إسرائيل في سنّ الستين: ميتافيزيقا الحلم أم شرنقة الكابوس؟
بالأمس بلغت الدولة العبرية سنّ الستين، وتقاطر أصدقاؤها للاحتفاء بها، ولاستشراف مستقبل أفضل لهذه الواحة المنفردة وسط صحراء قاحلة ، كما كانت أساطير التأسيس الأولي تقول، وكما أرادهم مضيفهم الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس أن يفعلوا.
هنالك الرئيس الأمريكي جورج بوش، وآخر رؤساء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، والرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافيل، ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، والرئيس الأندونيسي السابق وحيد عبد الرحمن؛ إلي ملياردير الإعلام والصحافة روبرت مردوخ، والمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي دومنيك ستروس ـ كان، والوسيط الأمريكي الشهير دنيس روس؛ فضلاً عن السينمائي ستيفن سبيلبرغ، وسيرغي برين مؤسس محرّك البحث Google، وسوزان ديكر رئيسة Yahoo، ومارك زوكرمان مؤسس موقع Facebook؛ وبالطبع: إيلي فيزل، نوبل السلام وحامل أختام ذاكرة الهولوكوست...
ولم يكن مدهشاً، بل لعلّه كان الخطاب الأجدر بالطفو علي سطح كلّ تلك اللغات الخشبية، أن يعود بيريس إلي التوراة إجمالاً، وبصفة خاصة إلي مآثر أنبياء إسرائيل كما وصفهم، لكي يستشرف مستقبل دولة إسرائيل التي تخطو نحو العقد السابع: علي امتداد آلاف السنين كانت أصداء عظات أنبياء إسرائيل تتردّد في قلوبنا. ولقد رسم الانبياء مستقبلاً للسلام الإنساني والعدل الاجتماعي. ومن خلال إيمانهم الغامر شجّعونا علي اجتراح غدٍ أفضل. الأنبياء زرعوا فينا، وفي العالم أجمع، إلهاماً عظيماً علّمنا أن ننهض ضدّ الشرّ وأن نرفض السوء. كذلك منحوا الشعب اليهودي مزاجاً صبوراً، ورفضاً للاتكاء علي أكاليل الغار... .
غير أنّ أنبياء إسرائيليين من طراز آخر دخلوا التاريخ اليهودي الحديث، وقبل عقود سبقت إقامة دولة إسرائيل، من بوّابات فقهية يهودية متشددة ومتطرفة، كانت وما تزال تحظر علي أمثال بيريس الدخول إلي ملكوت العقيدة الصافية المطهرة. ففي العقود الأولي من القرن المنصرم، مع وصول الحاخام أفراهام إسحق كوك من ليتوانيا، كانت التيارات الدينية المتشددة تبدأ من تنظير احتقارها الشديد للعرب البدو محتلّي أرض الميعاد التي خصّ بها الربّ اسرائيل وحدها من دون الأمم. ولكنها كانت تنتقل، في المقام التالي مباشرة، إلي احتقار أولئك الصهاينة العلمانيين ، الذين يأكلون لحم الخنزير ويستبدلون التوراة برطانة عقائدية ليبرالية أو اشتراكية ليست ولن تكون أقلّ من هرطقة صريحة ضدّ التوراة وضدّ الرب.
وعلي يد الحاخام كوك، ومن بعده ابنه الحاخام تزفي يهودا، تمّ جسر الهوّة بين أنبياء الربّ وأنبياء الكيبوتزات، واتفق الجميع علي مبدأ إقامة دولة لليهود كـ حجر أساس لقيام عرش الربّ علي الأرض . ولكن النار بقيت تحت الهشيم، وفي محاضرة لاهبة عشية انتصار حزيران (يونيو) 1967 قال الحاخام الابن إنه لم يكن في أيّ يوم سعيداً بقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة وقامت بموجبه الدولة العبرية: أين الخليل التي تخصنا نحن؟ أين أريحا التي لنا؟ هل سننسي أريحا؟ وماذا عن الضفة الأخري من الأردن؟ إنها ملك إسرائيل في كل شبر منها، فمن يملك الحق في التنازل عن ملليمتر واحد منها؟ .
وفي الذكري الستين، كما في اليوبيل الفضّي قبل عقد من الآن، شدّد أبناء الحاخام كوك وأحفاده علي أنّ قداسة إسرائيل لا علاقة لها ببني البشر، وبالتالي لا صلة البتة تجمعها بالسياسات والحسابات والمعادلات والشرائع، محلية كانت أم دولية. قداسة أرض إسرائيل هي كيفية روحية وفيزيائية وضعها الربّ، وفرضها علي بني إسرائيل، علي أرض إسرائيل. ولقد قال الحاخام: الربّ هو الذي قرّر أننا الشعب المختار مرّة وإلي الأبد، وهذه حقيقة واقعة تخصّ الأرواح مثل الأبدان، وحقيقة واقعة تخصّ الأرض المقدسة التي اختارها الربّ لتكون صهيون إسرائيل. إسرائيل الكبري هي الأرض المقدسة شاملة تامة، وهي الشعب المختار شاملاً تامّاً .
غير بعيد عن أرض هذه اللغة الفضفاضة الميتافيزيقية النرجسية، الأثيرة عند بيريس كما عند أنصار الحاخام كوك، كان يهودي آخر هو المعلّق الإسرائيلي جدعون ليفي يري غير ما يراه بيريس، فكتب في صحيفة هآرتز ما يلي: ليس شرعياً أن تقطع الكهرباء عن 750 ألف آدميّ. وليس شرعياً أن تدفع 20 ألف آدميّ إلي ترك بيوتهم، وتحويل بلداتهم إلي مساكن أشباح (...) الدولة التي تمارس هذا لا يمكن، بعدئذ، تمييزها عن المنظمة الإرهابية . كذلك كانت لغة أخري، مختلفة تماماً، تلك التي انتهجها دافيد غروسمان، الروائي والكاتب الإسرائيلي الشهير الذي فقد ابنه في العدوان الإسرائيلي علي لبنان صيف 2006: لقد ضاعت غالبية القِيَم التي كانت تدفع الدولة للمسير إلي الأمام !
وكما كانت حاله في احتفالات الذكري الخمسين، اعتبر غروسمان أنه إنسان محظوظ إذْ يعيش في دولة اسمها إسرائيل: ليس لأنني أعتبرها الفردوس أو اليوتوبيا، بل لأن إسرائيل هي المكان الوحيد الذي يتيح لليهودي أن يقيم أقرب ما يكون إلي المكوّنات الحيوية لحياة جميع الأجيال اليهودية التي سبقته، في تاريخها وثقافتها وروحيتها . إسرائيل، أيضاً، هي المكان الذي يستطيع فيه اليهودي أن يتولّي القِيَم والمُثُل التي صنعتها ثقافته ، والمكان الذي يستطيع فيه اليهودي إشباع هذا الطموح باستخدام لغة تكوّنت فيها هويّته منذ سحيق الأزمنة، والتي تسجّل جميع شيفرات ماضيه، مجدّدة إياها يوماً بيوم . ولهذا، يذكّرنا غروسمان، لو كان إبراهيم الخليل حيّاً اليوم، في سنّ الـ 4000 سنة، وجلس إلي مائدة آل غروسمان، فسيكون في وسعه أن يتحدث باللغة العبرية ذاتها مع طفلة غروسمان البالغة من العمر... خمس سنوات! أليس هذا رائعاً؟
فإذا كان رائعاً، كما يهتف غروسمان، فما الذي يدفعه إلي كلّ هذا الحزن؟ ولماذا حسّ الرثاء الطاغي في هذه الأيام، السعيدة الظافرة الهانئة المرفهة، من عمر إسرائيل؟ لماذا يقطر قلبه مرارة، هو المحظوظ بالعيش في هذه الواحة الوارفة الظلال، حيث النجاحات الباهرة لا حصر لها حسب غروسمان نفسه: استيعاب وتأهيل موجات هائلة من المهاجرين، الزراعة التي جعلت الصحراء تخضر ، الإنجازات العلمية والتكنولوجية، بناء دولة ديمقراطية علي الرغم من أنّ غالبية مواطنيها وفدوا من بلدان لم تشهد أية تقليدات ديمقراطية ؟ لماذا لا يبتهج غروسمان، ولماذا لا يشدّه شعار الذكري الذي يقول: معاً في الفخار، معاً في الأمل ، بل يبدو في المزاج المعاكس تماماً، أقرب إلي اليأس والانكسار؟ لماذا يذهب يهودي مثله، روائي ومؤرّخ وصحافي، إلي استذكار الكوابيس بدل الأحلام الوردية؟ وأيّ راهنٍ قاتم هذا الذي يخيّم علي وجدان غروسمان ويدفعه إلي حدّ الحديث عن خفّة الموت غير المحتملة بوصفها المفهوم الذي يكتنف معني كلمة حياة في إسرائيل ابنة الستين سنة؟
ولعلّ ذروة الدراما في أنشودة غروسمان الحزينة هي تطوّعه لاختيار البرهة الوحيدة اللائقة، في نظره، لاحتفالات إسرائيل: لو أسندوا إليّ المهمّة الشاقة في اختيار صورة وحيدة لهذا الاحتفال، صورة تلخّص قسمات بلادي، فإنني سأختار برهة ليس في وسع أيّ إسرائيلي أن ينساها: الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 . تلك، بالطبع، كانت برهة وقوف رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين أمام الآلاف، ومشاركته في إنشاد نشيد السلام، ثم سقوطه بعدها مباشرة صريع رصاصات أطلقها يهودي مؤمن بأنه إنما ينفّذ حكم الربّ في يهودي خائن. وعند غروسمان، يشكّل رابين صورة إسرائيل بأسرها ، يختصرها ويوسّعها ويختصرها من جديد. إنه الرجل الذي شهدت أطوار حياته مختلف المنعطفات الفاصلة في حياة الدولة، من مدرسة كادوري الخرافية (حيث تمّ تأهيل الأفواج الأولي من النُخَب الإسرائيلية)؛ إلي قيادة البالماخ و الهاغاناه ، والوحدات العسكرية التي خاضت حرب الاستقلال ؛ إلي عمليات فكّ الحصار عن القدس؛ إلي حرب 1967 وإعادة حائط المبكي إلي وجدان يهودي كابوسي باحث أبداً عن متكأ للنحيب؛ إلي عملية عنتيبي، وتأكيد سلطة الفتي داوود علي العملاق جالوت مرّة أخري وفي أصقاع قصيّة؛ وصولاً إلي اتفاقية أوسلو والسلام العربي ـ الإسرائيلي.
بيد أنّ رابين كان، أيضاً، وجه اليهودي الصبّاري الأسطوري، الذي حاولنا من خلاله فكّ طلاسم أمر ليس لنا فيه خبرة تاريخية: كيف سيتمكن هذا الصبّاري من مواجهة سنّ الرشد، ثمّ الشيخوخة؟ كيف للمثالي وللإعجازي أن يندمجا رويداً رويداً في الحياة اليومية، وفي الواقع، وفي الزمن؟ ... أسئلة غروسمان تكفّل بالإجابة عنها إيغال أمير، قاتل رابين، علي نحو جعل تلك البرهة الفريدة مؤشراً قاطعاً علي قوّة إسرائيل واليهودية منذ سحيق الأزمنة، وعلي ضعفها؛ علي حيوية النهوض فوق سقف الكوابيس، والشفاء مرّة ثانية .
آنذاك، كان رابين قد وضع جانباً عقيدة الهراوة وتكسير عظام الفلسطينيين، لا بسبب صحوة ضمير أو ارتداد أخلاقي عن تقنيات الردع والتأديب، بل بسبب من إلقاء نظرة تذهب خطوتين إلي الأمام علي حدّ تعبير غروسمان. هي نظرة براغماتية متقدمة، رأت أن إسرائيل علي درجة من القوّة والمنعة تكفيها لمصافحة الإرهابيين ، وأن الاستمرار في الاحتلال والحرب المفتوحة غير المعلنة سوف يعني استمرار انكفاء إسرائيل علي ذاتها وتفاقم أمراضها التاريخية والوجدانية المزمنة.
والحال أنّ ما عجز رابين عن رؤيته، مثله في ذلك مثل جميع أنبياء إسرائيل في كامل عقودها الستة، هو الثقة الضعيفة، أو الباهتة أو شبه المعدومة، التي اعتاد اليهودي علي محضها للنوع البشري إجمالاً، وللجيران العرب بصفة خاصة. وغابت عنه، وعنهم، جذور الكابوس التي تضرب عميقاً، وتكبّل بقدر ما تغوي، وتنشر الرعب مثلما تبعث علي الخدر اللذيذ. آنذاك كتب غروسمان: حاول رابين وبيريس أن يقترحا علينا درب حياة جديداً، ومفهوماً جديداً عن العالم. وأَمِلا أنهما، في حال النجاح، سوف يخلّصان مواطنيهما من بضعة فخاخ تراجيدية تستولي علي تاريخهم . فعمّ أسفرت المحاولة؟
اليد اليهودية تعمدت بدم الخائن، واليهودي بالمصادفة إسحق رابين، بحسب توصيفه عند غلاة اليهود. وضحك قاتله، أكثر فأكثر، حين رفض الناخب الإسرائيلي الانصياع إلي الشعار الذي رفعه حزب العمل أثناء الحملة الانتخابية: لا تمنحوا إيغال أمير سبباً للضحك . ضحك الرجل، بل كان الوحيد الذي صوّت مرتين كما قال الروائي الإسرائيلي عاموس عوز: مرّة باستخدام الرصاصة، ومرّة باستخدام ورقة الاقتراع. (من سخريات الأقدار أنّ العبارة البليغة Ballot Not Bullet، ورقة الاقتراع لا الرصاصة، كانت شعار بنيامين نتنياهو عشية اغتيال رابين).
وليس ما يمارسه بيريس اليوم من مبادلة بين ميتافيزيقية إسرائيل الأنبياء، وتكنولوجيا إسرائيل الـ Google والـ Yahoo والـ Facebook، مختلطة بابتذال أخلاقي ـ فكري يمارسه فيلسوف من الدرجة العاشرة مثل الفرنسي ـ اليهودي برنار هنري ـ ليفي أو حقوقي متحزّب ليكودي مثل الأمريكي ـ اليهودي ألان درشوفيتز، إلا مراوحة في الشرنقة الرهابية العصابية الهستيرية ذاتها: حيث تتكثف الهواجس الوجودية النابعة من الذات قبل تلك التي يحرّض عليها الآخر الفلسطيني، وتتكشف عن مزيد من انحطاط ذلك الحلم الصهيوني بتأسيس دولة عصرية علمانية مدنية ديمقراطية، وعن صعود أنبياء في إهاب جنرالات برابرة، ولصوص في ثياب ساسة، وضمائر نادرة خجلي يسكنها هاجس المرثاة!