ي التاسع من أكتوبر الماضي نشر «شكوموجازيت» - رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية الأسبق - مقالاً في صحيفة هاآرتس، تساءل فيه قائلاً: هل كان أشرف مروان جاسوساً مزروعاً في إسرائيل أم جاسوساً في القيادة المصرية؟ أخشي من أننا لن نحصل أبداً علي جواب شاف لهذا السؤال.
شهادة «جازيت» لها أهميتها الكبيرة، فقد كان هو من خلف الجنرال «ايلي زعيرا» في منصب رئيس المخابرات العسكرية المعروفة باسم «أمان» في إبريل عام 1974، أي بعد ستة أشهر فقط من نشوب حرب أكتوبر، وكان جازيت شاهداً علي أول تحقيق يجري داخل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية حول مصدر الخطأ الذي أدي إلي مفاجأة الهجوم المصري - السوري علي إسرائيل ظهر يوم السادس من أكتوبر عام 1973.
حيرة جازيت لها أيضاً ما يبررها فمن يرون في أشرف مروان أنه كان عميلاً مخلصاً لإسرائيل مثلما يزعم رئيس الموساد الأسبق «تسفي زامير» يستندون إلي حقائق ثابتة منها أن أشرف مروان ظل علي مدي عمله في الموساد منذ عام 1969 ينقل معلومات ووثائق علي أعلي درجة من الأهمية وثبت من عدة مصادر مختلفة أنها كانت صحيحة ودقيقة، بينما يري من يعتقدون أن مروان كان أحد أمهر عمليات الخداع التي قامت بها مصر ضد إسرائيل ومنهم «ايلي زعيرا» أن مروان قد تم تجهيزه بدقة بالغة لكي يكسب ثقة الإسرائيليين طيلة الوقت بنقل معلومات صحيحة إليهم عما يدور داخل قصر الرئاسة في مصر علي أن ينقل في وقت ما معلومة خاطئة يقصد بها تحقيق مفاجأة للجيش الإسرائيلي وهو ما حدث بالفعل بعد أن نقل مروان لرئيس الموساد «تسفي زامير» معلومة يوم الخامس من أكتوبر عام 1973 بأن الحرب ستبدأ مساء يوم السادس من أكتوبر، ومن وجهة نظر زعيرا أن مروان:
< أولاً: لم يكن ينقل طيلة الوقت معلومات صحيحة فقد سبق له أن أبلغ بموعدين للحرب ولم تقع.. كان الأول في ديسمبر عام 1972 والثاني في إبريل عام 1973.
< ثانياً: أن هذه المعلومات نفسها قد تكون مقصودة بهدف إفقاد القيادات الإسرائيلية الاهتمام بتحذيرات الحرب التي تنتهي بمجرد حشود عسكرية سرعان ما يتم تفكيكها كنوع من المناورة والضغط ليس إلا.
< ثالثاً: أن مروان كان سكرتيراً للرئيس السادات والثابت أن موعد الحرب تحدد أثناء اجتماع القيادتين العسكرية والسورية في الإسكندرية في 23 أغسطس عام 1973. وأن مروان كان حاضراً أثناء الاجتماع الذي جمع الملك فيصل والرئيس السادات أثناء زيارة الأخير للسعودية في سبتمبر من نفس العام، وكان السادات قد أخبر الملك فيصل بقرب وقوع الحرب ورغم ذلك لم ينقل مروان ما دار في هذه الاجتماعات.
< رابعاً: حتي اللقاء الذي جمع بين «تسفي زامير» رئيس الموساد وأشرف مروان في لندن في الخامس من أكتوبر عام 1973 كان «مروان» يتعمد الخداع، حيث أبلغ «زامير» بأن القيادة العسكرية المصرية تعارض الحرب ولكن السادات هو الذي يصر عليها!!
< خامساً: أن «مروان» نفسه كان مصدر المعلومات التي بنت عليها القيادة الإسرائيلية تقديرها بأن مصر لن تشن الحرب ما لم تحصل أولاً علي مقاتلات هجومية متطورة وصواريخ سكود بعيدة المدي، وهو ما أبلغ مروان نفسه بأن مصر فشلت في الحصول عليهما رغم إلحاح عبدالناصر ومن بعده السادات علي السوفييت للحصول علي هذه الأسلحة.
< سادساً: ألم يكن السادات ذكياً لكي يدفع إسرائيل للثقة بمروان بنقل معلومات الحرب صحيحة بشكل جزئي أي بأنها ستنشب في السادس من أكتوبر ولكنها ستبدأ في السادسة مساء بدلاً من الموعد الصحيح وهو الثانية ظهراً، ألم يكن مروان يعلم بالموعد الصحيح؟ أليس من يعرف اليوم يجب أن يعرف الساعة التي ستنشب فيها الحرب أيضاً؟
إن الاستنتاج الوحيد هو أن مروان كان يراوغ حتي النهاية حتي وهو في حضرة رئيس الموساد نفسه أثناء لقائهما في لندن في الخامس من أكتوبر 1973.
الغريب حقاً أن المشير عبدالغني الجمسي الذي كان رئيساً لغرفة عمليات القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر يذكر في مذكراته أن ما كان يهمه ألا تبدأ إسرائيل في استدعاء الاحتياط قبل 48 ساعة من الحرب، وعندما ظهر له في الثانية عشرة ظهراً يوم السادس من أكتوبر أن الضفة الشرقية للقناة ليست بها حشود إسرائيلية قد أيقن من أن عنصر المفاجأة الذي يريده قد تحقق.
الصراع بين زعيرا وزامير
شغل الرجلان أهم منصبين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر عام 1973 ووفقاً للتقاليد المعروفة كان الموساد يقوم فقط بجمع المعلومات الاستخبارية وكان «تسفي زامير» رئيس الموساد هو من يتفاخر بأن لديه في مصر عميلاً لا يمكن أن يقدر بمال فهو قريب من الرئيس ويعلم كل شاردة وواردة تجري داخل أعلي مستويات القيادة في مصر، وأن ما يحصل عليه من معلومات من هذا المصدر ليس لها نظير وثبتت صحتها مراراً من مصادر أخري، أما جهاز الاستخبارات العسكرية والذي كان يرأسه «ايلي زعيرا» فقد كان المسئول عن تحليل المعلومات التي يتم جمعها من مصادر عدة ومنها الموساد، علاوة علي التنافس التقليدي بين الموساد والاستخبارات العسكرية (أمان) كان «زعيرا» أسيراً لفكرة أن الحرب حتي لو نشبت بشكل مفاجئ فإن فارق القوة الهائل لصالح إسرائيل سيمكنها من التغلب علي عنصر المفاجأة لو وقع، كما كان «زعيرا» يشعر بالارتياب في أشرف مروان المعروف آنذاك باسم «العميل بابل» خاصة أن طريقة تجنيده وفقاً لما يقوله الموساد والتي تمت بمبادرة منه شخصياً لا تدعو للثقة به.
في عام 1993 أصدر «زعيرا» كتاباً بعنوان «حرب يوم الغفران.. الواقع مقابل الخيال) كرر فيه اتهامه للموساد في عهد «زامير» بأنه ابتلع الطعم الذي ألقاه المصريون وتسبب بثقته في العميل «بابل» أو أشرف مروان في تمرير معلومات خاطئة لإسرائيل قادتها لهزيمة عسكرية حقيقية، بل أسوأ هزائمها علي الإطلاق، وحتي ذلك الوقت لم يكن «زعيرا» يذكر اسم «مروان» صراحة، وتدريجياً مع اشتداد المواجهات بينه وبين «زامير» علي شاشات التليفزيون والصحف في ذكري حرب أكتوبر من كل عام، بدأ «زعيرا» في تسريب معلومات مكنت باحثين وصحفيين من التعرف علي شخصية العميل «بابل».
وجاء المؤرخ الإسرائيلي أهارون برجمان عام 2002 ليكتب كتاباً بعنوان «تاريخ إسرائيل» اهتم فيه بمحاولة البحث عن الشخصية الحقيقية للعميل «بابل» واقترب إلي حد كبير من تحديده بدقة من المعلومات التي كان يقولها «زعيرا»، فقد حدد أنه كان دبلوماسياً يعمل في لندن عام 1969، وأنه عرف باسم «الصهر» أو «العريس» أحياناً، ومن ثم كانت كل القرائن تشير إلي شخص «أشرف مروان» وبعدها أطلق «برجمان» استنتاجاته صراحة عام 2003 لتبدأ الصحف المصرية والإسرائيلية في الحديث عن مدي صحة ما قاله برجمان، والواضح أن إسرائيل الرسمية كانت تراقب ما يجري من تلاشي بين «زعيرا» و«زامير» دون أن تتدخل مباشرة رغم أن هذا التلاسن كان يقود إلي تساؤلات مهمة مثل:
1- لماذا صمتت أجهزة الرقابة العسكرية في إسرائيل علي ما يقوله «زعيرا» رغم خطورته، فتسريب الاسم الحقيقي لأحد عملاء إسرائيل يعتبر خيانة عظمي وإضراراً بمصالح الاستخبارات الإسرائيلية؟
2- لماذا وقفت إسرائيل الرسمية عاجزة عن التدخل لإجبار «زعيرا» علي الصمت منذ عام 1993 ولمدة عشر سنوات كاملة، رغم أن ما كان يقوله تلميحاً كان سيقود حتماً لتحديد شخصية بابل الحقيقية؟
لا يمكن لأحد أن يصدق أن ما جري كان محض صدفة أو نوعاً من الإهمال، فإسرائيل لا تتواني عن مطاردة أي شخص يحاول هتك أسرارها العسكرية والاستخباراتية، هل كان هناك من يحاول تحريض المصريين علي الرد؟ ولماذا فعلوا ذلك؟
يبدو أن إسرائيل الرسمية حتي اليوم غير مستعدة لكشف الوثائق التي تمتلكها عن أشرف مروان، ولكنها أيضاً تبدو غير واثقة من أن مروان كان رجلها المخلص، وبالتالي يمكن تصور أنها غضت الطرف عما يدور من تلاسن بين «زعيرا» و«زامير» علي أمل أن تقوم مصر بالرد نفياً أو إيجاباً لكي تغلق إسرائيل هذا الملف المحير، ولكن مصر في المقابل اتبعت سياسة أدت لمزيد من الغموض رغم كل ما يتناقله الإسرائيليون عن أشرف مروان صراحة، دعي مروان لحضور احتفالات السادس من أكتوبر عام 2006، كما حضر حفل زواج ابن الرئيس المخلوع حسني مبارك!! فيما بدا وكأنه نوع من التكريم لمروان لإخراس الألسنة الإسرائيلية التي تلوك سيرته وتتحدث عن عمالته لصالحهم.
وفي مايو عام 2007 اشتدت المعارك بين «زعيرا» و«زامير» وقرر الأخير التقدم بشكوي رسمية ضد «زعيرا»، وقد شكلت الحكومة لجنة تحكيم برئاسة القاضي «تيودور أور» لدراسة شكوي زامير واستنتجت اللجنة أن «زعيرا» قد ارتكب خطأ بإفشاء أسرار الدولة علاوة علي أن القاضي أعلن اعتقاده شخصياً بأن المعلومات المتاحة له تؤدي إلي القول بأن مروان كان عميلاً إسرائيلياً ولم يكن عميلاً مصرياً أو مزدوجاً.
استخدمت الصحف الإسرائيلية فتوي لجنة «أور» لكي تزعم أن القضية باتت محسومة، وأن مروان كان رجل إسرائيل بالفعل، وتوقع البعض أن مصر ستبادر بالرد ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وفي 27 يونيه عام 2007 أي بعد أسابيع قليلة من صدور حكم لجنة «أور» وجد أشرف مروان ميتاً أسفل منزله في لندن وعاد تسفي زامير لتوجيه الاتهام لإيلي زعيرا بأنه قد تسبب في قتل أشرف مروان بعد أن قام بفضحه وإفشاء سره، وجري التلميح إلي أن المخابرات المصرية هي التي قامت بتصفيته، خاصة أن المبني الذي سقط منه أشرف مروان كان نفس المبني الذي سقط منه كبير الياوران المصري وقائد الحرس الجمهوري الأسبق في عهد السادات «الليثي ناصف» وأيضاً الفنانة سعاد حسني التي كانت قد هددت - كما يقال - بنشر مذكراتها وفضح أسرار كبار المسئولين في مصر.
ما حاولت الصحف والمصادر الإسرائيلية تمريره هو أن مروان قد تم قتله علي يد المصريين وهو ما يؤكد صحة مزاعمهم بأنه كان عميلاً خالصاً لإسرائيل، وانتظر الإسرائيليون ما سيجري في جنازته لكي يتأكدوا تماماً من صحة استنتاجاتهم، غير أن المفاجأة أعادتهم للمربع الأول مرة ثانية، فقد أجريت لمروان جنازة رسمية ولف جثمانه بعلم مصر وحضر كبار المسئولين جنازته.. وقال البعض في إسرائيل في حينها: ما هكذا يشيع الناس في مصر من يكونون متهمين بالخيانة الوطنية!!
العودة للمربع الأول
ما ذكرناه في مقدمة هذا التحقيق نقلاً عن «شلومو جازيت» يؤكد أن إسرائيل الرسمية مازالت في حيرة من أمرها ومازال السؤال مطروحاً.. هل كان مروان يعمل معها أم ضدها؟، وفي إطار حرب عض الأصابع بينها وبين مصر تحاول أن تحصل علي أية معلومة رسمية من القاهرة تؤكد أو تنفي شكوكها، ولكن حسناً تفعل الحكومة المصرية والأجهزة الرسمية المصرية بالصمت وعدم الدخول في المجادلات الجارية في الصحف الإسرائيلية، وآخرها العرض الذي قدمته الصحف الإسرائيلية لأحدث كتاب تناول قضية أشرف مروان وهو كتاب «الملاك» لمؤلفه أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا البروفيسور «أوري بار يوسيف» الذي زعم أن لديه الدليل الواضح علي أن «مروان« كان عميلاً إسرائيلياً خالصاً، ولكن استعراض الكتاب يبين أنه اعتمد علي مجرد لقاءات مع مسئولين في الاستخبارات وباحثين في شئون الأجهزة الأمنية دون أي وثيقة تثبت مزاعمه، بل أن بار يوسيف، يلقي بمعلومات جديدة لا أحد يعرف مصدرها ومدي دقتها، فهو ينكر أن مروان قد تم تجنيده في عام 1969، ويقول إن تاريخ تجنيده الصحيح كان عام 1971 بعد انقلاب السادات علي رجال عبدالناصر في مايو من نفس العام وصعود نجم أشرف مروان وتوليه مسئولية جهاز المعلومات في مكتب السادات، كما يزعم «يوسيف» أن مروان ظل يعمل مع الموساد حتي ما بعد اتفاق كامب ديفيد، وظل يتلقي الأموال من الموساد لسنوات طويلة، وأن الرئيس السابق مبارك هو من أمر بتصفيته عام 2007 بعد تأكد المخابرات المصرية من عمالته لإسرائيل.
ورغم ما قاله يوسيف نري المسئولين الرسميين في إسرائيل يصرون علي أن ما حدث في أكتوبر عام 1973 ينبغي ألا يتكرر مرة أخري ويلمحون للتقصير الاستخباراتي تحديداً، فقد صرح رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الحالي «بيني جانتس» لصحيفة يديعوت أحرونوت في أكتوبر الماضي قائلاً: «إن العبرة المركزية من حرب تشرين الأول «أكتوبر» هي أن الحرب ستنشب غداً ويجب ألا نثق بأي شيء سوي بقدرتنا ومدي استعدادنا لمواجهة أي هجوم في أي لحظة».
إن الروح السائدة في إسرائيل الرسمية حالياً هي أن مروان لم يكن عميلاً موثوقاً به نتيجة قرائن عدة، ولكن الإعلان صراحة عن أنه كان أكبر خدعة انطلت عليها طيلة تاريخها سيزيد من الخسائر ولن يقللها وسيشكك بأثر رجعي في كفاءة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وسيؤثر علي سمعتها وقدرتها الردعية الآن وفي المستقبل، ومن ثم ستترك هذه القضية للمغامرين من الصحفيين والباحثين دون أن تتطوع الجهات الرسمية لا في مصر ولا في إسرائيل بتقديم ما لديها من معلومات عن هذا الملف، كما أن موت مروان الغامض سواء قتلاً أو انتحاراً سيضيف المزيد من التشويق الذي يغري الكثيرين بفتح الملف من آن لآخر تماماً مثلما حدث وما يزال يحدث في الولايات المتحدة بعد مرور ما يقرب من نصف قرن علي الاغتيال الغامض للرئيس جون كينيدي عام 1963.