بقلم: علي حسين باكير/باحث مهتم بالشؤون الاستراتيجية
بعد روتين المحادثات السابقة و نتيجة لعدم خروجها بنتائج ايجابيّة مهمّة و نظرا لبقاء المشكلة قائمة, غابت الأزمة النووية الكورية الشمالية عن الواجهة الأساسيّة و تمّ تجاهل مطالب بيونغ يانغ, ثمّ ما لبث أن تطوّر الوضع بشكل دراماتيكي لتعود كوريا الشمالية و المسألة النووية الى واجهة الاحداث من جديد.
دوافع التجربة النووية
الاختبار النووي الاوّل الذي اجرته بيونغ يانغ و يعتقد انّه قد تمّ في منطقة "هوادائي", التقطه مقياس ريختر بقوّة 4.2 درجات و هو ما يعادل استخدام حوالي واحد كيلوطن ( 1000 طن) من المتفجرات الشديدة الانفجار في حين تشير تقديرات اخرى الى نصف هذه الكميّة تقريبا. في كل الأحوال, فانّ التفجير الذي اوردته التقارير صباح 9-10-2006 كان صغيرا نسبيا قياسا الى الانفجارات التي تحدثها القنابل النووية قديما او حاليا. باستطاعة كوريا الشمالية القيام باختبار نووي ثاني بالتأكيد, فالرأي السائد هو أنّ بيونغ يانغ تمتلك حوالي 6 الى 8 أدوات او وسائل نووية (أقل من قنبلة) و لديها مواد لصنع اكثر من ذلك بقليل.
قوّة الانفجار الذي حصل و الضعيف نسبيا مقارنة بغيره كما ذكرنا, يمكن أن يشير الى انّ كوريا الشمالية قد فشلت في النجاح بشكل كامل في اختبارها النووي, و لكنّه من الممكن ايضا ان يكون مناورة كورية لاختبار تفجيرات نووية صغيرة قبل القيام بتفجير كبير قوي. و اذا كان الخيار الثاني هو الصحيح, فهذا معناه أنّ كوريا الشمالية واثقة ممّا تفعله و أننا سنشهد قريبا تجربة نووية ثانية لبيونغ يانغ.
و يمكننا أن نعزو الأسباب التي دفعت كوريا الشمالية الى هذا الاتّجاه في التصعيد و هذا التصرّف للنقاط التالية:
أولا: ادراك كوريا الشمالية أنّ سلسلة المحادثات التي جرت حتى الآن لم يكن الهدف منها الخروج بحلول للأزمة الحاصلة (على الأقل بالنسبة للولايات المتّحدة) بقدر ما كان تقطيعا للوقت و هذا ما أغضب كوريا الشماليّة و كرّس شعورها بالعزلة الدولية .
ثانيا: اللامبالاة التي تبديها الولايات المتّحدة لكوريا الشماليّة و لمطالبها, و اصرارها على مهاجمة النظام الكوري الديمقراطي الشعبي, خاصّة عندما وصف الرئيس بوش كوريا الشماليّة بأنّها "قاعدة للطغيان" و تكرر ذلك في العديد من المناسبات و التقارير.
ثالثا: و هو الأهم , تقدير كوريا الشمالية أنّ هذا التوقيت قد يكون الأكثر نفعا لمثل هذه الخطوة خاصّة انّ الولايات المتّحدة الأمريكية تعاني من مشاكل جمّة في العراق و أفغانستان و هي مستنزفة عسكريا و لديها من المشاكل ما يكف لأن ترتدع عن استعمال اقوة في حل الأزمة الكورية.
لم تمض ساعات على أوّل تجربة نووية كورية شمالية حتى كان رئيس دائرة المخابرات القوميّة الكورية الجنوبية يبلغ كيم سونغ يو يخبر البرلمان بأنّ كوريا الشمالية قد تجري اختبارا نوويا ثانيا في منطقة "بونغ يي" شمال شرق البلاد, حيث شوهد نشاط مكثّف للعربات و الجنود في تلك المنطقة التي كان من المفترض أن يتم الاختبار النووي الاول لكوريا الشمالية فيها.
انّ التكتيك الكوري الشمالي قد يهدف الى جعل العالم يعتقد انّ هناك تجربة نووية اخرى قادمة, و ذلك بهدف تسليط الضوء على مطالب كوريا الشمالية الملحّة و المتكرّرة خاصّة بعد أن لمست انّ هناك اهمالا او تغاضيا دوليا او انشغالا عن قضيتها على الصعيد الدولي. و قد تكون كوريا الشمالية اختارت التوقيت المناسب جدا لاجراء هذا الاختبار كمقدمة لاختبارات أخرى, خاصّة انّها تعي انّ الولايات المتّحدة غارقة في مشاكل دولية كبيرة حتى اخمص قدميها لاسيما في الحرب على الارهاب, أفغانستان و العراق بالاضافة الى الأزمة النووية الايرانية و انّ قرب نهاية ولاية بوش و الانتخابات النصفيّة القريبة يجعل الادارة الأمريكية عاجزة عن اتّخاذ قرار استراتيجي وفق سياسة "البطّة العرجاء", كذلك الأمر بالنسبة الى كوريا الجنوبية التي تتحضّر للانتخابات في العام 2007, فهذه الخطوات الكورية الشمالية تندرج ضمن اطار اطالة امد الأزمة النووية الى حين الاستجابة لجميع مطالبها خاصّة انّها تعلم جيّدا انّ خطوتها و التوقيت يمنعان الأطراف الدولية من اتّخاذ قرار حاسم بشأنها.
فالتوتر يجعل الأطراف الدولية لا تستقر على رأي واحد موحّد و هو نفس الأمر الذي يحصل بالأزمة الايرانية مما يؤدي الى تعطيل الموقف الموّحد و يشل التحركات و القرارات الحاسمة و يعطي كوريا الشمالية الوقت اللازم لاستعراض قوتها.
قدرات كوريا الشمالية الصاروخيّة
تمتلك كوريا الشمالية أكثر من 800 صاروخ ذاتي الدفع بعضها يمكن أن يحمل رؤوسا كيماوية أو ربما بيولوجية, و هي تقوم حاليا بعملية تحديث لصواريخها المتنقلة وهو ما يسهل عليها شن هجوم مفاجئ على دول الجوار. و تعتمد بيون يانغ على عمليات بيع الصواريخ و نقل التكنولوجيا الخاصة بها الى الدول الأخرى في العالم الثالث كمصدر رئيسي للعملة الصعبة التي تحتاجها البلاد في ظل الحصار الخانق و العزلة الدولية, اذ تؤمّن هذه الصادرات اكبر مصدر عملة صعب لحكومة بيونغ يانغ. و تقدّر مصادر الجيش الأمريكي أنّ صادرات كوريا الشمالية من الصواريخ الى الشرق الأوسط خلال العام 2001 قد وصلت الى حوالي 580 مليون دولار لكنّ هذا الرقم تدنى خلال السنوات الأخيرة.
و استنادا للتقارير, فانّ ايران تعدّ من أقدم زبائن بيونغ يانغ في مجال الصواريخ وتقنياتها و تكنولوجيتها. فقد توصّل الطرفان في العام 1983 الى اتّفاق ثنائي تقوم كوريا الشمالية بموجبه بتقديم المساعدة التقنية الازمة لايران من اجل انشاء منشأة لانتاج الصواريخ. و قد باعت كوريا الشمالية خلال فقترة الثمانينات و منتصف الستعينات حوالي 200 الى 300 صاروخ سكود الى طهران بالاضافة الى الصواريخ المضادة للسفن, كما قامت بتزويد ايران بعدد من صواريخ "نودونغ".
ازدادت المخاوف من قدرات كوري الشمالية الصاروخية كثيرا بشكل العام منذ إجرائها تجربة على إطلاق صاروخين وربما ثلاثة صواريخ في وقت سابق في شهر مارس من العام 2006 خاصةّ أن الصواريخ أطلقت بالوقود الصلب بدلا من الوقودال سائل وهو ما يسهل نشرها ونقلها فضلا عن زيادة دقتها. و قد وصف قائد القوات الأميركية في كوريا الجنوبية الصواريخ التي أجريت عليها التجربة آنذاك بأنها تمثل قفزة للأمام من ناحية الكم, كما أنها أكثر دقة.
و وفقا لدانييل بينكستون مدير برنامج حظر الانتشار النووي في شرق آسيا التابع لمركز دراسات حظر الانتشار،فأن استخدام الوقود الصلب يمكّن من إطلاق الصواريخ بسرعة أكبر ويزيد عنصر المفاجأة و بالتالي يصعّب صد هجومها خصوصا فيما يتعلق بالدفاع عن كوريا الجنوبية.
و تعكف بيونغ يانغ حاليا على تطوير صاروخ "تايبودونغ 10" ليعمل بالوقود الصلب الذي يصل مداه إلى أربعة آلاف كيلومتر والذي يمكنه ضرب اليابان وكذلك القواعد الأميركية في غوام.
الصواريخ الكورية الشمالية و ضرب الولايات المتّحدة
وفقا للمعلومات المتوافرة, فانّ كوريا الشمالية قد سعت للحصول على تكنولوجيا الصواريخ منذ زمن و هي قد تعاونت مع الاتحاد السوفيتي في بداية الستينات من القرن الماضي فيما يتعلّق بعدد من أنظمة الصواريخ حيث اصبحت كوريا الشمالية حينها قادرة على انتاج نموذج صواريخ "سكود- بي" السوفيتية الصنع. و قد ساعد الصينيون ايضا بيونغ يانغ في عملية تطوير الصواريخ و الجهود المتعلّقة بها خاصّة فيما يتعلّق بصواريخ أرض-جو الصواريخ المضادّة للسفن. فقد توصّل الطرفان في منتصف السبعينات الى انتاج صاروخ باليستي يصل مداه الى 600 كلم لكنّ البرنامج قد اغلاقه في العام 1978.
أمّا الآن, فتستطيع صواريخ كوريا الشمالية الوصول الى جميع الأراضي الكورية الجنوبية, و هي تمتلك صاروخين او ثلاثة انواع من الصواريخ القادرة على الوصول الى اليابان و تهديدها.
و تعتقد مصادر المخابرات الأمريكية انّ صاروخ تابودونغ-2 المعدّل و الذي لم يتم اختباره قد يكون قادرا على الوصول الى ألاسكا, هاواي, و بعض مناطق غرب الولايات المتّحدة, محمّلا بشحنات صغيرة من المتفجرات عالية الفعالية, رؤوس بيولوجية او كيميائية لكنه غير قادر على الأرجح على حمل رؤوس نووية.
و نظرا لعدم دقّة صاروخ تابودونغ-2 فانّه من المرّجح أن يكون غير ذي جدوى عسكرية, لكنّه على الرغم من ذلك يظلّ قادرا على تهديد السكّان في عدد من المدن الأمريكية الضخمة على الساحل الغربي. و تسعى بيونغ يانغ الى تطوير صواريخ عابرة للقارات تطال حينها جميع أراضي الولايات المتّحدة الأمريكية. و من الممكن لها انّ تصل الى هذه القدرات وفق تقديرات الخبراء في العام 2015 اذا توافرت الموارد المادية و الإرادة السياسية لتطوير برنامج صواريخ طموح كهذا.
الخيار العسكري الامريكي ضدّ كوريا الشمالية
الخيار العسكري يبدو بعيدا في حالة كوريا الشمالية, لأسباب واقعية و موضوعيّة عديدة. فطبقا لأحد التقارير الصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية و الدولية في واشنطن "CSIS" ,هناك نصف مليون أمريكي يقيمون و يدرسون أو يعملون في اقليم آسيا و الباسيفيك, كما أن حجم الأعمال و الأنشطة الاقتصادية التي تربط واشنطن و الاقليم تقدّر بسبعمائة مليار دولار بالاضافة الى مائتي مليار دولار حجم الاستثمارات. و اذا أخذنا بعين الاعتبار استحواذ هذا الجزء من العالم على ما يقرب من ثلث اجمالي التجارة الأمريكية تتضح لنا أبعاد الارتباط الوثيق بين الواقع الاقتصادي و الاستقرار السياسي في اقليم آسيا و الباسيفيك و بين انتعاش الاقتصاد الأمريكي بصفة عامة سواء في اطار المفهوم الشامل للأمن القومي, أو مجرد ضمان مزيد من فرص العمل و التوظف كما أن مفهوم العولمة و المناطق التجارية الموسعة يدعمان هذا الاهتمام.
اضافة الى ذلك هناك عدد من المواضيع التي تعيق العمل العسكري و منها:
أولا: أنّ كوريا الشماليّة ليست ضعيفة من الناحية العسكرية وهي احدى الدول القليلة القادرة على مواجهة الولايات المتّحدة عسكريا والحاق خسائر فادحة بل وكارثية بها ان ارادت على قاعدة "عليّ وعلى أعدائي" وهي تمتلك الارادة السياسيّة للمواجهة وهو ما تفتقده العديد من الدول التي تمتلك قدرات عسكرية تقليدية مع العلم أنّ كوريا الشماليّة ان هدّدت فستفعل وأسلوبها يختلف عن أسلوب ايران الذي يهدّد ويتوعّد ثم لا يلبث أن يتراجع او يتعاون ثمّ يعود من جديد وذلك بغرض الابتزاز أو المساومة تحت الضغط.
ثانيا: انّ كوريا الشماليّة تمتلك القوة في حال مهاجمتها لضرب 37 ألف جندي أمريكي ينتشرون في القواعد الكوريّة الجنوبية أو اليابانيّة بكل سهولة وهي قادرة على استهداف عدّة مدن امريكيّة بصواريخ بعيدة المدى وهذا ما يجعل أمريكا حذرة في التعامل مع كوريا الشماليّة .
ثالثا: أنّ كوريا الشماليّة ليست دولة تابعة عسكريّا، بمعنى أنّها لا تعتمد على امدادات وصفقات عسكريّة مع دول أخرى قد تقوم بقطع هذه الامدادات عنها بناءا على طلب أمريكا أو ابتزازها أو معرفة قدراتها العسكريّة وهذا يمنحها الاستقلاليّة في اتّخاذ أي قرار عسكري، كما أنّ خطّة كوريا الشماليّة لن تكون حتى اذا تعرّضت كوريا الشماليّة لضربات استباقيّة تستهدف منشآتها النووية، فهي قادرة هجوميّا على استخدام الأسلحة الكيماويّة والجرثوميّة بدلا عنها وهي لا تقلّ خطرا عن الأولى لذلك فالضربات الاستباقيّة فاشلة ضمن هذه المعايير.
رابعا: عدم امتلاك الولايات المتّحدة لمعلومات دقيقة عن قدرات كوريا الشماليّة في جميع المياديين رغم امتلاك أمريكا لطائرات تجسّس حديثة ومتطوّرة تراقب كوريا الشماليّة على مدار السّاعة ورغم امتلاكها للأقمار الصناعيّة التجسسية التي تقارب ال 70 قمرا الاّ انّ هكذا نوع من الأنظمة يصعب اختراقه والتجسس عليه.
خامسا: انّ دول الجوار المحيطة بكوريا الشماليّة أو القريبة منها كالصين واليابان وكوريا الجنوبيّة وغيرها كروسيا ستحاول اقناع الولايات المتحدة بالعدول عن الحل العسكري اذا كانت تنوي القيام به، فهذه الدول ترفض الحل العسكري ليس خوفا على كوريا الشمالية، بل خوفا على المنطقة وعلى انفسهم وعلى المستقبل ككل، فان وقعت الحرب فلن تكون محدودة بل ستطال جميع الدول المحيطة وستؤدي هذه الحرب على أقل تقدير الى خسائر اقتصاديّة هائلة وفادحة لهذه الدول قد تدفع بها الى مصافي العالم الثالث.
لذلك ستعتمد الولايات المتّحدة على العامل الاقتصادي وستحاول عزل كوريا الشماليّة نهائيا عن العالم وقطع كافة طرق المساعدات والامدادات والتعاون بين كوريا الشماليّة وأي دولة اخرى بما فيها دول الجوار والتي سيكون على أمريكا بذل جهود مضنية معها لاقناعها بالتخلي عن مساعدة كوريا الشماليّة أو حتى التعاون معها ودفعها الى طاولة المفاوضات وهنا تكمن الصعوبة لاسيما انّ كوريا الشماليّة تعد حسب بعض التقارير الشريك التجاري الاوّل للصين , و اتّخاذ الصين لموقف دولي مسؤول ضدّ كوريا الشمالية قد يتمثّل في فرض عقوبات عليها من قبلها سيعطي مؤشرا ايجابيا للمجتمع الدولي و الولايات المتّحدة و سيدفع ايران لمراجعة حساباتها ايضا و سيكون على الولايات المتّحدة الانتظار مع كثير من الضغوط على الدول المجاورة الى حين انهيار النظام الكوري الشمالي وتسليم جميع اوراقه طواعية وهذه المرّة من الممكن أن تكون مقابل مساعدات اقتصاديّة كبيرة.