التوتر المصري- الإسرائيلي... إلى أين؟
تبدو الأجواء بين مصر وإسرائيل هذه الأيام ملبدة بالغيوم. قد لا تكون هذه الغيوم جديدة في حد ذاتها. غير أن كثافتها تبدو غير مسبوقة منذ توقيع "معاهدة السلام" الأولى في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي عام 1979. ويظهر ذلك في توتر لا يتسم بالحدة حتى الآن, ولكنه يمثل مستوى أعلى على صعيد التفاعلات الثنائية مقارنة بما كانت عليه الحال من قبل. والجديد الذي تتشكل معالمه الأولية الآن هو انتقال العلاقات المصرية- الإسرائيلية من الفتور إلى التوتر. فما كاد العدوان على لبنان يتوقف حتى بدأ الإعداد لعدوان جديد على قطاع غزة. ولما كان المنفذ الذي ترى إسرائيل أنه الأهم لهذا التهريب هو الحدود بين مصر والقطاع, فلا بد أن تمتد العملية العسكرية إلى هذه الحدود في منطقة محور صلاح الدين.
ويعني ذلك أن هذه العملية تنطوي على احتمال حدوث انتهاك للحدود المصرية, فضلاً عما تمثله من خرق لاتفاق أمني مصري- إسرائيلي تم التفاهم عليه في يونيو 2005 ضمن ترتيبات الانسحاب الإسرائيلي من القطاع. وهذا احتمال يصعب استبعاده؛ ابتداءً لأن عمق هذا المحور شديد الضيق لا يتجاوز مائتي متر, بينما يصل طوله 12 كيلو متراً من شاطz البحر حتى منطقة (كرم أبو سالم) عند ملتقى الحدود الدولية المصرية- الفلسطينية- الإسرائيلية. ولذلك فالمحور يقع بكامله تقريباً عند الحدود المصرية- الفلسطينية، ومن ثم كان اتفاق يونيو 2005 الأمني يقضي بأن تتولى قوة محدودة من حرس الحدود المصري (750 جنديا) تأمينه ومنع عمليات التهريب والتسلل عبره، بمساعدة قوتين بحرية وجوية صغيرتين. وعندما تعد إسرائيل لعملية عسكرية لمنع تهريب السلاح, فهذا يعني اتهاماً ضمنياً لمصر بأنها لم تف بالتزامها في الاتفاق الأمني، ودون تقديم دليل على ذلك. وهذا مصدر أولي للتوتر. وحين تكون هذه العملية كبيرة، على نحو ما يتواتر في تصريحات رسمية إسرائيلية, فلا بد أن يزداد التوتر، خاصة بعد أن نشرت صحيفة "معاريف" (27 أكتوبر الماضي), أن العملية ستشمل قصف الأنفاق بقنابل ذكية موجهة. الصحيفة الإسرائيلية كانت حريصة في تقريرها هذا على عدم إثارة مصر، ولذلك قالت إنه سيتم إبلاغ القاهرة بالعملية قبل تنفيذها, والتأكد من عدم سقوط أية قنبلة داخل الجانب المصري من الحدود. لكن هذا لا يكفي لخفض التوتر الذي ازداد- وإن لم تشتد حدته- بعد نشر التقرير، رغم عدم وجود تأكيد له من أي مصدر إسرائيلي رسمي.
وفي ظل هذا التوتر, راجت إشاعات عن قيام مصر بنشر قوات إضافية بين ألفين وخمسة آلاف جندي, قبل أن يعلن الرئيس حسنى مبارك في 30 أكتوبر عدم صحة ذلك. وكان الحديث عن نشر قوات مصرية إضافية غير منطقي أصلاً لسببين: أولهما أن عدد القوات المصرية والإسرائيلية في (المنطقة ج)– التي يعتبر محور صلاح الدين جزءا منها– محدد في إطار "معاهدة السلام", ولا يمكن زيادته إلا باتفاق بين الطرفين. وثانيهما أن زيادة عدد القوات فوق الأرض لا جدوى منه في مثل هذه الحالة لأن الأنفاق تُحفر تحت الأرض.
ومع ذلك اجتهد كثير من المراقبين في إضفاء معنى على ما تردد عن نشر قوات مصرية إضافية.
وقد سعت هذه الاجتهادات إلى تفسير تحرك عسكري مصري لم يحدث أصلاً, تعبيراً عن ازدياد الشعور بالتوتر بين مصر وإسرائيل، إلى حد التساؤل عن أمكان انهيار "معاهدة السلام". فهذه هي المرة الأولى التي يلوح فيها شبح مواجهة عسكرية على الحدود في سياق تطور محدد على الأرض, وليس ضمن افتراضات نظرية أو احتمالات مستقبلية بعيدة.
غير أن التساؤل عن إمكان أن تؤدى عملية إسرائيلية لتدمير الأنفاق في منطقة محور صلاح الدين إلى مواجهة عسكرية مع مصر، يثير بدوره السؤال عما إذا كانت مثل تلك العملية تمثل في حد ذاتها تهديداً خطيراً لمصر وسيادتها, أم أنها تبدو كذلك بسبب الاحتقان المتزايد في المنطقة بدءا من المشرق العربي وحتى إيران.
مازال من المستبعد أن يصل التوتر بين مصر وإسرائيل إلى مستوى يؤدي إلى نشوب حرب جديدة, وليس فقط انهيار السلام البارد, إلا إذا كانت هذه الأزمة خارقة للعادة. ولا يرجع ذلك إلى أن الطرفين شديدا الولع بالسلام الفاتر الذي يربطهما, وإنما إلى عدم جدوى خيار الحرب بالنسبة لكل منهما.
صحيح أن رعونة السياسة الأميركية في الوقت الراهن تدفع إلى عدم استبعاد احتمال أن ترتكب أخطاء تجعل انهيار السلام بين مصر وإسرائيل ممكناً. ومع ذلك فالإدارة الراهنة التي تعاني سياستها من فشل ذريع في الشرق الأوسط، قد تكون حريصة في الفترة الباقية لها على عدم تكبد خسائر أخرى, ناهيك عن أن تكون الخسارة بحجم حرب مصرية- إسرائيلية. ولذلك فليس وارداً, على الأرجح, أن تؤدي أزمة تهريب أسلحة عبر الأنفاق إلى قطاع غزة إلى تصعيد بين مصر وإسرائيل يصل إلى حد المواجهة العسكرية, حتى بافتراض أن كل ما يتردد في إسرائيل حول هذه المسألة صحيح. فلا ننسى أن فشل إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها في الحرب على لبنان, وخروجها في حال أقرب إلى الهزيمة, خلق توتراً عصبياً شديداً أدى إلى مبالغة في الخوف من أن يتكرر في قطاع غزة الفشل الذي منيت به في لبنان إذا نجحت حركتا "حماس" و"الجهاد" في الحصول على أسلحة مماثلة لما يمتلكه "حزب الله".
ولذلك يتعرض رئيس الوزراء أيهود أولمرت إلى ضغوط متزايدة للقيام بعملية عسكرية واسعة في قطاع غزة. وعندما حضر اجتماع لجنة الخارجية والأمن في الكنيست يوم 30 أكتوبر الماضي, تلقى انتقادات شديدة من نواب حزبي "ليكود" و"مفدال" انصب بعضها على ما اعتبره الناقدون عجزاً عن وقف تهريب السلاح. فهناك تهويل شديد في هذا الموضوع يظهر في كلام مرسل عن تهريب الفلسطينيين أطناناً من الأسلحة، تشمل صواريخ مضادة للدبابات والطائرات. ويؤدي الإكثار من مثل هذا الكلام إلى ازدياد الإحساس بالتوتر الذي يوفر سببا إضافيا له بعد ضم حزب "إسرائيل بيتنا" المتطرف إلى الحكومة. فرئيس هذا الحزب، افيدور ليبرمان، هو الذي هدد قبل نحو أربع سنوات بضرب السد العالي في جنوب مصر. ولذلك ينظر المصريون إليه كداعية حرب, الأمر الذي يزيد الشعور بالتوتر.
غير أن الجزء الأكبر من هذا التوتر يرتبط بالوضع الإقليمي أكثر منه بالعلاقات الثنائية, بما في ذلك ما ترتب على ضم ليبرمان وحزبه إلى الحكومة التي أضعفها الفشل في لبنان فسعى رئيسها إلى تقويتها بأية وسيلة. وإذا كان الأمر كذلك, ربما يكون السؤال عن إمكان انهيار السلام الفاتر بين مصر وإسرائيل أكثر منطقية في حال حدوث مزيد من التدهور في المنطقة التي باتت ملفاتها الساخنة مترابطة بل متداخلة على نحو لا سابق له بدءا من فلسطين ولبنان وسوريا ووصولاً إلى إيران والعراق. فقد لا يصمد هذا السلام, الذي تهزه مشكلة أنفاق تحت الأرض, أمام مزيد من التدهور يصل إلى حد إشعال حرب جديدة في أي من النقاط الساخنة, وخصوصاً إذا أدى التداخل بينها إلى حرب واسعة على مسرح عمليات يشمل منطقتي الشرق العربي والخليج.
فاحتمال انهيار السلام المصري- الإسرائيلي أكبر في هذه الحالة منه في أزمة ثنائية, ولكن ليس كبيراً في ذاته. فهو ليس من بين الاحتمالات التي تبدو قريبة. فمازال احتمالاً بعيداً, ولكنه قد لا يكون مستبعداً في حال نشوب حرب إقليمية تخرج عن نطاق السيطرة, وتشعل المنطقة بأكملها.