هل يمكن أن يتحول التهديد الإيراني بإغلاق الممر الإستراتيجي، إلى واقع مفروض... أم أنه مجرد شعارات تتردد منذ ربع قرن وتظل غير قابلة للتنفيذ في ضوء التوازنات العسكرية واللوجستية؟ علينا أن نتذكر قبل كل شيء، أن التهديد الإيراني بإغلاق مضيق هرمز قائم منذ الحرب العراقية الإيرانية، فقد هددت طهران مرارا بإغلاقه مطالبة بتقليص حظر شراء الأسلحة الذي واجهته في حربها مع بغداد ودفعت بسببه ثمنا باهظا.
كما أطلقت هذا التهديد مرارا، كلما أصدر مجلس الأمن الدولي دفعة جديدة من العقوبات الاقتصادية ضد طهران ملوحا بتشديد القيود المالية والسياسية.
غير أن إيران لم تجرؤ على إغلاق المضيق أو لم تتمكن من ذلك حتى الآن. فما هي الإمكانيات العسكرية المتاحة للبحرية الإيرانية وإلى أي حد يخولها ذلك إطلاق تهديدات من هذا الطراز.
يؤكد المراقبون أن مضيق هرمز ليس نهرا أو جدولا، وهو ممر ليس محدود السعة إلى الدرجة التي يتخيلها البعض، لأن أضيق نقطة فيه تقع بين إيران وسلطنة عمان يبلغ عرضها 34 كم، بينما يصل عرض المضيق في نقاط أخرى إلى أكثر من 60 كم، وبالتالي فهي مسافة كبيرة يصعب التحكم فيها من قبل سلاح البحرية الإيرانية التقليدي مهما حاول البعض التهويل والتخويف من إمكاناته.
ويقول حسين آرين وهو خبير عسكري إيراني مقيم في الولايات المتحدة، إن القوات الإيرانية تعتمد في الدرجة الأولى على «فرضية ردع برية – بحرية، إذ يتحدث القادة الإيرانيون عن صواريخ أرض – بحر، تساعدها زوارق متوسطة الحجم وصغيرة»، ذلك أن طهران لا تمتلك أسطولا قتاليا بما تعنيه الكلمة، رغم الدعاية الكبيرة التي تحيط بهذا الموضوع.
ويضيف آرين في تقرير نشرته محطة «فاردا» الإذاعية التي تبث من واشنطن، إن زوارق إيران الحربية «يمكن أن تصلح لإطلاق صواريخ بحر – بحر ضعيفة التأثير، أو تقوم بعمليات مناورة وزراعة ألغام وربما عمليات انتحارية في البحر لو سنحت الفرصة» غير أنها عاجزة عن إدارة حرب بما تعنيه الكلمة.
ولم يتمكن النظام الإيراني من إنكار هذه الحقيقة، إذ وخلال الأسبوع الماضي لاحظنا تعبير «الحرب غير المتكافئة» على لسان أكثر من ضابط كبير في حرس الثورة الإيراني، وقد وصفوا بذلك خطة طوارئ يعاد في ضوئها هيكلة قوات الحرس «استعدادا لعمليات كر وفر دفاعية ومواجهات غير متكافئة، أو محاولة إيذاء الخصم باستغلال الموقع الجغرافي وبعض الجزر الإيرانية» الصغيرة المتناثرة في تلك المنطقة، حسبما رددت صحف إيران المقربة من الحكومة.
ولكن كل هذه الإمكانات ومهما بالغت بعض المصادر في تقديرها، تظل بالنسبة للخبراء العسكريين، مجرد وسيلة مؤقتة ربما تتيح لإيران عرقلة جزئية لحركة الملاحة في مضيق هرمز، بينما سوف تظل القوات الإيرانية عاجزة عن إغلاق المضيق ووقف الملاحة فيه، ولا سيما حين نتحدث عن رد الفعل الأميركي الذي يفترض تحريك البوارج العملاقة لسلاح البحر والغطاء الجوي الكثيف المتاح لواشنطن في الخليج والعراق، أي إمكانات الجيش الأميركي الواسعة على التحكم الفوري بالأجواء والمياه الدولية.
الحظر البحري و«مضائق» أميركا العديدة
يمكن لإيران حسب أوساط عسكرية مطلعة، زراعة بعض المناطق الحساسة في الخليج بالألغام البحرية، لكن واشنطن تمتلك العديد من كاسحات الألغام الفعالة التي تجوب المنطقة طولا وعرضا، ووظيفتها الأساسية رصد وإبطال مفعول أي معرقلات للملاحة من هذا النوع، ما سيكون كفيلا بالتعامل مع الأمر على نحو فوري.
ولكن وكما يوضح آرين متحدثا لإذاعة «فردا» فإن المشكلة تواجه الجانب الإيراني الذي «لا يمتلك حتى الآن كاسحات ألغام تمكنه من فك حصار قد تفرضه أميركا على السواحل والموانئ الإيرانية» حيث تتمكن البحرية الأميركية من زراعة ألغام كافية في طرق الملاحة الممكنة لزوارق إيران، وستصاب البحرية الإيرانية بالشلل وتعجز عن الحركة ويصبح الساحل الإيراني سجنا بحريا لنشاط إيران الملاحي المدني والعسكري على حد سواء، وكثيرا ماتردد تقارير صحافية هذه الأيام عبارة «منطقة الحظر البحري» التي تمثل سيناريو واردا للغاية في التعامل مع التهديد الإيراني، إذ إن «أمن الطاقة العالمي» سوف يبرر لأميركا فرض منطقة حظر ملاحي ضد إيران، وربما يشمل الحظر مجالات جوية كذلك في المساحات الحساسة، لتأمين الملاحة النفطية في الخليج بأي ثمن.
وخلال الآونة الأخيرة لم تغب هذه الفكرة عن بال الجانب الإسرائيلي الذي يبدو اليوم رأس الحربة في التلويح بالخيار العسكري ضد إيران، إذ نقلت صحف تل أبيب منتصف شهر مايو (أيار) ان رئيس الحكومة إيهود أولمرت طالب رئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بيلوسي رسميا، بفرض حصار بحري على إيران بوصفه عامل ضغط إضافي فيما يتعلق ببرنامجها النووي المثير للجدل.
وبالفعل فإن مصادر مطلعة تشير إلى أن البحرية الأميركية قامت منذ العام 2003، بزراعة بعض النقاط الحساسة في الخليج بالألغام كي تقيد مسبقا، أي حركة محتملة للجيش الإيراني تستهدف عرقلة الملاحة في الممرات الإستراتيجية، وتقول المصادر إن الإمكانيات الواسعة لواشنطن في الخليج تتيح لها التحكم في جميع الممرات الملاحية، وإبقاء مسارات محدودة تتحكم هي فيها وتسيطر عليها، بأن تنشئ مضائق ملغّمة عديدة داخل الخليج بدلا عن مضيق واحد.
ويضيف المحللون في هذا الإطار التأييد الدولي والخليجي الواسع الذي سوف يتاح لأميركا لو حاولت إيران عرقلة الملاحة في المناطق الحساسة، وربما يعني الأمر وضع الإمكانات العسكرية لحلف الناتو والبحرية العربية، في تصرف نظام الحماية الذي تلجأ إليه واشنطن عند الطوارئ.
هل يتكرر سيناريو «المنطقة الآمنة»
الحديث عن منطقة «الحظر البحري» تعيد إلى الأذهان سيناريوهات قد طبقتها الولايات المتحدة في المنطقة أكثر من مرة خلال ربع القرن الماضي. والنموذج القريب هو خطة «الحظر الجوي» الذي فرض على نظام صدام حسين العام 1991 في شمال العراق وجنوبه عند خطي عرض 32 و36، وقد كان الغرض حماية الأكراد في الشمال، وبقدر أقل المدن الجنوبية التي واجهت قمعا شرسا بعد تمرد 1991.
أما خطة «الحظر» الأقدم فهي التي لجأت إليها واشنطن في مواجهة ما عرف بـ «حرب الناقلات» بعد احتلال إيران لشبه جزيرة الفاو العراقية المطلة على رأس الخليج العام 1986، حيث راح العراق يضرب ناقلات النفط الإيرانية، وقد ردت طهران باستهداف ناقلات نفط عربية وأجنبية، حيث ضرب الإيرانيون نحو 40 ناقلة نفط وسفينة مدنية في الخليج بين عامي 86 و87.
لكن ذلك فتح أبواب الخليج على مصاريعها للبحرية الأميركية التي وجدت الجميع يدعوها للتدخل، وقد قام الأميركيون حينها بضرب منصات تحميل نفط إيرانية وفرضوا حصارا حقيقيا على صادرات إيران من النفط. ونجحت واشنطن يوم لم يكن لها 10 في المائة من الوجود العسكري المتاح حاليا في الخليج، في إنشاء «منطقة بحرية آمنة» مطلع العام 1988 لتؤمن من خلالها الملاحة الدولية عبر الخليج، وذلك بدعم دولي وإقليمي.
ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل شهد الموقف تصعيدا خطيرا في 18 أبريل (نيسان) 1988، يوم اضطرت واشنطن إلى أن تخوض أكبر معاركها البحرية منذ الحرب العالمية الثانية حسب وصف محلل جريدة «نيويورك تايمز» الشهير بوب ودورد، فبعد استئناف إيران ضرب أهداف في الخليج ومحاولة إفشال خطة «الحظر البحري» والمنطقة الملاحية الآمنة، قامت نحو 50 قطعة حربية أميركية بشن معركة سريعة ضد الأسطول الإيراني وقد تمكنت من إغراق نصف زوارق طهران خلال مدة قياسية.
ويشير المراقبون العسكريون ومسؤولون في البنتاغون إلى تلك الحادثة، بوصفها مؤشرا دائما على التفوق البحري الكبير الذي يحتم على إيران أن تستعيده دائما وهي تفكر بأي تورط من هذا القبيل.
صواريخ إيران و«العماء» الإستراتيجي
في إطار الحديث عن رد فعل صاروخي من قبل إيران بعد خسارة بحرية ربما تمنى بها، لا توجد تفاصيل كافية عن أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ في منطقة الخليج والعراق، لأن ذلك يدخل في نطاق المعلومات بالغة السرية لدى البنتاغون. وتذكر مصادر في واشنطن أن الجيش الأميركي قد نشر شبكات دفاع عديدة في هذا الإطار يمكنها التصدي لعدد كبير من الصواريخ الإيرانية التي قد تستهدف مواقع حساسة في العراق والكويت وقطر والبحرين، حيث توجد معسكرات الجيش الأميركي. كما صرح كبار القادة الأميركيين وبينهم وزير الدفاع روبرت غيتس ونائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، أكثر من مرة، عن رغبتهم في نشر منظومات دفاع أو درع صاروخية ضخمة في منطقة الخليج والعراق على المدى المنظور.
ويلفت الخبراء إلى أن سلاح الجو المتاح للولايات المتحدة سيتكفل برصد منصات الصواريخ الإيرانية والتعامل معها على نحو سريع، ويذكر الخبراء الإستراتيجيون هنا بأنظمة الحرب التكنولوجية المتطورة التي جعلت الجيش العراقي أكثر من مرة، يعيش حالة من العماء الإستراتيجي بعد تعطيل ما يمتلكه العراقيون من أنظمة رادار روسية وبالتالي صعوبة توجيه الصواريخ العراقية أو مثيلاتها عند إيران، بدقة نحو أهدافها.
إيران تحقق أحلام أميركا
النقطة الأساسية في كل هذا الجدل، أن أي محاولة من إيران للتحكم في المضيق، ستتيح لواشنطن إقامة نظام حماية جديدا بالكامل ولن يكون مجرد خطة طوارئ بل وضعا دوليا جديدا في الخليج تحرم فيه إيران من حرية الحركة البحرية فترة طويلة، لمنعها في المستقبل من تنفيذ أي تهديد مماثل.
وإقامة وضع جديد كهذا بتأييد كل البلدان التي تخشى على أمن الطاقة، سيمثل حلما أميركيا بهيمنة أكبر على مسارات النفط الكبرى في العالم، وإيران تدرك قبل أي طرف آخر، أنها ستسهل تحقيق الحلم الأميركي هذا بمحاولتها عرقلة الملاحة في مضيق هرمز.
هل هناك أحلام أخرى؟
لنقم بإعادة طرح السؤال على نحو مغاير... لو فرضنا أن إيران قادرة على إغلاق مضيق هرمز ووقف صادرات النفط، فإن علينا أن نتذكر وجود احتياطات إستراتيجية لدى المستهلكين الكبار تتيح لهم الصمود فترة ليست بالقصيرة إضافة إلى وجود بدائل لمنافذ التصدير مثل البحرين الأحمر والمتوسط، ولكن كم من الممكن أن يصمد الاقتصاد الإيراني المعتمد على النفط بنسبة لا تقل عن 85 في المئة؟
ويطرح المراقبون هذا السؤال وسط أزمات اقتصادية خانقة تواجه طهران ومشاكل تأمين الطاقة التي تفاقمت في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، حتى اضطرته إلى العمل بجدول القطع المبرمج للغاز والكهرباء في المدن الإيرانية الكبرى، إلى جانب أزمة الحكومة في تأمين كميات وقود السيارات العادي، إذ تضطر إيران اليوم لاستيراد ما قيمته 6 مليارات دولار من الوقود سنويا، لعجز مصافيها القديمة والمتهالكة، عن سد حاجة السوق المحلية.
لذلك فإن محاولة طهران عرقلة الملاحة في الخليج، سوف تمثل تشديدا للحصار الاقتصادي المفروض سلفا ضد إيران نفسها، الأمر الذي يعني أن القيادة الإيرانية سوف تبادر بنفسها إلى إضعاف اقتصادها الوطني، كي تحقق رغبة أميركية أخرى في تحجيم القوة الإيرانية. جميع هذه الأسئلة تكشف لنا عن طبيعة الخيارات المرة التي تواجه الجمهورية الإسلامية في عصر الرئيس غير المحظوظ أبدا، أحمدي نجاد، ما يجعل طهران مترددة بين تبني سياسة الانتحار وخيار التراجعات والتنازلات التي ستكون لها بداية مجردة عن الضمانات، من دون أن تحظى بسقف أو نهاية واضحة.