الصين وأمريكا من الاقتصادي إلى العسكري
ما الذي يجري بين الولايات المتحدة والصين حاليا وإلى أين ؟.في الأسبوع الماضي طرح هذا التساؤل بشدة ،إذ شهدت العلاقات بين البلدين عدة تطورات لافتة في مجالات متعددة ،تشير في مجموعها إلى دخول البلدان مرحلة صراع أكثر وضوحا أو أنهما دخلتا مرحلة الصراع المباشر.الحدث الأول كان اقتصاديا ،أذ ألمحت الصين إلى قلقها على استثماراتها داخل الولايات المتحدة ،أو بالدقة على أموالها التي كانت تمول بها طوال السنوات السابقة الحكومة الفيدرالية الأمريكية من خلال سندات وأذون الخزانة ،ضمن الدورة التي عاش عليها الاقتصاد الأمريكي ما قبل الأزمة الاقتصادية الحالية،إذ كانت الصين واليابان (وغيرهما) من يمول العجز المتنامي في الميزانية الأمريكية في مقابل استمرار السوق الأمريكي مفتوحا للاستيراد والاستهلاك لمنتجات تلك البلاد ،وهو ما جعل الاقتصاد الأمريكي متبادلا لعوامل التبعية مع عدة اقتصادات خارجية أخرى أهمها اقتصادات جنوب شرق آسيا .وإذ أجابت الولايات المتحدة على القلق الصيني بإعلان من أوباما بطمأنة الصين على "أموالها" ،فإن أسباب القلق الصيني تظل مؤشرا على تقييم الصين للعلاقات الاقتصادية بين البلدين والمخاطر الناجمة عن الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على العلاقات السياسية بين البلدين ،في مجال "الثقة".
والحدث الثاني ،هو ما جرى في بحر الصين الجنوبي ،إذ تعرضت زوارق حربية صينية لإحدى السفن الحربية الأمريكية وأجبرتها على التراجع ،متهمة إياها بالتجسس على قاعدة بحرية صينية .وهو تطور لافت ليس في جدته وإنما في تكراره في الفترة الأخيرة ولطبيعة ما يتأسس عليه من صراع حول منطقة جغرافية ثابتة . سبب أهمية الحدث ودلالاته ،ليست في وصول البلدان إلى المواجهة في حادث ذي طبيعة عسكرية ،إذ سبق وأن حدث صدام "عسكري " بين البلدين في عام 2001 ،حين تواجهت طائرة تجسس أمريكية مع طائرات صينية فوق ذات المنطقة (بحر الصين الجنوبي) وحينها اضطرت الولايات المتحدة لتقديم اعتذار رسمي للصين في مقابل تصرف صيني أصر على "إذلال" سمعة الولايات المتحدة تمثل في إعادة الطائرة الأمريكية "مشحونة" لا محلقة في السماء.الأمر مختلف الآن ،إذ الحدث يتعلق بتحديد النفوذ في تلك المنطقة البحرية ،التي تعلن الصين أنها تمثل جزءا من مياهها الإقليمية وجزءا من سيادتها الوطنية ومصالحها الإستراتيجية،بينما تقول الولايات المتحدة إنها مياه دولية ،وهو ما فسر بأنه محاولة منها لمنع الصين من كسب مزيد من القوة والنفوذ في الإقليم على حساب نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من خلال السيطرة العسكرية على هذا البحر .هنا يجري الصراع على منطقة ثابتة بينما حادث الطائرة كان أمرا يسهل التخلص من آثاره باعتباره حدثا عارضا . وفي ذلك نحن أمام مشهد مواجهة تتعمد فيه واشنطن انتهاك المجال البحري الصيني لتوجيه رسالة واضحة بأنها ستمضي قدماً في خطتها لفرض السيطرة البحرية على البحار والممرات البحرية الحيوية في شرق وجنوب شرق آسيا.
وفي المقابل وفي الطرف الآخر ،يبدو تعمد بكين اعتراض السفينة الأميركية –وعدم ترك الحادث يمر كغيره –بمثابة توجيه رسالة محددة مضادة لواشنطن بأن بكين لن تسمح بأي انتهاك أميركي لسيادتها البرية والبحرية والجوية ،وربما هو رسالة بأن بكين مصممة على توسيع دائرة سيطرتها ونفوذها في الإقليم في ضوء التغييرات الحادثة في موازين القوى على الصعيد الدولي .ومما يزيد من الدلالات ويجعلها بالغة الأهمية ،ما تسرب من اعتزام البنتاجون إرسال إحدى المدمرات الأميركية إلى المنطقة كإجراء تحوطي أو ردعي أو تصعيدي ضد الصين،وهو ما يمثل تطورا لافتا نحو تصعيد عسكري في المنطقة. وفي كل الأحوال نحن أمام "منطقة" ثابتة ومحددة للنزاع تتطلب استخدام مختلف الوسائل التفاوضية والعسكرية ،بين بلدان يتواجهان بشكل مباشر .
والحدث الثالث ،هو ما جرى على حدود الصين من اقتراب حد المواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية من جهة ،وكوريا الشمالية الحليف الأهم للصين في تلك المنطقة ،من جهة أخرى .لقد شهدت العلاقات بين الطرفين حالة من التصعيد دفع الكثيرين إلى الإعراب عن الخشية من اندلاع حرب فعلية . كان الطرف الأمريكي -الكوري الجنوبي قرر إجراء مناورات مشتركة هي الأهم والأوسع بين الطرفين منذ وقت طويل اعتبرتها كوريا الشمالية غطاء لاحتمالات شن هجوم مباغت عليها.وفي المقابل جاء إعلان كوريا الشمالية عن إطلاق قمر صناعي كوري شمالي هو الإول من نوعه ،بمثابة محرك آخر للحدث العسكري ،إذ فسر الأمر أمريكيا وكوريا –ومن اليابان أيضا –على أنه تجربة لصاروخ بعيد المدى قادر على الوصول إلى الأراضي الأمريكية .بدا الأمر وكأن الأوضاع تسير نحو المواجهة العسكرية ،ومايزال ،وهنا طار رئيس وزراء كوريا الشمالية إلى العاصمة الصينية –وهي البلد الوحيد المفتوح أمام حركة كوريا الشمالية –لحضور احتفال بذكرى مرور 60 عاما على العلاقات الكورية (الشمالية) مع الصين ،التي أعلنت هي بدورها عن القلق ،مما يجري هناك على حدودها الجغرافية والسياسية ،خاصة وأن الأزمة الكورية لم تعد تتوقف إلا لتبدأ من جديد ،وفي كل مرة يتصاعد التوتر العسكري عن ما سبق في الأزمة السابقة.
ما الذي يجري بين الصين وأمريكا ؟ هل نحن أمام تغيير في الرؤية والاستراتيجية من كلا البلدين تجاه الأخرى ،جراء تغير عوامل القوة والضعف الحادثة على الصعد الاقتصادية والعسكرية ؟ وهل نحن أمام تحول في استراتيجية كلا البلدين بالتحول إلى المواجهة المعلنة بعد أن كان مثل هذا الاحتمال مجرد تكهن أو توقع ؟وما هي ملفات الصراع الحالية؟
ملفات معقدة
الأمر اللافت في ما يجري الآن ،هو أن هذا الميل إلى التصعيد في القضايا الثلاث ،قد جرى بعد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى الصين ،التي بدلا من أن تكون بداية جديدة مبشرة في العلاقات أعقبها هذه التوترات ،وهو ما أثار حوارا حول توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة -إذ هي الزيارة واللقاء المباشر الرسمي الأول بين القيادة الصينية والإدارة الجديدة - كما هو أعاد طرح الأبعاد الاستراتيجية الأمريكية والصينية في حالة الصراع الجارية ،أو هو ما رفع حالة المواجهة التكتيكية في تطوراتها الاقتصادية والعسكرية إلى درجة التحرك الإستراتيجي باعتبارها محاولة استكشافية عامة بين الطرفين.الملفات في الخلاف أو الصراع الصيني الأمريكي متكاثرة ومعقدة في مجالاتها واتجاهاتها حيث يمكن القول إنها خلافات تجمع بين ما هو سياسي واقتصادي وعسكري وأنها ذات طابع إقليمي ودولي في الآن ذاته .هناك تضغط بها واشنطن ،منها أوضاع الأقليات الصينية وتحديداً التوترات البوذية في إقليم التبت التي تتراوح أهدافها بين الانفصال والحكم الذاتي،وهو ملف تتخطى آثاره تفكيك الصين سياسيا ،إذ هو انتزاع لمنطقة تنبع من هضبتها 8 أنهار هي الأكبر في آسيا كلها. ومنها ملفات العلاقات بين الصين ومحيطها إذ تضغط واشنطن بملفات تايوان واليابان والهند وكوريا الحنوبية .وهناك ملفات تتعلق بالمطالب الأمريكية من الصين ،منها طلب الولايات المتحدة من الصين دعمها في إدارة أزمات منطقة شبه القارة الهندية وتحديداً في أفغانستان وفي مناطق شمال شرق الهند التي تزايدت فيها العمليات العسكرية المسلحة للحركات الشيوعية الماوية التي تدعمها بكين.وهناك مطالب أمريكية من الصين تتعلق بطلب دعمها لمواقف واشنطن في ملفات آسيا الوسطى وملف منظمة تعاون شنغهاي –ودور إيران وروسيا فيها- ،وجميعها ملفات بدا أن الصين لم تقدم أية تنازلات بشأن ما هو مضغوط به عليها ولا بشأن الملفات التي طلب منها دعم مواقف واشنطن فيها ،فكانت التوترات الحادثة في داخل الصين وفي محيطها ،بمثابة الرد الأمريكي على نتائج زيارة كلينتون .
وهنا جاءت التطورات الثلاثة الأخيرة ،لتكشف أن زيارة كلينتون حققت فشلا في كثير من الملفات ،وأن الطريق بات مفتوحا أكثر بين البلدين إلى التصعيد ،خاصة إذا أضفنا إلى ما سبق، ملفات إفريقيا –وخاصة السودان- التي تشير وقائعها إلى تصاعد حدة المواقف بين البلدين بشأنها ،بما يخرج العلاقات إلى حالة المواجهة بطريقة أو بأخرى .
الوضع الإستراتيجي
التطورات الثلاثة وتعقد الملفات بين البلدين ،تدفع إلى النظر في واقع إستراتيجيات الصراع الجارية بين البلدين ،إذ هذه الأحداث ذات دلالات استراتيجية ،وليست مجرد تحركات وتوترات جزئية .من جانب الولايات المتحدة ،فإن مراكز الدراسات المهتمة بالشأن الصيني وآسيا،تنبه منذ فترة إلى ما يطلق عليه الخطر الصيني ،وتقدم الدراسات حول كيفية المواجهة لاحتواء هذا الخطر ،باستخدام الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية وبما في ذلك الوسائل الأمنية - العسكرية.وهو ما تلخصه التطورات الجارية هذا الأسبوع تحديدا .
ومن يتابع إستراتيجية الاحتواء الأمريكية ،يجدها مجسدة في تطويق الصين من الغرب ،إذ احتلت القوات الأمريكية أفغانستان وصارت موجودة في قواعد ثابتة في باكستان ،كما الولايات المتحدة أقرب إلى نمط من "التحالف العسكري ، مع الهند من خلال المعاهدات والاتفاقات النووية التي جرى التوقيع عليها مؤخرا .كما تلك الإستراتيجية جرى تطبيقها في محاصرة الصين من الشرق من خلال المعاهدات والتحالفات العسكرية –والوجود العسكري المباشر في بعض القواعد - مع اليابان وكوريا الجنوبية ،فضلا عن تايوان .كما هذه الإستراتيجية مطبقة أيضا في الجنوب الشرقي للصين ،إذ عقدت الولايات المتحدة اتفاقات وتحالفات عسكرية - أمنية مع كل من فيتنام والفلبين وإندونيسيا وأستراليا، إضافة إلى سيطرة البحرية الأمريكية على ممر ملقة البحري الذي يحكم حركة الملاحة في المنطقة.
وبمعنى آخر ،فإن الولايات المتحدة تعتمد استراتيجية إحاطة الصين بالأعداء , وتحاول جرها إلى صراعات في مختلف دول العالم ,فهي استخدمت أوراق الصراع الهندي – الصيني , والياباني – الصيني , وكذا الكوري الجنوبي مع الصين , إضافة ورقة تايوان ,إضافة إلى استثمارها التوترات العرقية والدينية والثقافية والحضارية داخل الصين ذاتها .
غير أن المتابع يلحظ أن الصين حققت نجاحات بارزة في كل ذلك ،وربما لذلك تحولت الولايات المتحدة نحو المواجهة المباشرة .لقد عملت الولايات المتحدة على الاقتراب من الهند , وتطوير قدرتها على نحو يدفعها للصراع مع الصين على خلفية الخلاف التاريخي بين البلدين , غير أن الصين سارعت إلى توثيق علاقاتها مع الهند هي الأخرى . وحاولت الولايات المتحدة إعادة بعث العسكرية اليابانية لمواجهة الصين , إلا أن الصين نجحت حتى الآن في إبطاء الخطوات اليابانية في هذا الاتجاه , حتى جاءت الأزمة الاقتصادية التي أصابت اليابان في العمق – بحكم ارتباط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي – لتضعف الطموحات اليابانية . وحاولت الولايات المتحدة تطوير الصراع بين الصين و تايوان , عبر صفقات السلاح لتايوان , غير أن الصين نجحت في تطوير علاقاتها مع تايوان , خاصة في الفترة الأخيرة وعلى نحو غير مسبوق . وفي المقابل , طورت الصين علاقاتها مع كوريا الجنوبية , واستخدمت أوراق الصراع بين كوريا الشمالية وكل من الولايات المتحدة و اليابان وكوريا الجنوبية ،لتحقيق ضغط مقابل على واشنطن وحلفائها في المنطقة ،بما جعل الجميع يلجأ إليها للتدخل لدى كوريا الشمالية عبر المفاوضات السداسية التي تعقد على الأرض الصينية .
والبادي أن الصين ما تزال على رؤيتها الإستراتيجية القائلة بعدم الدخول في صراعات , و الالتفات بالدرجة الأولى نحو إحراز التقدم الاقتصادي والتقني المضطرد , مع عمل دؤوب على إخماد التوترات وعدم إيصالها إلى حد التفجر سواء في الإقليم الآسيوي أو في المناطق الأخرى من العالم التي توجد للصين فيها مصالح واستثمارات .
الصين والأطلنطي
يبدو سبب الصراع مفهوما في جانبه العام , إذ النمو الاقتصادي و العسكري و السياسي الصيني فاق كل توقع , وأصبح في طريقه لإحداث انقلاب جذري في موازين القوى في العالم , تنزل فيه الولايات المتحدة ليس فقط من حالة " الانفراد " بالسيطرة على العالم , بل إلى دولة تالية للصين في عوامل القوة الاقتصادية .
لكن السؤال الآن ،هو هل تصعد الولايات المتحدة من التوتر وتدفعه في مختلف المجالات –بما فيها العسكرية-لتعميق حالة التخويف من الصين في محيطها الجغرافي ،لتهيئة الأجواء (وربما للضغط على الحلفاء ذاتهم) تمهيدا لإقحام حلف الأطلنطي في المواجهة ،بحكم ما بات يتردد بصوت خافت الآن عن ضرورة انضمام كل من اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية للحلف ؟