تقول الأسطورة الهندية القديمة 'إن لكل إنسان ماردا فإن أردت أن تحارب هذا الإنسان فلابد أن تحارب مارده أيضا' وهذا المارد إما أن يكون أكبر من الإنسان وإما أن يكون الإنسان أكبر من مارده،وهذه الأسطورة أخذت عنها رواية عالمية وأخري مصرية وهي 'عفريت لكل مواطن'، و'عجب الأقدار' والمحير أن يقف الكاتب أمام أسطورة قديمة وإذا به يراها حية أمامه يراها بعينيه ويدرسها بكل حواسه. فالإنسان والمارد هما رجل وابنه، واتحدت الأسطورة بين المارد والإنسان، فكان حسن سلامة المناضل الفلسطيني الأسطورة والذي فعل كل شيء يدرس حتي الآن في الأكاديميات العالمية للقوات الخاصة أو ذات الطبيعة الخاصة فكان المارد الذي ظل يطارد الإسرائيليين في النوم واليقظة.
حسن سلامه
ولم يصلح علاج لتلك العقدة أو تصح وصفة إلا الاستمرار وراء الأسطورة الهندية إلي النهاية وهي محاربة الإنسان والمارد فإن انتهي المارد حسن سلامة المناضل الفلسطيني في حرب 48 وما قبلها فلابد من محاربة الإنسان علي حسن نجله لتنتهي الأسطورة، وعلي حسن سلامة أو كما يطلقون عليه في إسرائيل 'الأمير الأحمر' وهو قائد القوة 17 وهي القوة المخصصة لحماية الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورقم 17 هو رقم تليفونها الداخلي في مركز القيادة في بيروت.. وقصة اغتيال هذا الرجل عجيبة أيضا فقد تمت علي مرحلتين.. المرحلة الأولي وتم التخطيط لها والتجهيز ثم التنفيذ وانتهت باغتيال شخص آخر، وتم نشر وثائق الموساد التي تحكي قصة الاغتيال باعتبارها من أفشل عمليات الموساد منذ إنشائها حتي الآن.. ثم المرحلة الثانية والتي لم يتم التخطيط الكافي لها ومليئة بالأخطار الظاهرة من كل الأطراف ولكنها انتهت بنجاح وانتهت الأسطورة.. ومن هنا كان كل شيء عجيب وغير طبيعي في هذا الموضوع جعل الأسطورة والواقع شيئا واحد وتلك هي البداية.
***
الأمير الاحمر
المرحلة الأولي: علي حسن سلامة أو الرجل الأسطورة نجل المارد حسن سلامة، ينتمي إلي منظمة أيلول الأسود نسبة إلي الشهر الذي سحق فيه الملك حسين الفلسطينيين في عام 1970 وكان الهدف الرئيسي لمنظمة أيلول الأسود وهي فرع سري لمنظمة التحرير الفلسطينية القيام بعمليات فدائية ضد إسرائيل في كل مكان ففي ميونخ في الخامس من سبتمبر عام 1972 قام سبعة من الفدائيين العرب باحتجاز أحد عشر من الرياضيين الإسرائيليين في القرية الأوليمبية، وفي الوقت الذي كانت وسائل الإعلام الدولية تذيع عملية الاحتجاز إلي الناس في منازلهم حول العالم والمطالب الفلسطينية أيضا، مثيرة بذلك موجة من التعاطف مع الضحايا اليهود الذين يعانون علي أرض ألمانية، ألقت 'جولدا مائير' رئيسة الوزراء مسئولية ما يحدث في ميونخ علي 'زفيزامير' رئيس الموساد الذي يحظي بثقتها والذي طار علي الفور إلي ميونخ وأجري مشاورات عاجلة مع المسئولين عن الأمن في المانيا وبقي 'زامير' في برج المراقبة بمطار ميونخ العسكري وشاهد الرياضيين الإسرائيليين وهم يقتلون وهم مقيدو الأيدي داخل طائرات الهليكوبتر.. وكان 'زامير' غاضبا ووافق تماما علي رغبة 'جولدامائير' في الانتقام من منظمة أيلول الأسود والتي ينتمي إليها علي حسن سلامة.. وتم تشكيل لجنة انتقام وهي 'اللجنة إكس' برئاسة 'مائير' و'ديان' وقررت اللجنة اغتيال أي عنصر من 'أيلول الأسود' وتتكون المجموعة من 'مايك هيراري' رئيسا الذي انتحل شخصيات عديدة منها رجل أعمال فرنسي يدعي 'ادوارد ستانيسلاس لاسكيه' وأصبح 'هيراري' ومساعده 'افراهام جيهمر' الذي عمل في البداية كسكرتير أول للسفارة الإسرائيلية في باريس مسئولين عن التخطيط للعملية.
وكان أول الموتي في أكتوبر 1972 هو 'عادل وائل زعيتر' وهو مثقف فلسطيني يعيش في روما ويعمل مع 'أيلول الأسود' وفي غضون شهرين قتل 'هيراري' وفرقته من الرجال والنساء 12 فلسطينيا من الذين لهم صلات بالعمل الفدائي ضد المدنيين. وحاولت 'أيلول الأسود' بعد أن شاهدت البارزين من رجالها وهم يقتلون أن ترد علي الحملة، وفي 13 نوفمبر 1972 قتل الصحفي السوري 'خضر كانو' في باريس بالرصاص بوصفه عميلا للإسرائيليين. وفي 26 يناير 1973 قتل رجل الأعمال الإسرائيلي 'هانان إشعيا' بالرصاص أثناء وقوفه أمام مدخل منزله في شارع 'جران فيا' وهو الشارع الرئيسي في مدريد، وبعد موته يكتشف أن اسمه الحقيقي هو 'باروخ كوهين' وأنه وصل إلي مدريد قادما من بروكسل في مهمة للمخابرات الإسرائيلية، وهو من أهم رجال الموساد فأحد أشقائه هو 'مائير كوهين' كان نائبا لرئيس البرلمان الإسرائيلي بوصفه عضوا في حزب الليكود الذي يرأسه مناحم بيجين وتولي 'باروخ كوهين' منصب الحاكم العسكري لأكبر المدن بالأراضي المحتلة وهي مدينة 'نابلس' حيث كان يركز عمله بالطبيعة علي قمع العمل الفدائي.
***
وبعد سبعة شهور من المذبحة الأوليمبية قام اليهود باغتيال اثنين من قادة 'أيلول الأسود'' وهما 'محمد النجار وكمال عدوان' بالإضافة إلي 'كمال ناصر' المتحدث باسم منظمة التحرير الفلسطينية. وفي ليلة العاشر من إبريل عام 1973 قتل الثلاثة بالرصاص كل في مسكنه بقلب مدينة بيروت علي يد مسلحين من القوات الخاصة الإسرائيلية تحت قيادة رجال الموساد وذلك في عملية إنزال ليلي عسكرية لمجموعة من أفضل أعضاء الكوماندوز من وحدة 'سايريت' علي شاطيء لبنان، وقد أطلق عليها اسم 'أفيف نيوريم' أو 'ربيع الشباب' ومن بين الرجال الذين شاركوا في العملية اثنان من الضباط الشباب واللذان ترأسا وكالة المخابرات العسكرية 'أمان' بعد ذلك وهما 'إيهود باراك' و'أمنون ليبكين'، ففي شهر يوليو 1973 تجمعت غالبية وحدة 'مايك هراري' للقتل بتفويض من 'مائير' رئيسة الوزراء واللجنة إكس في بلده 'ليليهامر' الصغيرة في شمال النرويج، وقد وفد الأفراد من مختلف أنحاء أوربا للانتقام من 'الأمير الأحمر' وهو الاسم الشفري الذي أطلقته الموساد علي 'علي حسن سلامة' ضابط 'أيلول الأسود' في أوربا الغربية الذي خطط للهجوم علي الرياضيين الإسرائيليين في ميونخ وأيضا خطط لاغتيال 'باروخ كوهين'. وكان سلامة معتدا بنفسه مستهترا ويعشق النساء إلا أنه كان من الصعب العثور عليه أيضا، وعقب شهور عديدة من البحث عنه توجه المسلحون من رجال 'هيراري' إلي النرويج يحدوهم حماس عظيم بعد أن أكد عملاؤهم في رحلة استكشاف سابقة أنهم عثروا أخيرا علي سلامة. وحدد فريق هيراري موقع فريستهم في 'ليليهامر' واقتفوا أثره لساعات معدودة ليتأكدوا من شخصية الأمير الأحمر وقتلوه بعد ذلك بالرصاص مساء يوم 21 من يوليو وهرب المسلحون أنفسهم سريعا من البلاد، واتجه بقية الإسرائيليين إلي منازل آمنة في أوسلو ولم يكتشف عملاء إسرائيل إلا في اليوم التالي أنهم ارتكبوا خطأ فادحا، فقد قتلوا الرجل الخطأ ولم يكن سوي جرسون مغربي يدعي أحمد بوشيقي، متزوج من نرويجية شهدت عملية إطلاق النار وهي في شهور حملها وكان يمكن للإسرائيليين أن يلوذوا بالفرار ويحتفظوا بجريمتهم كسر مطبق لولا السلوك الغبي من العملاء المساعدين ومن الرجال والنساء الذين قاموا بعملية المراقبة والاشتراك في التخطيط والذين اقترفوا كافة الأخطاء التي يمكن تصورها كما لو كانوا يسعون ليقبض عليهم البوليس النرويجي، ولم يبذل البوليس جهودا كبيرة للقبض علي القتلة فقد ترك عملاء الموساد وبالرغم من تدريبهم بعناية علي عمليات الاختفاء بمجرد إبلاغهم آثارا تدل عليهم في كل خطوة قاموا بها، وبطريقة يتعذر تفسيرها فكانوا يتجولون في بلدة 'ليليهامر' في سيارات استأجروها بأنفسهم بدلا من استخدام وسطاء لا يعرفون شيئا عن طبيعة مهمة الاغتيال المنوطة بهم كما لم يراعوا قواعد تقسيم العمل والفصل في الاختصاصات وتعرفوا بدلا من ذلك علي بعضهم البعض وقدم جيران الجرسون سييء الحظ رقم إحدي السيارات إلي البوليس وتم القبض علي اثنين من الإسرائيليين عند اعادتهما للسيارة المستأجرة إلي مطار أوسلو واعترف كل منهما وهما 'دان إرت' و'ماريان جلادينكوف' بأنهما يعملان لصالح إسرائيل وكشفا عن عنوان مسكن يستخدمه الموساد وعثر البوليس هناك علي اثنين آخرين من الفريق الإسرائيلي.
وأصابت الدهشة البوليس النرويجي بسبب الأساليب التي تتسم بالهواية التي تستخدمها وكالة الجاسوسية التي ينظر إليها باعتبارها أفضل وكالة في العالم، وتساقط الإسرائيليون واحدا تلو الآخر في أيدي البوليس كما لو كانوا ثمارا نضجت وحان قطافها. وتمكن هيراري من الهرب إلا أنه تم إلقاء القبض علي 'افراهام جيهمر' وخمسة آخرين من الموساد. وكشف المحققون في النرويج طريقة العمل في الاغتيالات الأخري التي تمت بعد أوليمبياد ميونخ وظهرت الأدلة التي تربط الإسرائيليين بعمليات قتل الفلسطينيين في العديد من الدول وهي العمليات التي لم يتم التوصل فيها إلي شيء من قبل وكشف وكالات المخابرات الغربية عن الطريقة التي يوزع بها الإسرائيليون عملاءهم في أوربا. وعن كيفية استخدامهم للأشخاص الذين يعملون بصفة مؤقتة لمساعدتهم في عمليات المراقبة وتقديم ما يحتاجونه من امدادات. وكان 'إرت' وهو أكثر من ثرثر عند التحقيق معه في أوسلو، أحد الأمثلة علي ذلك، فهو لم يكن عضوا في الموساد بل رجل أعمال من أصل دنماركي يعيش في 'هرتزيليا' شمال تل أبيب. اسمه الحقيقي 'دان ايربيل' وكانت تستدعيه من وقت لآخر للقيام بمهام متنوعة وبمجرد أن وضعه النرويجيون في زنزانة انفرادية معتمة حتي اعترف لهم بكل شيء ولم يستطع المحققون النرويجيون اخفاء دهشتهم عندما كشف لهم 'إرت ايربيل' أنه يعاني من مرض الخوف العصابي من الأماكن الضيقة المغلقة وهو عيب خطير بالنسبة لعميل سري.
وفي مقابل نقله إلي زنزانة أوسع أبدي رغبته في الاعتراف بكل شيء ليس فقط بعملية 'ليليهامر' بل أيضا بعملية النقل السرية لحمولة اليورانيوم' إلي إسرائيل في عام 1968، وهي عملية شارك فيها وذكر إرت ايربيل أنه كان الواجهة التي دفع بها الموساد لشراء سفينة شحن قديمة هي 'شيرز بيرج 1' كانت تحمل 560 من الصفائح المعدنية من أكسيد اليورانيوم عند مغادرتها ميناء 'انتويرب' في بلجيكا ثم ظهرت في الميناء التالي وهي خالية من المادة النووية الأولية وألقي القبض أيضا علي 'سيلفيا رافييل' من بين الإسرائيليين الذين قبض عليهم في النرويج إلا أنها كانت أكثر احترافا من 'إرت/ ايربيل' بكثير وجابت العديد من دول العالم، تحت اسمها السري 'باتريشيا روكسبورو' كمصورة صحفية تحمل جواز سفر كنديا مزيفا.
وهي من مواليد جنوب أفريقيا وتم تجنيدها من قبل الموساد بعد عملها كمتطوعة في أحد الكيبوتزات الإسرائيلية وانتهت قضيتها وحدها نهاية سعيدة بعد أن أحبت محاميها النرويجي وتزوجته إلا أنه كان يتعين عليها ومعها أربعة من الموساد قضاء فترة في السجن وبالرغم من أن العقوبات التي أصدرتها المحكمة تراوحت ما بين عامين وخمسة أعوام ونصف العام، إلا أن النرويجيين المتعاطفين مع إسرائيل أفرجوا عنهم بعد فترة لم تزد عن 22 شهرا، وكانت الموساد سعيدة الحظ لأن النرويج لم تضغط بشدة في تحقيقاتها في هذه القضية المعقدة، مفضلين بوضوح الابتعاد عن إضافة مزيد من المهانة العلنية للوضع المحرج الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه. وأبدت الأجهزة السرية الفرنسية والإيطالية قدرا كبيرا من التضامن مع الموساد. وبالرغم من المعلومات التي ظهرت في محاكمات النرويج والتي تدين الموساد فقد تجاهلت هذه الأجهزة طلبات منظمة التحرير الفلسطينية بإعادة التحقيق في قتل الفلسطينيين داخل ايطاليا وفرنسا، وقد تعاطفت وكالات مخابرات أوربا الغربية مع الموساد حيث شعرت الوكالات أنه من السهل أيضا أن تضبط هي الأخري وهي متلبسة وأن تعاطفها يشكل مجاملة مهنية لكي لا يزداد الأمر سوءا، ومن هنا نري عجبا في جهاز الموساد الإسرائيلي:
1 فكيف لهذا الجهاز أن يستخدم عميلا مصابا بداء الخوف العصبي وفور القبض عليه يقول ما يجب وما لا يجب والذي حدث وما حدث في الماضي؟!! كل شيء.. وبسلاسة ووضوح لا يحسده عليها أحد ولم يكن هناك تدريب مسبق في مثل هذه الظروف علي الأخطاء والاستجواب وبشكل مكثف ليكون الرد والاعتراف مدروسا ومسبوقا ومدربا وبشكل طيبعي
2 عملية الانسحاب والتي يبدو فيها كل شيء ضد طبيعة تدريب أجهزة المخابرات علي طبيعة العملية وتجهيز مسرحها وبدقة كما كانت متشابهة مع الواقع كان النجاح أقرب إلي الحدوث. فعملية الانسحاب هي من لوازم التدريب والتجهيز والتحضير فكل فرد فعل ما يدل علي أثره ليتم تتبعه.
3 لم يكن هناك فريق تغطية وتمويه ومساعدة ومدير عن بعد لإنجاح العملية وانهائها كما يجب أو المساعدة عند تغيير ظروف العملية.
4 الثقة الزائدة والتي تعتبر هنا مفتاح الفشل والهزيمة لأي عملية مخابراتية خارج حدود البلد المنفذ للعملية.
5 لم يكن هناك معالم وحدود لمفهوم الأداء وضبط إيقاعه أو لنقل لم يكن هناك قائد بالمرة أو كان هناك قائد ذابت تعليماته وسط هلامية الأخطاء من كل الأطراف..
***