الفكر الإستراتيجي في الثلاثينات: بين
التجديد و الجمود.
في الثلاثينات من القرن الماضي بدا
وكأنه هناك نزعة للتشدد فيما يتعلق بهذا الفكر.ففي إيطاليا كتب الجنرال Visconti-Prasca كتابا أخذ شهرة كبيرة تحت عنوان " La
Guerra decisiva"
(الحرب الحاسمة) في عام 1934،ترجم للألمانية والفرنسية في عام 1935. يدعو الجنرال
في هذا الكتاب إلى العودة لعقيدة الهجوم. وفي فرنسا أيضا لم يتوقف التيار المتشدد
في الفكر الإستراتيجي عن الظهور كما يتبين ذلك مع كتاب الجنرال Chauvineau بعنوان
"هل الاقتحام مازال ممكنا؟" وقد صدر في عام 1939، وهو مثال جيد على عودة
المحافظين إلى داخل هذا الفكر.
أيضا في ألمانيا، فقد أخذ هذا الاتجاه
توسعا كبيرا مع العديد من منظريه وأهمهم: Wilhelm
Reinhardt, Alfred Krauss, Waldemar von Erfurth, Herman Foertsch. وفيما يتعلق بعقيدة الهجوم،فقد
أحدث الألمان تطورا كبيرا بعد تصنيعهم وامتلاكهم بشكل كبير لكل من الطائرة و
الدبابة. ونذكر هنا أن الإستراتيجيين الألمان تأثروا كثيرا بالمنظرين
الإستراتيجيين البريطانيين مثل Azar Gat .
أما في روسيا فقد حاول السوفييت تطوير نظرية أصيلة وخاصة بهم. والكاتب الأكثر شهرة
في هذا المجال كان الجنرال Alexandre Svechin في كتابه
" Strategija" الصادر عام 1926. ويصنف اليوم كمؤلَّف كلاسيكي. ساهم كتابه
بتأسيس ما يسمى بالمذهب"الواقعي"، وقد دعم الماركسي الشهير
"تروتسكي" هذا المذهب قائلا :" لا يمكننا بناء قاعدة للحرب مع
الماركسية".
عمليا اصطدم هذا المذهب ومعه تروتسكي
بكتابات Mihail Frounze المدعوم من قبل المارشال Toukhatchevski الذي يدعو إلى "مذهب عسكري
واحد لا يتغير"، والذي يجب أن يكون " التعبير عن الإرادة الواحدة للطبقة
الاجتماعية في السلطة". هاجم Toukhatchevski خصومه من الجانب
الإيديولوجي مما أدى فيما بعد لتصفيته ومعه أيضا Svechin. في عام 1939،وصل الفكر
الإستراتيجي إلى حالة مختلفة تماما عما كان عليه في عام 1914، حيث لم يعد هناك
إجماع عقيدي،بل على العكس أصيب بفجوة كبيرة وقعت بين المحافظين و المحدثين.
الفكر الإستراتيجي خلال الحرب
العالمية الثانية.
الحرب التي اندلعت في سبتمبر 1939
أحدثت انقلابات جذرية في المذاهب الإستراتيجية التي كانت سائدة بين الحربين.
فالخطط الإستراتيجية لم تعد على مستوى حرب صغيرة أو كبيرة بل أصبحت على مستوى
العالم ككل،ومن أهم أسباب هذا التغير هو التطور الحاصل في جميع صنوف الأسلحة المستخدمة.
إذا أصبحت الأسلحة تفرض قوانينها ،أما الإستراتيجيات فتجرب جميعها في ميادين
المعارك. مع ذلك،التفكير و التنظير الإستراتيجي لم يختف من البلدان الأوربية،حيث
استمرت العديد من المراجع والمطبوعات الإستراتيجية النظرية بالظهور خلال الحرب.
إن الحدث الأهم الذي عرفته الحرب
الثانية هو الصعود القوي للولايات المتحدة الأمريكية.وهذا ما ترافق أيضا في ميدان
التفكير الإستراتيجي النظري. ومن المعروف أن هذا البلد لم يكن بعد قد أنتج تلك
المراجع الكبرى في العلوم الإستراتيجية،طبعا إذا استثنينا Mahan. خروج الولايات المتحدة منتصرة في
الحرب الثانية جعلها تهتم كثيرا بالميدان النظري للعلوم الإستراتيجية ولاقى هذه
الاهتمام اتساعا كبيرا على المستوى العالمي. فقد بدأت الجامعات الأمريكية بوضع
البرامج
البحثية التي تقرأ وتحلل الفكر الإستراتيجي الأوربي: مثلا Edward Mead
Earle أطلق دراساته حول كبار الإستراتيجيين الأوربيين في كتاب له تحت
عنوان " Makers of Strategy" صدر في عام 1943،وترجم للفرنسية في عام 1982،وقد استمر هذا
المرجع نصف قرن من الزمان كأحد أهم المراجع في هذا المضمار.
أيضا Stephen
Possony أدار برنامجا
ضخما للترجمة لجميع الإستراتيجيات الكلاسيكية. والعددي من المحللين درسوا تحولات
وتغيرات الحروب البرية و البحرية. ومن هنا بدأت تظهر ملامح تيار جديد في العلوم
الإستراتيجية،هذا التيار سيؤسس لما سنسميه فيما بعد بالجيوإستراتيجية. ويمكن
القول هنا،إن القوة العالمية للولايات المتحدة ليست فقط وليدة ظروف معينة،بل هي
أيضا ناتجة عن برنامج ناضج من التفكير والبحث قبل أن يوضع في التنفيذ. حيث بالنسبة
لهم النظرية توجه وتغني التطبيق العملي.