أنا أتحدّى نفسي، وأتحداك، وأتحدى البعد الرابع في المستوى، أنّه اذا ما
توفرت لحظة صفاء واحدة، ملأتها بالاستماع إلى نشيد اتحاد الطلاب السورييين
هؤلاء في كندا، تلك البلاد اللاعربية المليئة بالثلج، أتحدى أن يغيب الدمع،
وأتحدّى أن لا تملك الأذنان شيفرة البكاء، البكاء المرير الذي لا تنظيم
له، ولا خلفيّة سياسية، بكاء يماثل تمامًا بكاء عراقيٍّ على حضارته، أو
فلسطينيٍّ على وطنه، أو صوماليٍّ على قتله ابن عمّه. نعم، بكل أرشيفيّة
وغبار وتخلّف ورجعية، بلاد العرب أوطاني، ومهما تفسّخت تلك البلاد، ومهما
انبثق من أرحامها من أجنّة مشوهة، تظلُّ أوطاني، لأنّ الشمس لا تحجب
بغربال، واللغة العربية يفهمها الجميع. النقطة المحورية التي أريد الحديث
عنها لا أريدها أن تصير اتجاهًا معاكسًا، وأعوذ بالله العليّ القدير من
أصير فيصل القاسم أنفخ في الشرار لاشعال النار، أنا أريد الحديث بهدوء، عن
العاصفة، عن عدّة أحداث جرت ولا زلت أذكرها، اتخذت مكانًا وزمنًا قبل ستّة
أشهر، وشهرين، ويومين، لكنّها لا تزال موجودة وكم تثبت أنّ التأثر بالأغنية
لا يتعدى كونه عاطفة في واقعنا الحالي، العاطفة التي لا يكتبها الحكوميون
في جوازات السفر ولا شهادات الميلاد.
في واحدة من أوائل المرات التي نزلت فيها الى القاهرة، سرقني شارع محمّد
علي، سرقتني أضواؤه الصفراء، فاضطررت للعودة مستخدمًا سيّارة أجرة، دافعًا
خمسةً وثلاثين جنيهًا. السّائق كان بلحية كثيفة جدّا، وما لبث إلا وأن
سألني من أين فقلت له فلسطيني من غزّة، فانفجر. أنا اخوان، والمتطوعون
لولاهم لضاعت غزة والضفة، وكيف أنتَ وأمن الدولة ؟ وهل لديكم شهداء في
العائلة ؟ ويا حظكم ويا بختكم، وأنا أستمع إليه وأهزّ برأسي، على الأقل
ثمّة من يهتم لما يجري على بعد 6 ساعات فقط من اكبر عواصم العرب، وثمّة من
يقرأ التاريخ ويعرف عن متطوعي الاخوان المسلمين الذين اطلقتهم حكومة مصر من
السجن إلى فلسطين مباشرة، ولكن يا خيبتي التكعيبيّة حين سألني متهكمًا :
هم يملكون طائرات ، كيف تستطيعون صدّهم بمدافعكم ؟ هل تكفي الدبابات لديكم
لتغلق الحدود ؟، هذا المسلم الاسلاميّ الملتحي، لا يعلم أننا في غزة لا
زلنا في عصر الكلاشنكوف، لا يعرف كيف تغلق الحدود بالدعوات التي تصعد إلى
السماء وتنزل كاتيوشا!
طفل آخر سالته عن عاصمة فلسطين فقال غزّة، وسائقٌ – حشّاش – آخر سألني عن
الآلية التي يتبعها اليهود في تفتيش البيوت في غزة، “هم في مراكز الشرطة
أليس كذلك ؟ “، شابة سعودية لم تكتشف أن هنالك عشرات آلاف الأسرى
الفلسطينيين إلا بعد أسر الجندي شاليط، ولو كنت ضاربًا في التفاؤل لقلت أن
الأحداث الآنفة في أحسن الأحوال يمكن تعميمها على ملايين، مصريين وعراقيين
وصوماليين وسودانيين وجزائريين وخليجيين، لا بل ويمكن تعميمها على عديد لا
بأس به من الفلسطينيين المغتربين، جهل فاضح بقضية العرب “المركزيّة”، جهل
كان الواحد ليبلعه قبل ستة عقود، ولكن كيف نبلعه في زمن تنقل فيه الجزيرة
الخبر قبل وقوعه ؟ كيف نبلعه وقد وصل موتنا حدّ أن تعرف موزة شيخة قطر بشأن
مدرسة الفاخورة التي تجاور بيتي المقصوف، وتطلق باسمها قناةً فضائيّة ؟
الذنب لا حصر له، نتشاركه جميعًا، يتشاركه مواليد العرب في أيامهم الأولى،
بكل شمولية أقول أنه لا يوجد قلب عربي ينبض ليس مسؤولاً عن قلب فلسطين الذي
يرزح تحت الانعاش.
الفلسطينيون محاصرون، دعنا من غزة والضفة قليلاً، أنا أتحدث عن
الفلسطينيين، الفلسطينيون محاصرون، 95% من سكان قطاع غزة يولودون ويعيشون
ويموتون دون أن يروا عربيًا واحدًا، دون أن يعلموا أن في القاهرة ألف مئذنة
وألف بار، دون أن يعلموا أن “إسرائيل” لا تتعدى مساحةً نصف محافظة في
الجزائر، الفلسطينييون محرومون من أن يدركوا تمام الادراك عن أيّ كيان ضخم
وممتد ومليئ بالطاقات نتحدث حين نقول الأمة العربية التي نبرق لها بالتهنئة
في كلّ عيد. المطلوب اذًا ثنائيّ الاتجاه، على العرب أن يعرفوا قضيتهم،
وعلينا أن نعرف عربنا. المطلوب الأول بيد العرب وقدرتنا على ايصال الفكرة،
والثاني تمنعه المخابرات، تارةً بحجة منع التطبيع برفض دخول جواز “أوسلو”
إلى قطر عربيٍّ ما، وتارةً بحجة منع هروب الفلسطينيين وتعزيز صمودهم. يقول
إميل حبيبي : الذي يريد أن يطبع يستطيع أن يطبع ولو كان في آخر الدنيا،
والذي يرفض التطبيع يستطيع رفضه ولو كان في إسرائيل، وهنا يكفيني أن أضرب
مثالاً واحدًا، قائد معركة جنين، أبو جندل، كان ضابط ارتباط عسكري، يتشارك
الدورية مع حرس الحدود الاسرائيلي.
يقول ناصر اللحّام في مقابلة له مع ONtv : المطلوب من العرب بالدرجة الأولى
هو الدعم الثقافي، أنا أريد أخًا، لا أريد حسابًا بنكيًّا.