركيا خط الدفاع الأول عن مصالح الغرب في تلك المنطقة، خلال الحرب الباردة.
ومنها تحقيق اختراق استراتيجي لمنطقة هي الأهم تأثيراً على الاقتصاد الدولي بسبب موارد الطاقة الكبيرة بها من نفط وغاز، والتي هي ذات تأثير مباشر على واحدة من عوامل قوة الاقتصاد الروسي وهو النفط، ومنها، أن عوامل التفكك والضغط الداخلي على الحكم والاستقرار في روسيا، تأتى من تيارات فكرية جذورها في الشرق الأوسط، إذ يتصاعد التأثير الفكري الصادر من حركات ناشطة في دول الشرق الأوسط على الحركات الفكرية الإسلامية الناشطة في كل دول الاتحاد السوفيتي السابق، ذات الجذور والأصول الإسلامية، وكذا الحال في أقاليم روسية داخلية مثل الشيشان وداغستان وأنجوشيا وغيرها. وكذا الحال لأن أقلية إسلامية كبيرة تعيش الآن داخل روسيا، وتمثل هاجسا سياسيا لروسيا. ومنها أن روسيا تتحرك نحو تركيا وإيران لتطويق دول الاتحاد السوفيتي السابق حدوديا واستراتيجيا، وربما وفق لغة تقاسم المصالح في تلك المنطقة بما يعزز فكرة إضعاف النفوذ الأمريكي بها.
زيارة سوريا
لم تأت زيارة ميدفيدف لسوريا ضمن رؤية لتطوير العلاقات الروسية السورية وحدها، كما لم تأت على خلفية التوترات السياسية الناطقة بلغة حربية في أجواء المنطقة الآن فقط، بل تأتي الزيارة تطويرا للدور الروسي الساعي إلى تحالف مع كتلة إستراتيجية حديثة التشكل في المنطقة، من إيران وتركيا وسوريا ولبنان وربما العراق مستقبلا.
وإذا كان بالإمكان القول إن فشل المشروع الأمريكي للهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط الممتد من باكستان وحتى لبنان وجنوبا إلى اليمن وامتدادا إلى القرن الأفريقي والدول العربية في شمال أفريقيا، هو أحد العوامل التي فتحت المجال للنشاط الروسي باتجاه الشرق الأوسط، فإن طبيعة التغييرات التي جرت في إيران وتركيا وعلى صعيد الاتجاهات الإستراتيجية لكلتا الدولتين، هو بعد آخر دافع وحاكم لتطوير روسيا علاقاتها بالإقليم. وفى ذلك تبدو سوريا هي الدولة الأشد حاجة لتطوير علاقاتها مع روسيا، والدولة المفصلية في الحركة في الجزء الأعلى في هذا الإقليم الذي تسعى روسيا لتعزيز الشراكة الإستراتيجية معه، ولعل الرسالة كانت واضحة تماما خلال تلك الزيارة إذ انتقل ميدفيدف من دمشق إلى أنقرة في ذات الزيارة.
في التقدير الاستراتيجي، تجد روسيا في سوريا نقطة ارتكاز إستراتيجية لعودتها للإقليم، ولكن وفق رؤية وفهم جديد- مختلف عن أيام القومية العربية والكتلة العربية- إذ سوريا تتحرك الآن في قلب "كتلة إستراتيجية جديدة" تتشكل في تلك البقعة، على أسس لا ترتبط لا بأوروبا ولا بالولايات المتحدة، والأهم أن كل دول تلك الكتلة هي في ارتباط وثيق مع روسيا، وهنا تأتي زيارة ميدفيدف لسوريا، ضمن إطار فكرة "الكتلة الجديدة" أو لنقل ضمن إطار فكرة "تشكل شرق أوسط جديد".. أيضا.
وتلك هي "المسألة الجوهرية" في زيارة ميدفيدف، وفى كل التوجه والنشاط الروسي في المنطقة.فإذا كانت للولايات المتحدة رؤية لتشكيل شرق أوسط، من دول ضعيفة مفككة تحت الهيمنة الغربية، فقد اعتمدت روسيا رؤية تقوم على المساهمة المتدحرجة في تعميق قدرات دول محورية في هذا الإقليم والارتباط معها بشبكة مصالح متينة، وفق معطيات الواقع وعوامل القوة والضعف الجديدة في هذا الإقليم، بعيدا عن الحسابات الإستراتيجية القديمة التي كانت معتمدة في زمن سابق. وهنا يأتي الفارق بين الإستراتيجية الروسية ونظيرتها الأمريكية- بغض النظر عن النوايا والأهداف النهائية- إذ روسيا تدفع الدول لامتلاك عوامل القوة الذاتية والتطور والسيطرة على مقدراتها لتعميق استقلالها في مواجهة الغرب- مع تعميق ارتباطها بروسيا بنفس القدر- على اعتبار أن ذلك هو أقصر الطرق لإضعاف الهيمنة الأمريكية وتحقيق العودة الروسية دوليا.
وبمعنى آخر، فإن روسيا استبدلت- أو دفعتها ظروفها- محاولة الهيمنة على الأضعف، التي كانت تسير عليها خلال عصر الاتحاد السوفيتي، وحالة المجابهة "بصدرها هي وحدها" مع الولايات المتحدة إلى إستراتيجية أخرى تقوى نفسها عبر علاقات مع دول تقوى، ودون فرض هيمنتها- ربما دون قدرة على ذلك- عليها ولكن وفق لغة المصالح المشتركة. وذلك هو دورها في إنجاز مخطط تعدد الأقطاب في العالم.
إقرأ أيضاً المصدر[url="http://http://www.islamicnews.net/Document/ShowDoc08.asp?Job=&TabIndex=2&DocID=231522&TypeID=8&SubjectID=36&ParentID=0&TabbedItemID=&TabbedItemSellected="]http://http://www.islamicnews.net/Document/ShowDoc08.asp?Job=&TabIndex=2&DocID=231522&TypeID=8&SubjectID=36&ParentID=0&TabbedItemID=&TabbedItemSellected=[/url]