الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم القيامة، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ .
عباد الله، جاء في صحيح مسلم عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتاه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ وكان لا يجد على ذلك السؤال جوابا لأن المسؤول عنه غير معروف في أهل اليمن، فلم يكن بذي جاه ولا مال ولا رياسة، فقد طلبه في حياة رسول الله فلم يقدر عليه، وطلبه في عهد أبي بكر فلم يقدر عليه، واستمر حتى مضى شطر من إمارته ، وقد مكث يسأل الناس عن أويس القرني عشر سنين لم يكلّ ولم يمل فيها.
وفي الحج سنة ثلاث وعشرين وكان عمر بن الخطاب في الحجيج في أواخر خلافته وقبيل استشهاده بأيام، ولا يزال شغله الشاغل البحث عن ذلك الرجل من رعيته يريد مقابلته. فلما أعيته الحيل ولم يجد المطلوب صعد عمر جبل أبا قبيس في جمع من الحجيج وأطل على الحجيج، ونادى بأعلى صوته: يا أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟ فقام شيخ من قرن فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد أكثرت السؤال عن أويس هذا، وما فينا أحد اسمه أويس إلا ابن أخ لي يقال له: أويس، فأنا عمّه، إنك تسأل عن رجل وضيع الشأن، ليس مثلك يسأل عنه يا أمير المؤمنين وهو حقير بين أظهرنا، خامل الذكر، وأقل مالا، وأوهن أمرا من أن يرفع إليك ذكره. قال: يا شيخ، وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟ أهو معنا بالحرم؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، هو معنا في الحرم غير أنه في أراك عرفة يرعى إبلا لنا.
فركب عمر بن الخطاب على حمار له، وخرج من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة، ثم جعل يتخلل الشجر ويطلبه، فإذا برجل في طمرين من صوف أبيض قد صفّ قدميه يصلي إلى الشجرة وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده، وألقى يديه على صدره والإبل حوله ترعى. فلما سمع أويس حسه أوجز في صلاته ثم تشهد وسلم وتقدما إليه فسلما عليه وردّ عليهما التحية بأحسن منها، فقال عمر : من أنت؟ قال: راعي إبل وأجير للقوم، فقال عمر: ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا عبد الله وابن أمته، فقالا: قد علمنا أن كل من في السموات والأرض عبيد الله، وإني أقسم عليك إلا أخبرتني باسمك الذي سمتك به أمك، قال: يا هذا، ما تريد مني؟ أنا أويس بن عبد الله، فقال عمر : الله أكبر، يجب أن توضح عن شقّك الأيسر، قال: وما حاجتك إلى ذلك؟ فقال له: إن رسول الله وصفك وقد وجدت الصفة كما خبرني، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، وأنا أحب أن أنظر إلى ذلك، فأوضح له ذلك عن شقه الأيسر.
فلما نظر عمر إلى اللمعة البيضاء ابتدر إليه وقال: يا أويس، إن رسول الله أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لي، فاستغفر لي فقد خبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر. فبكى أويس بكاء شديدا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري، فقال: إنا قد تيقنّا أنك هو، فادع الله لي ـ رحمك الله ـ بدعوة وأنت محسن. فقال أويس: ما أخصّ باستغفار نفسي، ولا أحد من ولد آدم، ولكن من أنت يرحمك الله؟ فإني قد خبرتك وشهرت لك أمري، ولم أحبّ أن يعلم بمكاني أحد من الناس، فقال: عمر بن الخطاب، فوثب أويس فرحا مستبشرا فعانقه وسلم عليه ورحب به، قال أويس: ومثلي يستغفر لمثلك؟! فقال: نعم، فاستغفر له.
فقال عمر : مكانك حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي، فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غدا. فقال: يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بيني وبينك، ما أصنع بالنفقة؟ وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى عليَّ إزارا من صوف ورداء من صوف؟! متى أراني أخلِفهما؟! أما ترى نعليَّ مخصوفتين؟! متى تُراني أبليهما؟! ومعي أربعة دراهم أخذت من رعايتي متى تُراني آكلها؟! يا أمير المؤمنين، إن بين يدي عقبة لا يقطعها إلا كل مخفّ مهزول، فأخف ـ يرحمك الله ـ يا أبا حفص، إن الدنيا غرارة غدارة، زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مدّ عنقه إلى غد، ومن مدّ عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غدا من مجاورة الجبار.
فلما سمع عمر كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقر لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها. فقال له عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر ، فسأله عن أويس، قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل))، فأتى أويسا فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه.
عبد الله، لقد نال أُوَيس القَرَني هذه المنزلة العظيمة بسبب برّه لأمه، أخبر النبي بنعته ووصفه وخبره، وحثَّ الفاروقَ المبشَّرَ بالجنة أن يطلب منه أن يستغفر له إن هو أدركه. عمر أفضل من أُوَيس القَرَني بلا خلاف، ويطلب من أُوَيس القَرَني أن يستغفر له! فرضي الله عن عمر، ورضي الله عن أُوَيس، وما أعظم برّ الوالدين!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج))، فوصف أبو هريرة لصفة رسول الله أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، ((فقالت: يا جُرَيج، أنا أمك كلّمني، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات))، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن)).
تأمّلوا رحمكم الله؛ جُرَيج رجل عابد تقي، دعته أمه ولم يكن في لهو بل كان في صلاة وعبادة، فلم يجبها حتى غضبت عليه ودعت عليه بهذه الدعوة: أن يرى وجوه المُومِسَات أي: الزَّوَانِي، فجاءه البلاء حينئذ.
حسده بنو إسرائيل وكادوا به ليصرفوه عما هو عليه، ولولا أن ثبته الله لضل، يقول النبي : ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم))، قال: ((فتعرضت له فلم يلتفت إليها))، وهذا من البلاء العظيم أيها الناس، امرأة ذات جمال تتعرض لشاب في خلوة ثم لا يبالي بها، ماذا صنعت هذه المرأة بنفسها؟ يقول : ((فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه)). استجاب الله دعوة أمه، ونزلت عليه العقوبة وهو من أولياء الله الصالحين العابدين، هُدِمَت صومَعَتُه، وأُخرِج منها، وسبّوه، قالوا له: أنت مُراءٍ، أنت كذّاب مخادع، تدّعي التعبّد وأنت زانٍ كذّاب، كل ذلك وهو لا يدري ما الذي يقولون، هُدِم بيتُه، واتُّهِم في عِرْضه بدعوة واحدة.
ولكن الله تعالى رحيم بعباده، فقد جعل لهذا العبد الصالح مخرجًا من هذا البلاء، يقول النبي : ((فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
والوالد كلمة جامعة تعني مَن وَلَدك، فتشمل الآباء والأمهات، وهذا الحديث فيه ترغيب وترهيب، ترغيب في بر الوالدين حتى يتقي العبد دعوة والديه عليه، فدعاؤهما أو أحدهما عليه يُوبِقُ دنياه وأخراه، وترهيب من دعوة الأب أو الأم على الأبناء أو البنات، وقد قُرِنت في هذا الحديث بدعوة المظلوم التي استقر عند الناس الوَجَلُ منها والخوف، فكيف إذا كان المظلوم هو الأب أو الأم والظالم لهما هو ابنهما لكونه قصَّرَ في حقهما ولم يستجب لأمر الله تعالى في التلطّف معهما ومراعاة حقوقهما؟!
قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . لقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، وهذا تأكيد منه على التزام أمرهما والإحسان إليهما، وقد أكده الله تعالى في آية أخرى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ .
فاتقوا الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ في آبائكم وأمهاتكم، واتقوا دعواتهم عليكم ببرهم والإحسان إليهم.
وأنتم أيها الآباء والأمهات، ارفقوا بأولادكم، واصبروا عليهم، ولا تدعوا عليهم، فقد قال النبي : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم))، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مُسْتَجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)).
عباد الله، فلنتق الله في آبائنا وأمهاتنا، ولنطع الله فيهما كما أمرنا الله ورسوله .
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا ، وقال : ((من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على خير خلقك وأفضل رسلك سيدنا ونبينا محمد، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب نبيك أجمعين، وزوجاته أمهات المؤمنين, اللهم ارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان يذكر فيه اسمك...