ما من يوم في تاريخ السودان مثل هذا اليوم.. اليوم الذي نرى فيه وطننا المحبوس في أسوار العلاقة المأزومة مع الجنوب، قد فك قيده ومضى لغاياته بعد طول انتظار ومكوث بين حوائط الوهم. هذا اليوم.. فيه يتصحح مسار الزمن وامتداداته، وتصحح الجغرافيا التي لم تكن صلدة ولن تكون صمدية أبداً أمام تحولات الواقع وصيرورة التاريخ.الأخطاء الكبيرة في حياة الشعوب مهما كانت، وإن طال بها الأمد وبُليت بها الدهور والعصور، فإنها لا بد في يوم من الأيام أن تنبلج فيها شمس الحقيقة ويبين الإعوجاج ويتم تقويمه، ويتضح الحق الناصع وتتوارى الأغلاط التاريخية عندما يصبح الزمن نفسه يمشي في الاتجاه الصحيح.اليوم.. لا بد لنا ونحن في مفصل ومفترق كبير في تاريخنا، أن نشعر بالفرح الغامر، أن بلادنا قد استعادت عافيتها وراجعت رزنامة تاريخها الحديث المليء بالقروح والدمامل والدماء.وتستعيد بلادنا اليوم نفسها وماضيها والمسلوب من حقها الأصيل في أن تكون ما تريد، فقد فرض عليها الاستعمار الإنجليزي وصلها مع الجنوب، لتكون رهينة الحرب وحبيسة الأزمات، ويكون الجنوب الشوكة المسمومة التي تطعن خاصرتها وتمنعها العيش بسلام.ومنذ مؤتمر جوبا عام 1947م، كان الجنوبيون أنفسهم، لا يرغبون في علاقة مع الشمال، لكن السلطات الاستعمارية يومئذٍ، هي التي قررت بالنيابة عنهم، وحجبت حقهم وجعلت الجنوب ملحقاً بالشمال يستنزف موارده وأرواح رجاله، ويتسبب في تخلفه عن ركب الأمم المتقدمة، فلولا تمردات الجنوب وحربه منذ 1955م، لكان السودان الشمالي الآن في مصاف دول كثيرة أقل منه مورداً وأفقر أرضاً وأوضع تطلعاً وأندر عزماً.ولم يكن الجنوب في يوم من الأيام، بنخبه السياسية وتنظيماته التي نشأت منذ عدة عقود إلى الحركة الشعبية، لم يكن في مزاجات الوحدة والاندماج الوطني، فقد ظلت نخبه وسياسيوه ومواطنوه، يعتبرون أنفسهم كياناً منفصلاً وحالة لن تتوافق وتترافق مع الشمال، وكلما اقتربوا منه جعلوا قضية الهوية والثقافة والدين أسباباً للفصام والخصام والانقسام، وحولوا قضية الجنوب من قضية تخلف تنموي سببه التعليم ونقص الخدمات وندرة الموارد وقلة الإيرادات، إلى قضية سياسية ومشروع مناهض للشمال وضد توجهات السودان وعقيدة أهله ومجال انتمائه.وتحولت قضية الجنوب، بعد قيام الحركة الشعبية، لقضية عنصرية بالإدعاء بأن الشمال العربي المسلم، استعمر الجنوب واستعبد واسترق الجنوبيين، وفرض عليهم ثقافته ودينه ولغته، وتحولت هذه القضية أيضاً لمشروع أمريكي تدعمه الدوائر الصهيونية بضرورة تغيير السودان نفسه وكشط العروبة والإسلام عن أرضه، وطرحت الحركة الشعبية مشروع السودان الجديد باعتباره منصةً لتغيير السودان على غرار ما حدث في الأندلس، كما كان يقول جون قرنق، ومكروا ومكر الله وخاب المسعى وطاش السهم.وكل ما صنعته الأيدي الاستعمارية وقوى الاستكبار العالمية والدوائر الاستخبارية، لمسخ الشمال عبر بوابة الجنوب وسمه الزعاف، لم ينجح وأخفق، لكنها جعلت من الجنوب كعب أخيل للسودان يمنع تقدمه ويحول بينه وبين آفاق واسعة تنتظره.وشاء الله أن تصبح قضية الجنوب في اتفاقية نيفاشا، مدخلاً لإعادة النظر في هذه العلاقة المأزومة والوحدة الكذوبة الكاذبة، وطرح في الاتفاقية ما من شأنه إتاحة الفرصة للاختيار بين الوحدة والانفصال، فبغض النظر عن موقف الجنوبيين، كنا نرى في هذه الصحيفة، أن الوحدة مع الجنوب هي مزيد من الحرب والموت والأشلاء والدماء، ولم تكن هناك وحدة أبداً، ولم يكن الجنوب في يوم من الأيام جزءاً عزيزاً من وطن متجانس متراض.
ويحق لنا ونحن لسنا عبدةً للجغرافيا، نقدس التراب لكونه تراباً، أن نفرح ونحتفل بهذا اليوم التاريخي الذي نزيح فيه القيد عن أرجلنا ونرفع الصخور من صدورنا، ونستقبل شمس الغد الجديد واثقين من أن السودان سيخطو للأمام وسينهض، فقد تحررنا اليوم.. واليوم فقط.. ارمى قدام.