البعد المتوسطي للأمن الجزائري
اسم الكتاب:البعد المتوسطي للأمن الجزائري، الجزائر، أوروبا والحلف الأطلسي
المؤلف:عبد النور بن عنتر.
الناشر:الجزائر، المكتبة العصرية للطباعة و النشر
يرصد هذا الكتاب أهم معطيات أمن الجزائر القومي في بعده الخارجي، ويحلل الخيارات الإستراتيجية المتاحة لهذا البلد في مرحلة العولمة، وعالم ما بعد الحادي عشر من أيلول، والحرب على الإرهاب، والحرب الاستباقية، ويلاحظ التحولات في مفهوم الأمن، وعلاقته بالأوبئة والمجاعة والبطالة والجريمة والصراع الاجتماعي، والقمع السياسي، والهجرة.
مفهوم الأمن في زمن العولمة
يعني الأمن القومي قدرة الدول على الحفاظ على هويتها المستقلة ووحدتها الوظيفية، ثم وُسّع مفهوم الأمن ليشمل القيم والوطنية وسلامة السكان، والرفاه الاقتصادي والمعيشي، ويجد آخرون مفهوم الأمن القومي في حماية سيادة الدولة وحدودها ضد أي تهديد عسكري خارجي.
وقد بدأ مفهوم الأمن القومي يتسع ويأخذ أبعاداً وجوانب كثيرة ومعقدة، مثل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعوامل الثقافية والعرقية؛ لأنها تتحكم في العلاقة بين المجتمعات، وتشكل أحياناً مصدر تهديد لها.
وقد بدأت تهديدات جديدة عدة ومعقدة تواجه الأمن القومي منذ نهاية الحرب الباردة غيّرت كثيراً في مفهومة وأبعاده، وبدأت تظهر بقوة مصطلحات ومفاهيم مثل الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، ذلك أن المجتمعات مع قضايا الهجرة والعولمة والاتصالات بدأت تواجه تهديداً في هويتها وبقائها لا يقل خطورة عن التهديد الذي تواجهه الدولة، وإذا كان التهديد ضد أمن الشعوب، والأمم لم يعد يأتي من القوات المسلحة للدول، وإنما من الركود الاقتصادي والاضطهاد السياسي،وندرة الموارد، والصراع العرقي والثقافي، والإرهاب والأمراض والأوبئة، والتلوث، فإن مفهوم الأمن وأهدافه ومجالاته تغيّرت تغيّراً كبيراً، فلا معنى لانتفاء تهديد الدول إذا كان أفرادها مهددون.
وهكذا فقد أصبح البشر هدفاً وموضوعاً للأمن؛ فالعالم بدأ يواجه تحديات مثل الصراعات الداخلية الإثنية مما يصعب مواجهته بالقوة العسكرية، وتشكل الأوبئة (مثل الإيدز وإنفلونزا الطيور) مع اتساع نطاق الاتصال والسفر تهديداً مرعباً قد يضر بالدول والمجتمعات أكثر من الحروب والتهديد العسكري.
وقد أدرج تقرير التنمية البشرية عام 1994 لأول مرة أنماطاً جديدة من التهديدات، مثل الإيدز والمخدرات والإرهاب الدولي والتلوّث البيئي، وربما يكون البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أول من نظر لمفهوم الأمن الإنساني، وأدخله بقوة في الدراسات الأمنية الموسعة وفي الاهتمامات الدولية وتعميم استخدامه متجاوزاً بذلك المنظور التقليدي (الواقعي)، ويعد هذا التقرير مرجعية مفهومية في هذا المجال.
يقول التقرير إنه بعد خمسة عقود من ناغازاكي وهيروشيما فإننا نحتاج لانتقال عميق في التفكير من الأمن النووي إلى الأمن الإنساني، فمفهوم الأمن الذي كان يعني أمن تراب الدول ضد العدوان الخارجي أو حماية مصالحها القومية، أو الأمن الشامل ضد تهديد المحرقة النووية، وأهملت الانشغالات الشرعية للناس العاديين الذين يعني أمنهم الحماية من تهديد الأوبئة والمجاعة والبطالة والجريمة والصراع الاجتماعي والقمع السياسي والأخطار البيئية والشعور باللاأمن، وغيرها من الهموم اليومية لأغلب الناس أكثر من خشيتهم من الحروب والصراعات، وعليه فالأمن الإنساني لا يتعلق بالأسلحة وإنما بحياة الإنسان وكرامته.
وبدأ مفهوم الأمن الإنساني يأخذ مكانته في التقارير والبرامج الدولية، ويعني صون الإنسان وكرامته بتلبية احتياجاته المادية والمعنوية، وأن يكون في مأمن من الحرمان الاقتصادي وشظف العيش، وأن تضمن ممارسته لحقوقه الأساسية، وتوفير البيئة اللازمة مثل العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية المستدامة وسيادة القانون والحكم الرشيد.
وأما التهديدات ضد الأمن الإنساني فيوجزها التقرير في الفئات التالية: الأمن الاقتصادي، والغذائي، والصحي والبيئي والشخصي (الحماية من الجريمة) والاجتماعي.
إن القوة لم تعد ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعامل العسكري، بل تعدّته إلى التكنولوجيا، والتعليم والنمو الاقتصادي، والاتصالات والاعتماد المتبادل، والمعلومات، فالقوة العالمية اليوم تتأسس على مصادر هي من قبيل القوة اللينة، وكما يلاحظ (جوزيف ناي) فإن القوة أقلّ تحولية، وأقل قهرية، وأقل ملموسية، وبذلك فإن الأمن نفسه يأخذ أبعاداً مفاهيم لينة وغير ملموسة، وتكون التهديدات أيضاً لينة وغير ملموسة، ومن ذلك التطرف والإرهاب والتهريب والمخدرات والهجرة غير المشروعة والجريمة المنظمة وغسيل الأموال.
وقد حلت المعرفة محل الملكية كمعيار للقوة، وحدث انفصال نسبي بين القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، وهذا الانفصال هو ظاهرة حديثة في التاريخ، ففي الماضي القريب كانت الدول الأقوى عسكرياً هي أيضاً الأقوى اقتصادياً، بينما نلاحظ اليوم انفصالاً يظهر من خلال مثالي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا من جهة، واليابان وألمانيا من جهة أخرى، فهناك فك ارتباط للقوة على المستوى الدولي بمعنى "طلاق" بين الدبلوماسي والإستراتيجي والاقتصادي.
والعولمة لم توجد فقط اقتصاداً معولماً، بل أنشأت ديناميات تؤثر على قضايا الأمن، وبدورها بدأت دينياميات الأمن المعولم تؤثر على الاقتصاد المعولم، فبفعل العولمة فإن الأحداث تنتقل في أثرها لتشمل العالم، البورصات العالمية والمحلية على سبيل المثال.
ولا يبدو أن العولمة وحدها قادرة على وقف الصراعات العرقية كما يحدث في البلقان على سبيل المثال أو إفريقية والخليج، وتبقى دينامياتها غير متوازية، ففيما وضعت المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية قواعد ومعايير للاستجابة لتحديات العولمة بقيت المؤسسات الأمنية إلى حد كبير إقليمية وغير حيوية، باستثناء حلف الأطلسي، وهذا التفاوت مرشح للاستمرار بعض الوقت، وبالتالي فإن العالم يعيش تطوراً في الحاكمية الاقتصادية، بينما يعيش فراغاً وضعفاً في الحاكمية الأمنية، وقد ظهر فقدان التوازي هذا في مواجهة الإرهاب في بعده العالمي، ففي حين نجحت الدول في مواجهة الإرهاب في إطار ترابها الوطني فإن الإرهاب العالمي أو العابر للحدود مازال يعمل بقوة وفاعلية أكثر، ذلك أن عولمة الإرهاب ظاهرة أكثر حداثة من الظواهر المعولمة الأخرى كالاقتصاد والتهريب والجريمة والأوبئة.
عقيدة الأمن القومي الجزائري
أدى تطور مفهوم الأمن وتعقّده إلى وجود علاقة عكسية بين الإنفاق العسكري والأمن، فكلما زاد الإنفاق العسكري تصبح الدول أقلّ أمناً بسبب تراجع التنمية والنمو فيها، ذلك أن الأمن أصبح يقوم على الأفراد والمجتمعات أكثر مما يقوم على الدول.
وقد تأثرت عقيدة الأمن القومي الجزائري خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال حتى السبعينيات بمشاكل الحدود، وساهمت عوامل عديدة في تشكيلها، أهمها العامل التاريخي؛ إذ تشكل الثورة الجزائرية عاملاً أساسياً في بلورة هذه العقيدة، فغداة الاستقلال كانت الجزائر ترى نفسها قائداً لحركات التحرر الإفريقية والعالم ثالثية بعامة، هذه الشرعية الثورية التاريخية التي وُظفت داخلياً تستثمر خارجياً في بلورة العقيدة الأمنية للبلاد وإعطائها شرعية إقليمية، ومن هنا فزعامتها لمنطقة المغرب العربي قضية طبيعية من نتاج التاريخ.
وتحدد الجغرافيا والتاريخ عموماً ملامح بيئة الأمن القومي لأي بلد، وبحكم موقعها المركزي في منطقة المغرب العربي، بين جناحيه الشرقي والغربي، وتوسطها لجسمين ضخمين، الأول بحري شمالاً، وهو المتوسط، والثاني بري جنوباً، والمتمثل في الصحراء الكبرى، فإن الجزائر تقع في نقطة تقاطع إستراتيجية تجعل أمنها القومي منكشفاً على كل الجبهات، خاصة مع مساحتها الشاسعة وطول حدودها البرية والبحرية.
ومن جهة ثانية فإن الاقتصاد الجزائري يتميز بانكشاف مخيف في هذا المجال، ذلك أن حوالي ثلثي المبادلات التجارية للجزائر تتم مع الاتحاد الأوروبي، بينما لا تمثل هذه الأخيرة أي ثقل يذكر في تجارة الاتحاد الخارجية، كما أنها تعاني من عجز غذائي مزمن؛ إذ تشكل المواد الغذائية أكثر من ربع وارداتها سنوياً، وهذا ما قد يعرضها للتداعيات السياسية للاستقطاب الجغرافي لتجارتها الخارجية، كما حدث للمغرب وموريتانيا، وبشرياً فإن مفهوم أمن الجزائر القومي يجب أن يشمل أيضاً رعاياها في الخارج، إضافة إلى أنه هناك أبعاد أخرى أساسية بالنسبة لأمنها لا تقل أهمية، وهي الأبعاد المائية والبيئية.
وعلى الرغم من هذه الأهمية الإستراتيجية للدائرة المتوسطية، اهتمت الجزائر أساساً بالدوائر المغاربية العربية والإفريقية التي تعدها مترابطة وكجزء من العالم الثالث الذي تلعب فيه دوراً بارزاً، وعلى الرغم من تمتعها بشريط ساحلي يبلغ طوله ألف ومائتي كلم (على حدودها الشمالية)، ظل المتوسط لسنوات البعد الغائب في دوائر أمنها القومي، هذا ما يفسر عدم الاكتراث الإستراتيجي بالمتوسط وتهميش الجزائر لبعدها المتوسطي لعاملين أساسين:
أولهما: ثقل الماضي التاريخي (الغزوات المتتالية والاستعمار الفرنسي). وثانيهما: حجم التهديد البري على الجناح الغربي الذي أرغمها على تركيز جهودها على هذه المنطقة، وهذا ما يفسر تحركها الجيوسياسي إفريقية نظراً لأهمية البعد القاري بالنسبة للتوتر مغاربياً (قضيتي الحدود مع المغرب والصحراء المغاربية).
وبالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا وبخاصة فرنسا وإسبانيا فإن الجزائر ومستقبلها السياسي بالحكم يشكل موضع اهتمام كبير، ذلك أن استمرار الحرب الأهلية ومجيء نظام أصولي متشدد معادي للغرب محل النظام القائم يهدد أمن المتوسط برمته، مما يسب اضطراباً في الأسواق الدولية للنفط والغاز، ويؤثر بالتأكيد على المستهلك الأمريكي، ويهدد حاجيات إسبانيا، إيطاليا وفرنسا من الطاقة، وأيضا الاستثمارات الأوروبية في الجزائر.
لعبة التوازن بين المغرب والجزائر
ربما يكوّن التطور النوعي في العلاقات الجزائرية الأمريكية من أهم التغيرات الإقليمية مغاربياً، وربما لم تستوعب بعد أبعاد هذه النقلة، فالجزائر كما يلاحظ الجامعي الجزائري يحي زبير، لم تكن أبدا ذات أهمية حيوية، إستراتيجياً، اقتصادياً وسياسياً بالنسبة للمصالح الأمريكية، وتقليدياً كان لأمريكا نفوذ محدود فيها، وهذا ما يفسر جزئياً سياسة واشنطن المتقلبة خلال الصراع الأهلي الذي هزّ الجزائر منذ عام 1991.
ويوازي التحسن الكبير في العلاقات الأمريكية – الجزائرية، توطيد العلاقات الأمريكية – المغربية التقليدية، فعلى الصعيد الاقتصادي، تم توقيع اتفاق التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة، وبالتالي يكون المغرب ثالث بلد عربي يوقع مثل هذا الاتفاق بعد الأردن والبحرين، أما على الصعيد العسكري، فقد قرر جورج بوش منح المغرب صفة الحليف الإستراتيجي الأساسي للولايات المتحدة خارج الحلف الأطلسي، ليصبح بذلك خامس بلد عربي يحصل على هذه الصفة، ومع المغرب يصل عدد الدول التي تتمتع بهذا الوضع التحالفي المميز إلى (14) دولة، وبذلك تدخل واشنطن لعبة جديدة من التوازنات الإقليمية في منطقة المغرب العربي، فهي تدخل إلى منطقة النفوذ الأوروبي إستراتيجياً واقتصادياً.
إن دور الجزائر أساسي بالنسبة لواشنطن من ثلاث زوايا:
أولها: الإمكانات الاقتصادية (مواد أولية وفي مقدمتها النفط والغاز، وسوق داخلية كبيرة، وفرص استثمار) الضخمة، وبالتالي تعدد إمكانيات تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين التي تشهد تعزيزاً مستمراً، وثانيها: الاستفادة من الدبلوماسية الجزائرية لتسوية بعض النزاعات في إفريقية، مثل ما حدث في النزاع الاريتري-الأثيوبي.
وثالثها: دور الجزائر في الحرب على الإرهاب، وبخاصة في التعاون متوسطياً وفي منطقة الساحل الإفريقية.
ومن جهة أخرى فإن تطوير العلاقات الفرنسية- الجزائرية خلال السنوات الأخيرة يأتي (من المنظور الفرنسي) رد فعل على الانتشار الجيوسياسي الأمريكي في المنطقة، ويعبر عن زيادة حدة التنافس بين باريس وواشنطن في هذا الجزء من القارة الإفريقية، وبخاصة وأن الاتصالات بين باريس والجزائر المتزايدة الحجم تأخذ أبعاداً عسكرية.
ويراقب كل من المغرب وتونس التحركات الجزائرية، وبخاصة برامج التسليح وتطوير الإمكانيات العسكرية بقلق؛ لأنهما يعدان هذه التحركات تستهدفهما، على الرغم من أنها تحركات تحددها أساساً اعتبارات سياسية تتعلق بشؤون الجزائر الداخلية، وسعيها لتنويع مسارات التعاون الإقليمية والدولية، وليس في سياق التنافس مع المغرب وتونس.