لم يدهشني تصريح الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي ذهب فيه الى التقليل من دور القوات الجوية المصرية في حرب أكتوبر 1973. فالمرء يقرأ احياناً وقائع حول هذه الحرب باقلام غربية، وبالطبع اسرائيلية، تقدم حساباً يختلف تماماً عما اتفق عليه العالم حول مجرياتها ونهايتها، بل قد يسمع المرء في قاعة درس في مؤسسة تعليمية غربية محترمة عن انتصار اسرائيل عام 1973 وهزيمة الجيوش العربية مجتمعة، امتداداً لسردية حرب الايام الستة، كأنه لم يحدث شيء ولم تحطم القوات المصرية خط بارليف ولم تستعد مصر سيناء حتى اليوم. وفي واقع الأمر ينتبه الاكاديميون، في معظم الاحوال، ومن بينهم بعض الاسرائيليين، لخطل تلك المغالطات وعدم جدواها.
وتكفي الاشارة هنا الى ان القاموس الموسوعي للصهيونية واسرائيل ذكر في موقعه على الانترنت 'ان تاريخ المعارك ووقائعها، خاصة في سيناء لا يزال تكتنفه السرية والتناقض، وهنالك العديد من الكتابات حول هذه الحرب قد تم تقييدها بيد ثقيلة الوقع، او تم منعها من النشر من قبل السلطات الاسرائيلية'. وبالطبع ليس المقصود من ذلك ادانة الاستاذ هيكل والحاق تصريحه بآلة الدعاية الصهيونية، وانما فقط القصد الاشارة الى ان التأريخ لمعارك 6 أكتوبر وبكل اللغات ينبغي الحذر في تناوله، فقد كتبت فيه واتنشر الكثير من انصاف الحقائق، بل والاكاذيب الكاملة التي تصب في خانة الاحتقار للانسان العربي والسعي الدؤوب لتجريده من منجزاته.
ومع ذلك، يظل تصريح هيكل غير مسبوق في زعمه ان دور القوات الجوية المصرية اقتصر على الطيران الى شرق القنال، في ما يشبه العرض العسكري لرفع الروح المعنوية للجنود اثناء العبور، وان دورها اقتصر على ضرب هدفين عسكريين هامشيين في سيناء. ولكن بالحق، كيف رأى المختصون في علم الحرب الجوية اداء سلاح الجو المصري؟ يقول روبرت هوتز في مجلة مختصة بالملاحة الجوية وتكنولوجيا الفضاء ان سلاح الجو المصري قام بعملية هجمومية واسعة واحدة في تشرين الاول/أكتوبر 1973، وقاتل بعدها في سلسلة من العمليات الدفاعية لصد الهجوم المضاد لسلاح الجو الاسرائيلي'. في توصيفه للاهداف العسكرية التي ضربتها القوات الجوية المصرية، عدد هوتز ما سماه بحقول جوية، مطارات او مدرجات انطلاق، تضمنت العريش وراس نصراني وبير تمادا. واضاف الى ذلك مراكز قيادة ومواقع مدفعية طويلة المدى، وبطاريات صواريخ هوك ومراكز تشويش، ومعسكرات ومحطات امداد. تثبت تحريات هوتز ان القوات الجوية المصرية تملكت معلومات دقيقة عن هذه المواقع وتدربت على ضربها من خلال نماذج بالحجم الطبيعي نصبت في الصحراء الليبية. اما عن عدد الطائرات المصرية التي شاركت في الضربة الجوية الرئيسية فقد بلغ 220 طائرة.
يتمثل احد الدروس الذي يعتقد هوتز ان القوات المصرية قد تعلمتها من حرب الايام الستة في تطوير متفجرات لها القدرة على الاختراق العميق لمدرجات الطائرات، تسمى (غامس الخرصانة). كما استعمل الطيران المصري قنابل مؤجلة الانفجار حتى يعطل عمل الاسرائيليين في صيانة المدرجات المخربة، مما ادى لتعطيل حركة المطارات الاسرائيلية في سيناء لمدة 48 ساعة. يورد هوتز اعتقاد المصريين، من دون ان ينازعه، بانهم خلال الطلعات الجوية الاولى تمكنوا من تحكيم مركز القيادة الاسرائيلي في سيناء بدليل تحول قيادة عملياتهم الى العريش، اضف الى ذلك مقتل القائد الاسرائيلي ميجور جنرال ابرهام مندلر اثناء الغارة.
وحتى نحمل دراسة روبرت هوتز محمل الجد، فقد يتهم هو الآخر بصداقة العرب، لابد من مقارنتها بمصادر اسرائيلية لنرى الحد المتفق عليه من المعلومات حول اداء القوات الجوية المصرية. يتفق القاموس الموسوعي للصهيونية واسرائيل مع هوتز في ان الطيران المصري هاجم محطات رادار ومعسكرات وتشكيلات عسكرية واهداف في عمق سيناء، ويورد رقماً قريباً مما اورده هوتز حول عدد الطائرات المصرية المشاركة، حيث اورد القاموس ان عددها 200 مقاتلة.
ويقول القاموس ان سلاح الجو المصري، مع تحقيقه لاهداف الهجوم الجوي الرئيسي خسر 35 مقاتلة في مواجهات في الجو وبنيران ارضية. ويتفق القاموس مع ما اورده هوتز في ان عمليات سلاح الجو الاسرائيلي تعطلت طوال يومي 6 و7 تشرين الاول/اكتوبر لكن يعزى ذلك للانشغال بالجبهة السورية، على خلاف ما اورده هوتز من ضرب مركز القيادة واستهلاك الوقت في تحويله الى العريش.
وفي نقده لاداء سلاح الجو الاسرائيلي يورد القاموس انه لم يتم استدعاء اطقم صيانة كافية لفك اسر المقاتلات الاسرائيلية التي تعطلت بسبب تخريب المدرجات، مما يدل على ان الاضرار التي الحقها الطيران المصري كانت بالغة التأثير. ركز القاموس على نجاحات انظمة الدفاع الجوي المصرية المتمثلة في شبكات صواريخ سام 6 وسام 3 واثبت ان خسارة سلاح الجو الاسرائيلي بلغت 105 مقاتلات وخمس طائرات هيلكوبتر، اي ما يعادل ثلث قوتها الجوية.
وبصفة عامة اعترف القاموس الاسرائيلي بان خطة الهجوم المصرية اتسمت بالدقة والمنهجية المتناهية ونسب كل الاخطاء التي وقعت فيها القيادة المصرية في مجرى الحرب الى مفارقة الخطوط الاساسية لتلك الخطة.
على الرغم من ان هوتز في تحليله يؤكد قوة وحداثة سلاح الجو الاسرائيلي وتفوقه، الا انه يصر على ان القوات الجوية المصرية حرمت المقاتلات الاسرائيلية من حرية التحليق فوق القوات المصرية، تلك الحرية التي تعودت عليها، ويؤكد ان المقاتلات المصرية هاجمت قوات العدو البرية في فترات بالغة الحرج في حرب اكتوبر، واستطاعت ان تنسف قطعة معتبرة من هالة العظمة وعدم القابلية للهزيمة التي يدعيها سلاح الجو الاسرائيلي. ان تصفية الحسابات مع نظام انقضى يجب الا تشمل نكران منجزات الشعب المصري، خاصة مع اجواء تسعى لتكريس الهزيمة في نخاع الانسان العربي والتأكيد على التفوق الازلي لاسرائيل. ولعل الاستاذ هيكل يحتاج لقدر من التروي في اطلاق احكامه، خاصة عندما يتعلق الامر بذاكرة رويت بالدم والدموع