سنة/1956/م الضابط "جول جمال" يبعث من"مصر" برسالة إلى أهله يخبرهم بها
أنه سيعود لأنه سيتخرج قريباً من الكلية البحرية (إنشاء الله يابييِ بجي
لعندكن ومن عيد سوى بعيد الميلاد ورأس السنة لأني بكون تخرجت).
/26/تموز من العام نفسه كل الإذاعات تتناقل أخبار تأميم الرئيس
الراحل "عبد الناصر" لقناة السويس كشركة مساهمة مصرية، المد الثوري يجتاح
كيان كل عامل وفلاح وجندي عربي مؤمن بقضيته وحالة التفاف جماهيري حول "عبد
الناصر"، الدول الاستعمارية المتضررة من
القرار("فرنسا"_"بريطانيا"_إسرائيل") تثير زوبعة سياسية ضد قرار"عبد
الناصر" التوتر في أوجه والحرب على الأبواب الكل يقول ذلك.
/26/تشرين الثاني ابتدأت الأعمال الحربية ضد"مصر" و"بور سعيد" جريحة بفعل
قصف الطيران والبحرية الملكية البريطانية لهذه المدينة وصور القتل والدمار
في كل مكان، القيادة السورية ترغب بإبقاء البعثة العسكرية السورية في"مصر"
بعد تخرجها من أجل تدريب ضباطها على زوارق طوربيد حديثة استوردتها "مصر".
منتصف ليل/4/ تشرين الثاني الملازم ثاني "جول جمال" يلتقط وأقرانه بث
المدمرة الفرنسية "جان بار" jean bart"، يتوجه إلى مكتب قائده "جلال
الدسوقي" طالباً منه السماح له بالمشاركة بالعمليات الحريبة وهو يقول له
(أنا لا أرى بلدين بل أرى بلد واحد)، الموقع: البحر الأبيض المتوسط شمال
"البرلس"، يتوجه"جول جمال" لمواجهة المدمرة "جان بار"، المدمرة تغرق في عرض
البحر وعلى متنها/88/ضابط فرنسي و/2055/جندي بحرية فرنسي، يستشهد"جول"
وتتناقل الإذاعات أخبار العملية الفدائية التي قام بها البطل السوري"جول
جمال" على الشواطئ المصرية مسطراً بذلك أروع صور البطولة والتضحية ممهداً
بشظايا جسده الطاهر بداية العمليات الفدائية ضد كل من تطأ أقدامه تراب
الوطن.
رحل "جول جمال" وبقيت ذكراه منارةً لكل مناضل وثوري غيور على وطنه مؤكداً
باستشهاده وحدة المصير العربي، وإذا كانت المرحومة والدته قد قضت بقيت
حياتها وهي تنتظر عودته فلا يسعنا إلا أن نقبل يديها الخشنتين ونقول لها
(أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهدا فبكت دمعتين ووردة ولم تنزوي
في ثياب الحداد).
"المشتاية" قرية الشهيد "جول جمال" الواقعة غرب مدينة
"حمص" والتقى ابن عمه المهندس الزراعي "جول ميشال جمال" الذي ابتدأ حديثه
بالقول: «كانت ولادة "جول جمال" سنة /1934/م في قرية "المشتاية" وانتقل هو
ووالديه للعيش في "اللاذقية" حيث كان أبوه "يوسف الياس جمال" دكتوراً
بيطرياً ومدير للصحة الحيوانية في "اللاذقية".
حصل "جول" على الشهادة الابتدائية سنة/1943/م والمتوسطة سنة/1950/م من
الكلية الأرثوذكسية في "اللاذقية" وكان حصوله على الشهادة الثانوية من
الجامعة السورية في"دمشق" سنة/1953/م، وكان أبوه يرغب بأن يتابع ابنه "جول"
تحصيله الجامعي لكن "جول" كان يرغب في الانتساب إلى البحرية مما اضطر الأب
إلى الرضوخ إلى رغبة ابنه بعدما قبل ابنه في الكلية البحرية وتم إرساله في
نفس العام ضمن بعثة عسكرية تضم/10/طلاب سورين للالتحاق بالكلية البحرية
في"مصر"».
مضيفاً: «وفي شهر أيارمن سنة/1956/م تخرج "جول" من الكلية البحرية محققاً المرتبة الأولى على دفعته من الضباط السورين الذين
كانوا معه في البعثة ليصير الملازم ثاني "جول جمال"، وقبل تخرجه كان
"جول" قد أرسل رسالة إلى أهله يخبرهم فيها أنه سيعود بعد التخرج إلى سورية
قائلاً فيها(إنشاء الله يابيي بجي لعندكن ومن عيد سوى بعيد الميلاد ورأس
السنة لأني بكون تخرجت)، لكن الأحداث كانت تتعقد خاصةً بعد القرار الشجاع
الذي اتخذه الراحل "عبد الناصر" في شهر تموز من العام نفسه بتأميم قناة
السويس كشركة مساهمة مصرية الأمر الذي أثار غضب الدول الاستعمارية
الثلاث("فرنسا"_"بريطانيا"_"إسرائيل") التي قامت بعدوانها الثلاثي على"مصر"
بتاريخ 26/11/1956م وفي هذه الأثناء لم يكن "جول" ورفاقه في البعثة
العسكرية السورية قد غادروا مصر بعد لأن القيادة السورية ارتأت إبقاؤهم من
أجل تدريبهم على زوارق طوربيد حديثة استوردتها "مصر".
وخلال فترة الحرب كانت المدمرة الفرنسية "جان بار" أو"تنين البحر الأبيض
المتوسط" تقترب من الشواطئ المصرية وكان هدفها الأساسي هو تدمير ما تبقى من
مدينة "بور سعيد" المصرية التي كانت قد تعرضت لقصف سلاح البحرية والطيران
الملكي البريطاني، وعندما علم "جول" بطلب القيادة المصرية تشكيل فرق فدائية
دخل إلى مكتب قائده "جلال الدسوقي" وطلب منه أن يسمح له بالمشاركة في
العمليات العسكرية لكن قائده اعترض على ذلك كون اللوائح العسكرية لاتسمح
لأي أجنبي أن يقوم بدوريات بحرية، لكن "جول" أصر على طلبه بالمشاركة وهو
يقول له كما ورد في مذكرات وزير الإعلام المصري في ذلك الوقت (عندما أرى
شوارع الإسكندرية كأني أرى شوارع "اللاذقية".. وأنا لاأرى بلدين أنا أرى
بلد واحد).
وفعلاً تمت الموافقه على طلبه واشترك معه في هذه العملية ضابط سوري اسمه
"نخلة سكاف" من "اللاذقية" وضابط مصري وتم وضع الخطة على أساس أن يقوم
"جول" بالعملية أولاً وإذا لم ينجح يأتي الضابط المصري وأخيراً يأتي دور
"نخلة اسكاف" وأثناء اقترابه من المدمرة الفرنسية استطاع "جول" أن يصل إلى
نقطة الصفر أي النقطة الميتة التي لاتستطيع مدافع المدمرة الوصول إليه منها
وهكذا استطاع "جول" أن يصل إلى المدمرة الفرنسية وينفذ عمليته الفدائية
التي أدت إلى استشهاد البطل "جول" وغرق "جان بار" فخر البحرية الفرنسية
آنذاك وعلى متنها /88/ضابط و/2055/ جندي بحرية مؤكداً بذلك وحدة المصير
العربي».
وعن الصدى الذي تركه خبر استشهاد "جول" في ذلك الوقت قال ابن عمه "جول":
«أنا لم أكن واعياً على تلك المرحلة كوني ولدت بعد استشهاد البطل
بحوالي/14/شهر، لكن أبي وأمي حكوا لي كثيراً عن تلك الأيام حيث قالوا لي
عندما نقلت الإذاعة نبأ استشهاد ضابط سوري اسمه "جول جمال" وتدميره للمدمرة
الفرنسية "جان بار" لم نكن نعلم أن المقصود هو ابننا وكنا نقول (الله
يساعد قلب أموا) وبعد فترة علمنا أن المقصود
|
قرية المشتاية مسقط رأس الشهيد"جول جمال" |
هو ابننا "جول" عن طريق وزير الدفاع السوري آنذاك، ومما قالوا أيضاً
أن الجوامع في تلك الفترة بدأت تكبر ودقت أجراس الكنائس وكان الناس يعيشون
حماس وطني منقطع النظير، وعندما أقيم جناز على روحه حضر وزير الدفاع وعدد
من الضباط المصرين والسورين».
مضيفاً: «في تلك الأيام حاول العدو الإسرائيلي أن يحبط من المعنويات
العالية للجماهير وذلك عن طريق نشر إشاعات تقول أن "جول جمال" لازال على
قيد الحياة وأنه أسير ومما كان يقال (أعطونا "كوهين" نعطيكم "جول جمال")
و"كوهين" هو جاسوس إسرائيلي سابق في سورية، وكان لهذه الإشاعات أشد الأثر
على والدته التي بقيت حتى وفاتها غير مقتنعة أن ابنها "جول" قد استشهد
وكانت كل يوم أحد تخرج ثيابه وتقوم بتشميسها على أمل أن ابنها سيعود، كذلك
أخته التي كانت مخطوبة في تلك الفترة لكنها كانت تقول لن أتزوج حتى يعود
أخي مما سبب لها مشاكل مع خطيبها أدت إلى فسخ الخطوبة وبقيت غير متزوجة حتى
وفاتها».
* من خلال حديثك مع من عاصروا الشهيد "جول" هل يمكنك أن تعطنا وصفاً لطباعه؟
** كان"جول" وفي كل صيف يأتي إلى القرية واستمر بالقدوم إلى"المشتاية" حتى
نال الشهادة الثانوية، وكان أهلي يقولون لي أن "جول" كان يحب الأولاد
كثيراً فعندما كان يأتي إلى بيتنا الذي هو بيت العائلة وكان يجدنا /12/ ولد
كان يقول لأبي (ياعمي جيب ولاد ولا تهكل هم أنا بربيلك اياهن)، وكان يتسم
بالشقاوة فعندما كان يأتي إلى القرية كان يجتمع برفاقه ويوزع عليهم العصي
ويلعبون لعبة الحرب في البساتين وينابيع القرية، إضافةً لحماسه وجرأته فقد
كان يحدث الكبير والصغير.
استشهد"جول" رحمه الله مانحاً وسام العزة والفخر لكل مواطن سوري ومصري وعربي وهذا
الأمر لمسته أنا شخصياً من خلال وجودي أكثر من مرة ضمن بعثة في"مصر".
وفي ذات يوم كنا في زيارة إلى قصر "محمد علي باشا" وكان هناك مجموعة من
الطلاب المصرين يزورون القصر مع معلمهم وعندما علموا أننا سوريين اجتمعوا
حولنا وهم يقولون لنا (أهلاً بأخوتنا السوريين أهلا بأخوتنا بالحرب والسلم
أهلاً بتاع أكتوبر أهلاً بتاع جول جمال) وطلب أحد التلاميذ من زميلي أن
يعطيه ذكرى من سورية فأخرجت من محفظتي/5/ليرات ورق وكتب زميلي عليها اسمه
واسمي وعندما أخذها وقرأ اسمي (قال: إيه "جول جمال" دا بطل) فأعلمه زميلي
أني ابن عمه آنذاك أمسك بفخذي وبدأ بتقبيلي وأحاط بي الأولاد وراحوا
يقبلوني، الحقيقة شعرت بأن شعر جسدي يقف من شدة التأثر، أنه أمر يبعث على
العزة والفخار أن تكون معروفاً في بلد لاتعرف فيه أحد».
مضيفاً: «في حرب العراق وصل إلى الشهيد "جول جمال" بعد هذه السنين الطويلة
|
صورة جداري للشهيد معلق في بيت العائلة |
من استشهاده وسام الفاتح من أيلول ووشاح مقدم من
الرئيس الليبي "معمر القذافي" إضافةً إلى حقوق الوسام التي تقول يحق
لأقاربه حتى الدرجة الرابعة أن يتعلموا في أي جامعة من العالم على حساب
الحكومة الليبية، ونشرت إحدى الصحف الفرنسية أنه وأثناء توديع وزير الدفاع
الفرنسي لجنوده المتوجهين إلى "العراق" على الشاطئ الفرنسي قال لهم لا
تعتقدوا أنكم ذاهبون في نزهه ينبغي عليكم الحذر أنظروا (وهو يشير إلى جان
بار التي أصبحت عبرة بعد سحبها من البحر ووضعها على الشاطئ الفرنسي) ماذا
فعلوا بكم في حرب السويس».
الجدير ذكره أن الشهيد"جول جمال" نال العديد من أوسمة الشرف منها:
_براءة الوسام العسكري الأكبر من الحكومة
_ براءة النجمة العسكرية من جمال عبد الناصر
_براءة الوشاح الأكبر من بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
_وسام القديسين بطرس وبولس من درجة الوشاح الأكبر
أكرمته قريته "المشتاية" بصنع تمثال نصفي للشهيد .....