الحلقة الأولي المشير محمد حسين طنطاوي
>كانت كلماته واضحة، ومحددة، تحدث المشير حسين طنطاوي وسط جمع من قادة وضباط الجيش الثالث الميداني، قالها بصراحة ووضوح: 'إن القوات المسلحة هي التي حمت الثورة ولولا الجيش ما كان قد كتب لها النجاح، إنها ثورة شعب ونحن جزء من هذا الشعب'.
دوّي التصفيق عاليًا في القاعة الرئيسية التي عقد بها اللقاء في نهاية شهر يوليو الماضي، كانت السعادة تبدو علي وجوه الحاضرين، بينما كان الفريق سامي عنان رئيس الأركان يتمني لو باح المشير بأسرار هذه اللحظات الصعبة التي واجهها قادة القوات المسلحة بكل شجاعة وإخلاص..
في الخامسة من مساء الجمعة 28 يناير، كانت أرتال من دبابات القوات المسلحة قد بدأت الزحف نحو وسط العاصمة المصرية بعد انهيار جهاز الشرطة وفرار ضباطه وأفراده من مسرح الأحداث.
كان رئيس الجمهورية آنذاك بوصفه الحاكم العسكري قد أصدر بعدها بقليل قرارًا يقضي بفرض حظر التجول من السادسة مساء وحتي السابعة صباحًا، كانت الأجواء ملبدة بالغيوم، سحب الدخان تغطي الميادين الرئيسية في العديد من المحافظات، وكان ميدان التحرير قد شهد منذ قليل معركة حامية الوطيس بين قوات الشرطة والمتظاهرين، سقط خلالها المئات من الشهداء والجرحي.
> كان حبيب العادلي يجلس في مكتبه بوزارة الداخلية في هذا الوقت، لقد أجري اتصالاً منذ قليل برئيس الجمهورية، أبلغه خلاله بأن الوضع أصبح خارج السيطرة وأن قوات الأمن لم تعد قادرة علي التصدي للملايين التي زحفت إلي الشوارع والميادين المصرية.
كان الرئيس علي ثقة من أن المظاهرات لن تستمر طويلاً وأن الوزير يبالغ في الأمر ولذلك بادره بالقول: 'وماذا تريدني أن أفعل؟' فرد عليه وزير الداخلية 'خيارنا الوحيد هو في نزول الجيش'.
وافق مبارك علي الاقتراح بعد أن تردد في البداية، طلب من حبيب العادلي أن يتولي بنفسه إبلاغ المشير طنطاوي بالأمر ، أبدي وزير الداخلية دهشته، أدرك ساعتها أن الرئيس لا يقدر خطورة ما يجري، غير أنه أمسك بالهاتف وأبلغ المشير مضمون الرسالة، كان المشير في حيرة من الأمر، أجري اتصالاً بالرئيس، ثم أصدر أوامره علي الفور للواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية بنزول قوات الجيش إلي الشارع.
الفريق سامي عنان
كان الفريق سامي عنان رئيس الأركان قد غادر القاهرة في الرابع والعشرين من يناير في زيارة مهمة إلي الولايات المتحدة، تتعلق بسبل التعاون العسكري بين البلدين، وكان الفريق مسافرًا علي رأس وفد عسكري رفيع المستوي، وكان برنامج الزيارة حافلاً باللقاءات مع كبار المسئولين في البنتاجون..
تعطلت الطائرة التي كان يتوقع أن يسافر عليها الفريق عنان إلي الولايات المتحدة مباشرة، فاضطر إلي السفر إلي العاصمة الفرنسية باريس أولاً ومنها إلي واشنطن.
ومن أمريكا كان الفريق يتابع الأحداث عن كثب، ولم يكن هو أو غيره يدرك أن الأوضاع سوف تصل إلي هذا الحد من التدهور السريع، وبينما كان يتناول إفطاره مع اثنين من العسكريين الأمريكيين القدامي صباح الثامن والعشرين من يناير، تلقي اتصالاً هاتفيًا من المشير، يبلغه بضرورة قطع زيارته والعودة سريعًا إلي القاهرة.
وعلي الفور طلب الفريق من الملحق العسكري للسفارة المصرية بواشنطن إجراء الاتصالات اللازمة للحجز له علي طائر ة مصر للطيران المتجهة إلي القاهرة، وقبيل أن يغادر الفريق ليستقل الطائرة المصرية، حضر إليه رئيس القيادة المركزية الأمريكية بتكليف من الرئيس الأمريكي باراك أوباما في قاعدة 'أندروز' ليوجه إليه سؤالاً واحدًا ووحيدًا.. 'هل سيستخدم الجيش المصري القوة ضد المتظاهرين؟'، وكانت إجابة الفريق سامي عنان قاطعة 'الجيش لن يستخدم القوة أبدًا ضد الشعب، مهمتنا هي حماية المتظاهرين وليس الاعتداء عليهم'.
كان خبر الإعلان عن نزول الجيش قد أثار قلق الإدارة الأمريكية، وكانت المعلومات التي لدي واشنطن في هذا الوقت تشير إلي أن رئيس الجمهورية بوصفه القائد الأعلي للقوات المسلحة سوف يطلب من الجيش مواجهة المتظاهرين وفض الاعتصام بميدان التحرير عبر استخدام القوة.
وفي الطائرة المتجهة إلي القاهرة، تقدم مضيف الطائرة المصري الجنسية من الفريق سامي عنان، وقال له: 'سيادتك تتابع قطعًا ما يحدث في مصر'، فرد الفريق: نعم أتابع ما يجري. فقال المضيف: 'الآن وبعد أن نزل الجيش إلي الشارع، هل تسمح لي أن أوجه إلي سيادتك ثلاثة أسئلة؟'، تلقي الفريق الأمر برحابة صدر، وقال له تفضل:
> قال المضيف سؤالي الأول: هل سيضرب الجيش المتظاهرين؟!
ـ هنا رد الفريق: أبدًا: هذا لن يحدث إطلاقًًا.
> قال: ـ سؤالي الثاني: ماذا إذا أصدر رئيس الجمهورية أمراً للقوات المسلحة باستخدام العنف ضد المتظاهرين؟!
ـ رد الفريق عنان: لن ننفذ الأمر، القوات المسلحة هي جزء من الشعب ولا يمكن أن تقبل بذلك . مهمتنا هي حماية المتظاهرين والمنشآت العامة.
> وطرح المضيف سؤاله الثالث: وماذا إذا اعتدي المتظاهرون علي القوات التي نزلت إلي الشارع؟!
ـ أجاب الفريق: سوف نتمسك بضبط النفس وسوف نمد يدنا للمتظاهرين ولن نقف ضدهم أبدًا.
اللواء عمر سليمان
عندما هبطت طائرة مصر للطيران في مطار القاهرة، كان هناك وفد من المراسم العسكرية في انتظار الفريق سامي عنان صباح السبت التاسع والعشرين من يناير، اتجه الفريق علي الفور إلي مقر وزارة الدفاع، حيث كان المشير حسين طنطاوي يقيم وأعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة إقامة دائمة لمتابعة تطورات الأحداث.
كان الرئيس مبارك قد التقي المشير طنطاوي في مساء الجمعة الثامن والعشرين من يناير، ليعرض عليه تولي منصب رئيس الوزراء خلفًا لرئيس الوزراء أحمد نظيف الذي قرر الرئيس إقالته في هذا اليوم. أكد مبارك أنه سيمنح المشير كافة الصلاحيات في اختيار الوزراء الذين يرغب في ترشيحهم للحكومة الجديدة. أدرك المشير أن هناك محاولة لابعاده من الجيش، وأن الأنباء التي وصلت إلي مسامعه حول اختيار قائد الحرس الجمهوري اللواء نجيب وزيرًا للدفاع لم تكن مجرد شائعات!!
كان جمال مبارك يتابع الموقف عن كثب، وكانت الخطة التي جري الاتفاق عليها مع والده تقضي بأنه إذا رفض المشير منصب رئيس الوزراء، يعرض عليه منصب نائب الرئيس، وهذا ما فعله الرئيس مبارك، غير أنه فوجئ برفض المشير لمنصب نائب رئيس الجمهورية أيضًا، وهنا بادره الرئيس: وكيف يمكن أن تقبل بمنصب وزير الدفاع في حكومة يرأسها فريق، وأنت رتبتك العسكرية 'مشير'؟!
وكان مبارك يقصدبذلك 'الفريق أحمد شفيق' الذي كان قد أعده لرئاسة الحكومة الجديدة حال اعتذار المشير أو رفض قبوله لمنصب نائب الرئيس..
لقد استطاع جمال أن يقنع والده بإبعاد المشير عن وزارة الدفاع، لأنه كان يدرك أن المشير لن يصدر أية قرارات بمواجهة المتظاهرين، كان يعلم سخطه الشديد علي الأوضاع في البلاد، وكان يعرف أنه يقف عقبة أمام مشروع التوريث، وأنه مادام في موقعه، فإن القوات المسلحة سوف تبقي مناوئة لتطلعاته!!
ولم تكن ظنون جمال مبارك في غير محلها، لقد كان يدرك تمامًا رفض المشير للأوضاع السائدة في البلاد ورفضه لتوريث الحكم، لأنه كان يعتبر ذلك إهانة للشعب وللقوات المسلحة!!
لقد كشف موقع 'ويكليكس' الإلكتروني عن وثيقة صادرة عن السفارة الأمريكية بالقاهرة في إبريل 2007 أكدت معارضة المشير حسين طنطاوي واللواء عمر سليمان لملف التوريث الذي كان مبارك يسعي من خلاله لنقل السلطة إلي نجله جمال.
وأوردت الوثيقة ملخص اجتماع بين شخصيات أمريكية بارزة وأحد قيادات البرلمان المصري تم الرمز له بعلامة 'X' حيث تم خلاله مناقشة إمكانية تولي جمال مبارك الحكم خلفًا لوالده، واتضح أن جمال مبارك يري أن المشير حسين طنطاوي واللواء عمر سليمان يمثلان خطرًا علي طموحه الرئاسي.
وقال البرلماني المصري: 'إن المشير ذكر له مؤخرًا أنه يشعر بالاحباط الشديد تجاه جمال مبارك'، وأشار حسب الوثيقة إلي انه يري أن حزمة التعديلات الدستورية التي تم التصديق عليها في البرلمان تهدف بشكل محدد إلي ضمان تولي جمال الرئاسة خلفًا لوالده، كما يتضح أن جمال وزمرته لديهم الكثير من الثقة بحتمية خلافته للرئاسة، وأنهم يحاولون إزالة أحجار العثرة التي تقف أمام تحقيق هذا الهدف.
ووصفت الوثيقة الأمريكية الخلافة الرئاسية في مصر بأنها معضلة سياسية كبري، فعلي الرغم من المناقشات والأحاديث الجانبية غير المتوقفة، فلا يملك أي شخص أدني فكرة عمن سيخلف مبارك أو كيف يمكن لهذه الخلافة أن تجري!!
وأوردت الوثيقة إشارة للقيادي البرلماني بوجود توقعات وسط دوائر النخبة بالقاهرة بوجود تعديل وزاري قريب إما في مايو وإما في يونيو 2007، حيث يتم إبعاد وزير الدفاع المشير طنطاوي ومدير المخابرات العامة اللواء عمر سليمان، لأن هذين الاثنين يراهما جمال وحاشيته خطرًا كبيرًا، ومن ثم فإن جمال يدفع والده إلي أن يتخلص منهما لكي لا يمثلا له أي مشكلات في مشهد الخلافة.
وكانت سوزان مبارك تتفق مع نجلها علي أن المشير طنطاوي يمثل العقبة الرئيسية التي تقف حائلاً دون اتمام مخططها في التوريث وكانت لديها قناعة بأن موقف المشير ليس فرديًا، بل هو ذاته موقف الفريق سامي عنان وموقف أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة.
لقد كان المشير طنطاوي عازفًا عن السلطة، وكثيرًا ما أبدي معارضة شديدة داخل مجلس الوزراء في مواجهة الخصخصة وانتشار الفساد وزواج السلطة والثروة، وأذكر أنني كنت أؤدي واجب العزاء في وفاة أحد الأصدقاء بمسجد عمر مكرم، وهناك تقابلت بمحض الصدفة مع أحد الوزراء، الذي ما أن رآني حتي انتحي بي جانبًا وقال لي والسعادة تبدو علي وجهه: هل سمعت ماذا فعل المشير طنطاوي أول أمس في اجتماع مجلس الوزراء؟ واستكمل حديثه: 'لقد اعترض بشدة علي بيع بنك القاهرة واتهم نظيف وشلته ببيع مصر للأجانب'.
وقال الوزير: لقد كان المشير حادًا وحاسمًا ووجه إليهم ما يشبه الإنذار للتوقف عن هذا العبث وقال بلغة تهديدية: 'إن القوات المسلحة لن تقبل ببيع صناعة مصر وبنوك مصر للأجانب والنصابين'.
لم تكن هذه الرواية غريبة عني، فأنا شخصيًا استمعت من المشير أكثر من مرة انتقادات واسعة لشلة جمال مبارك ولحكومة نظيف. لقد كان يردد دومًا القول: 'إن البلد أصبحت في يد مجموعة من الأولاد العابثين الذين لا يقدرون مصلحة البلد والذين نهبوها وخربوها'.
كنت أشفق علي المشير كثيرًا، فقد كان يشعر بأن الوطن يضيع أمام عينيه، وكثيرًا ما كان يقول: إنه يريد أن يمضي بعيدًا عن هذا الفساد الذي استشري في البلاد'.
لقد نشرت هذه المعلومات التي أدلي بها الوزير وصدرت صحيفة 'الأسبوع' لتحمل مانشيتًا رئيسيًا يقول: 'وزير سيادي يتهم حكومة نظيف ببيع مصر للأجانب' ويومها قامت الدنيا ولم تقعد، وثار أحمد نظيف وطلب من وزير الداخلية معرفة اسم المصدر الذي أمدني بهذه المعلومات، ولكن الداخلية فشلت في ذلك. وعندما التقيت المشير طنطاوي في وقت لاحق بادرني بالقول: ' عملت مشكلة كبيرة بالمعلومات التي نشرتها'.
كنت أعرف أن الرئيس السابق لم يكن راضيًا عن مواقف المشير وقد عاتبه أثناء افتتاح فندق 'الفورسيزونز' بالإسكندرية، طالبًا منه أن يبتعد عن الملف الاقتصادي، وعندما حاول المشير توضيح خطورة ما يجري، بدا أن الرئيس غير مكترث!!
كان العام الأخير حاسمًا، الآن اكتملت الخطة، لم يعد هناك من خيار سوي أن يرشح الرئيس نفسه مرة أخري، أو يأتي بالوريث المنتظر لتولي عرش مصر، أما الحديث عن خيار ثالث فهذا غير وارد علي الإطلاق!!
كان المصريون يدركون ويعرفون أن التعديلات التي طرأت علي المادة 76 من الدستور، مقصود بها فتح الطريق أمام تولي جمال مبارك حكم مصر، وكانت سوزان مبارك تسعي بكل ما تملك لتحقيق الحلم المنتظر..
لقد وصل الصراع إلي قمته بين سوزان ونجلها جمال من جانب، وبين الرئيس من جانب آخر، لقد قالت له أكثر من مرة: 'إن مصير الأسرة كله في يدك، لو حدث لك مكروه فسوف نحاكم جميعًا، حتي ولو تم اختيار أقرب الناس إليك رئيسًا'!!
لم يكن مبارك راغبًا في أن يترك السلطة، وعندما كانت الضغوط العائلية تتزايد في مواجهته، كان يترك القصر الرئاسي بالقاهرة ويمضي إلي شرم الشيخ بعيدًا عن 'النكد' اليومي للسيدة الأولي، التي كانت توصف بأنها 'لحوحة وعنيدة'.
لم يكن مبارك يرفض التوريث حرصًا علي مصالح البلاد، وإنما خوفًا علي نجله أيضًا، فقد كان يدرك أنه لن يستطيع تحمل عبء المسئولية، وأن الشعب والجيش لن يقبلا به أيضًا.
لقد حاول مبارك إقناع زوجته ونجله بذلك الأمر كثيرًا، ولكنه فشل، فقد كانت السيدة الأولي مصممة علي تحقيق الحلم مهما يكن الثمن، ولذلك سعت إلي تكوين مجموعة عمل من خلف ظهر الرئيس مهمتها الوحيدة تهيئة الأجواء لتولي نجلها عرش الحكم في البلاد.
كان من أبرز رجالات هذه المجموعة: 'حبيب العادلي وزير الداخلية وأنس الفقي وزير الإعلام وأحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني الحاكم' بينما كان زكريا عزمي يقف علي مسافة واحدة بين الجانبين الرئيس ونجله.. وكانت قرينة الرئيس تردد دائمًا أن الجيش ليس معنا لكن الشرطة معنا، ويجب تسليحها بأحدث الأسلحة لاستخدامها وقت الحاجة إليها!!
كانت سوزان تمتلك من القدرة والقوة ما يجعلها تتحدي الرئيس بل وتواجهه بعنف في كثير من الأحيان، كانت تحرض ضده أفراد الأسرة جميعًا، خاصة أن نفوذ نجلها بدأ يمتد إلي البنوك وعصب الاقتصاد والأمن والحرس الجمهوري، وأصبح قوة نافذة في البلاد، وراح يتردد بشكل مستمر علي مبني وزارة الداخلية ويلتقي العادلي بشكل أسبوعي بعيدًا عن الأعين ليطلعه علي جميع التطورات والتسجيلات.
لقد سعت سوزان إلي تمكين نجلها من قيادة الحزب الوطني الديمقراطي وإبعاد صفوت الشريف خلال المؤتمر العام للحزب في عام 2007 ولكنها فشلت في ذلك فحاولت الإتيان بالدكتور عليّ الدين هلال ليتولي المهمة ولكن مبارك فاجأها وفاجأ الجميع باختيار صفوت الشريف لمنصب الأمين العام للحزب الحاكم لفترة جديدة.
وعندما حاولت سوزان ونجلها جمال إعادة تشكيل المكتب السياسي للحزب ـ وهو المعنيّ باختيار مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية ـ تدخل الرئيس في اللحظات الأخيرة ليدفع بعدد من رجال الحرس القديم في مقدمتهم يوسف والي وكمال الشاذلي وآخرين إلي عضوية المكتب السياسي، وكأنه أراد أن يبعث برسالة للحزب الجديد الذي يقوده نجله يقول له فيها: 'لا تنس أنني مازلت أحكم مصر، وأنني صاحب القرار الوحيد في هذا البلد، غير أن الصورة تغيرت فيما بعد، حتي بدا الرئيس خانعًا مستسلمًا لرغبات الأسرة.
لقد كانت سوزان مبارك تقول للمقربين إليها دومًا: 'إن جمال منحها جزءًا من نخاعه وأنها تشعر تجاهه بالذنب، ولذلك لن يهدأ لها بال إلا عندما تجلسه علي كرسي الحكم في مصر'، غير أن الأمر كان أكبر من الوفاء أو رد الجميل علي حساب الوطن. لقد كانت القضية تعني لسوزان مبارك أجندة كاملة: الاستمرار في الحكم، الحفاظ علي الأسرة بعيدًا عن المساءلة، ضمان استمرارية النهب المنظم للبلاد، خدمة الأجندة الغربية لتغيير المجتمع وثقافته ومواقفه من العقيدة الدينية. وهي الأجندة التي سعت إلي تنفيذها وتمريرها عنوة في البرلمان.
لقد تعاظمت سلطة سوزان مبارك، وبدا الرئيس، وتحديدًا بعد وفاة حفيده محمد علاء، عاجزًا عن الحكم، فترك لها العنان هي ونجلها جمال لإدارة الأمور في البلاد، فسعي جمال إلي محاولة التمدد داخل القوات المسلحة والتقرب من المشير طنطاوي والفريق عنان، ولكنه لم يجد آذانًا صاغية.
وفي إحدي المرات تلقي المشير طنطاوي اتصالاً من رئيس ديوان رئيس الجمهورية يبلغه بتحديد موعد للقائه مع رئيس الجمهورية، وعندما ذهب المشير في الوقت المحدد، فوجئ بمن يبلغه أن جمال مبارك في انتظاره، قبل أن يستقبله رئيس الجمهورية.
نظر المشير إلي محدثه نظرة لا تخلو من معني، وتركه ومضي إلي مكتب الرئيس مباشرة، وعندما سأله مبارك: هل مررت علي مكتب جمال مبارك بالقصر؟ قال المشير بكل حسم: 'الحقيقة انني جئت لمقابلة القائد الأعلي، هكذا أُبلغت' فهم الرئيس معني الرسالة والتزم الصمت.
كان الرئيس قد طلب من المشير وضع حد لما يجري في ميدان التحرير وغيره من الميادين، لم يكن مبارك مصدقًا أن الأمر قد خرج عن السيطرة. كان يظن حتي هذا الوقت أنها هوجة وستمضي، هكذا أبلغوه قبيل اندلاع شرارة الثورة في الخامس والعشرين من يناير. لقد طلب مبارك من حكومة نظيف تقديم استقالتها، وكلف الفريق أحمد شفيق بتشكيل الحكومة الجديدة، في وقت متأخر من المساء.
وفي العاشرة والنصف من صباح اليوم التالي كان أعضاء الحكومة القديمة قد احتشدوا في مبني مجلس الوزراء لتقديم استقالاتهم، وفجأة رن جرس الموبايل الخاص بوزير الثقافة المستقيل فاروق حسني، وجاء حرس الوزير ليبلغه أن الرياسة علي الخط، كان المتحدث علي الجانب الآخر هو رئيس الجمهورية، سأله علي الفور، ايه أخبار معرض الكتاب يا فاروق؟!
كان السؤال مفاجئًا لفاروق حسني فقال له: المعرض اتلغي، اليوم كان الافتتاح يا سيادة الرئيس. فرد عليه مبارك: 'طب خلاص روح انت وافتتح المعرض'.
تزايدت حدة الدهشة لدي وزير الثقافة والذي بادره بالقول: 'معرض ايه يا افندم، دي البلد مولعة، وأنا وصلت لمجلس الوزراء بالعافية، وكمان أغلب الناشرين عادوا إلي بلادهم من جديد، وبعدين أنا قدمت استقالتي يا ريس، حضرتك أقلت الحكومة امبارح'، صمت مبارك لبعض الوقت وقال: 'طيب، كده يبقي معرض الكتاب اتلغي'!!
لم يصدق فاروق حسني ما سمعه من الرئيس منذ قليل، لقد أدرك أن مبارك مغيب عن حقائق ما يجري في الشوارع والميادين العامة، أنه يظن أن الأمر ليس أكثر من وقفة احتجاجية سرعان ما ستنتهي وتعود الأمور إلي وضعها الطبيعي!!
>>>
منذ قليل كان الفريق سامي عنان قد وصل إلي مكتبه بوزارة الدفاع، لقد كان علي موعد عاجل مع المشير، كان اللقاء مقصورًا عليهما فقط، قبل أن يعقدا اجتماعات موسعة مع أعضاء بالمجلس الأعلي للقوات المسلحة، وكان السؤال: ماذا سنفعل إذا صمم مبارك علي سحق المتظاهرين؟!!
المصدر
http://www.elaosboa.com/artsys00/ArticleDetails.aspx?AId=7412