المناهج و الطرائق الإستراتيجية.
في طرحنا أو سؤالنا عن المناهج
المستخدمة في العلوم الإستراتيجية،نكون قد وصلنا إلى موضوع بالغ الأهمية يتعلق
بهذه العلوم. فعلم الإستراتيجية كما الفروع العلمية الأخرى لديه أصول معرفية أو
إبستمولوجية،ولديه أيضا منهجه أو طريقته. ومن الإشكاليات المطروحة في هذا الشأن
أمام الكتاب الإستراتيجيين أنهم لا يمتلكون تكوينا أو معرفة فلسفية أو أكاديمية
تسمح لهم بإجراءات مقاربات معينة في الأفكار والمواضيع التي يطرحونها.
Clausewitz أحد كبار الكتاب الإستراتيجيين،كان قد درس جيدا الفيلسوف الألماني
الشهير فيخته لأنه وعى مبكرا على أهمية التكوين الفلسفي للكاتب الإستراتيجي.مع ذلك
يرى بعض مؤرخي الإستراتيجية أنه لم يصل إلى المرحلة التي تقدم فكرا نقديا،بل كان
لديه كتابات عامة. ويقول
"ماكس فيبر" في الحديث عن الإستراتيجيين:"
معظمهم فهم هذا الحقل العلمي أو أدركه كمعرفة موضوعية مشيدة على قواعد شاملة
وعالمية،ولكن علم الإستراتيجية،في الغالب، ليس إلا ترجمة لتجربة تاريخية محدودة
ومحلية"
.
أيضا الإستراتيجي الشهير
Mahanاستبعد في
دراساته أية نظرية شاملة للقوة البحرية انطلاقا من دراسة تاريخ بحري واحد لأوربا
الحديثة. ونذكر هنا أنه في القرن التسع عشر،دراسة التاريخ كانت المصدر المفضل، إذا
لم نقل الوحيد،من أجل دراسة الحرب. وقد ذكر نابليون هذا الموضوع أكثر من مرة
عندما
قال :" إذا أردت القيام بحرب هجومية مثل الإسكندر،هانيبال،القيصر، أو غيرهم،
اقرأ،ثم أعد قراءة التاريخ فيما يتعلق بالثلاث والثمانين حملة قاموا بها، كن مثلهم
أو قلدهم،وهذه هي الوسيلة الوحيدة لتصبح قائدا كبيرا".
( من كتاب ملاحظات
نابليون الأول، الجزء السادس، الصفحة 179).
إن هذا المصدر التاريخي تحول بشكل
طبيعي إلى منهج، هو المنهج التاريخي والذي وصل إلى ذروته بين عامي
1880 ـ 1914، وتم
تطبيقه في كل مكان،لاسيما في الإستراتيجيات البرية والبحرية،علما أن هذا المنهج تم
الخروج عليه في العديد من الحالات في فرنسا وألمانيا، وأيضا على يد كبار مؤسسي
الإستراتيجيات البحرية وأهمهم الأمريكي
Alfred
T.Mahan و البريطاني
Philip Colomb. من جهة أخرى،كان هذا المنهج في منافسة كبيرة مع منهج آخر لا
يعتمد على التاريخ بل على "الحاضر" بمعنى أنه اعتمد على مقاربة أخرى وهي
التقدم الكبير والجذري في المجال التقني و على الثورة الصناعية. وكانت بداية
التمييز بين المنهجين مع البريطاني
Reginald
Custance Admiral_Reginaldالذي ميز بين
المنهج التاريخي و المنهج المادي في بداية القرن العشرين في كتابه "
Naval Policy" الصادر عام
1907.
أما الكتاب العسكريون في نهاية القرن
التاسع عشر،فقد فضلوا مواجهة المنهج التاريخي بمنهج آخر هو المنهج العقلاني ،والذي
وجد أصوله في المقاربة الهندسية عند التكتيكيين في العصر الحديث. من
جهتها،الجغرافية العسكرية بنت منهجها الخاص في البحث الإستراتيجي. أما بالنسبة
للمنهج العقلاني والمنهج الوضعي فهما متجاوران بشكل كبير إذا لم نقل أنهما
متماثلين في الكثير من الحالات،والتفريق أو التمييز بينهما يعود لاعتبارات
تاريخية. أما فيما يتعلق بالمنهج الفلسفي فإنه يتميز من خلال موضوع الدراسة الخاص
به أكثر مما يتميز بالطريقة،وهو ليس إلا تطبيق نوعي للمنهج العقلاني.
1ـ المنهج التاريخي.وهو الأكثر استخداما،أو على الأقل كان
كذلك حتى الثورة النووية.هذا المنهج يعتمد المقارنة و التجربة أيضا،ولكنه لا
يعتبرهما عملين إجباريين في البحث. الإستراتيجي والجنرال البروسي
Scharnhorst،في نهاية القرن الثامن عشر، فضّل العمل على أمثلة قليلة، ولكن على
أن تتم دراستها بعمق. أما الجنرال
Hubert Bonnal،في نهاية القرن التاسع عشر، وضع
منهجا يتألف أو يقوم على مثال واحد بهدف الوصول لنتائج إستراتيجية أكثر منها
تكتيكية. بشكل عام، المنهج التاريخي كان يهدف من خلال مقارنة التجارب التاريخية
المتعددة،الوصول إلى وضع قوانين أو قواعد محددة.لقد عرف هذا المنهج العديد من
الصعوبات أو عدم الوصول إلى القناعة التامة به كمنهج متكامل. من هذه الصعوبات هي
الطابع غير الكامل أو غير الأكيد للمصادر خاصة القديمة منها.
2ـ المنهج الواقعي.تحت اسم هذا المنهج تختفي الطريقة المادية
القديمة التي تتأسس على وسائل موجودة في بيئة محددة أكثر مما تتأسس على معاينة
موروثة من الماضي والتي ليس لديها الكثير لتقديمه لنا. فالكثير من الدروس التي
استفيد منها في حروب ماضية لا يمكن الاستفادة منها الآن كما لا يمكن استخدامها.ونشير
هنا أننا عندما نقول منهج "
مادي" فإن هذه التسمية لا تقتصر على جانب
مادي مطلق،لأن العوامل الإنسانية يبقى لها دور بالغ الأهمية،وأيضا استطاعة الوسائل
المادية يجب أن تترافق و تتوافق مع الطريقة التي نريد استخدام هذه الوسائل فيها.
في الواقع،المنهج الواقعي سوف يعمل على
وضع الإستراتيجيات وفق عمل وسير الوسائل الممكنة.وهو ينقسم إلى فرعين:
المنهج
الموضوعي والذي سيرتبط بقدرة الوسائل المتاحة، و المنهج الذاتي/
الشخصي المرتبط
بالمذاهب المستخدمة والتي يمكن ألا تتطابق مع القدرات القصوى للوسائل المتاحة،أو
ألا تتأقلم نهائيا معها.
3ـ المنهج العقلاني/العلمي.المنهج العقلاني أو الذي يمكن أن نسميه
بالعلمي،" يُقترَح من خلال الانطلاق من أولوية وسائل الإستراتيجية، حتى الوصول
ومن خلال البراهين،إلى القواعد التي ستتبع ومن أجل تحديد الأجزاء الأكثر أهمية و
التي يمكن استغلالها بشكل كبير"
إن الخطوات التي يتبعها هذا المنهج ليست مؤسسة على الخبرة أو التجربة ،كما في
المنهج التاريخي،وليس مؤسسة على الوسائل،كما في المنهج الواقعي،بل مؤسسة على
المنطق الخالص.
استُخدم هذا المنهج منذ زمن بعيد حيث
ظهر في البداية بشكل أو هيئة هندسية،لاسيما عند مؤسسي الفكر التكتيكي الحديث،إن
كان في الإستراتيجيات البحرية أو البرية. المارشال
Puységur استند بشكل واضح على علم الهندسة
ويقول في كتابه "فن الحرب": " قاعدة وأساس كل فن الحرب هي في
القدرة على تشكيل أنظمة جيدة للمعارك وجعلها تتحرك و تتفاعل ضمن قواعد كاملة أو
الأكثر كمالا في الحركة؛وهذا ما يمكن استخراج مبادئه من علم الهندسة".
ويبدو أن معظم ،إذا لم نقل جميع،
الكتاب الإستراتيجيين استندوا على هذه المبادئ من اجل تقديم تعريف القواعد و
الأنظمة بشكل ناجز أو كامل،و يمكن تطبيقها في جميع الظروف من غير العودة لوضع
الخصم أو اعتباراته الخاصة،أو حتى إعطاء اعتبارات خاصة للميدان.إن المنهج العقلاني
المستند إلى العلوم الهندسية تحول إلى مخططات إستراتيجية عند الكثيرين أثناء
المعارك وحروب الاستقلال.أما اليوم فقد اختفى هذا الإعجاب الكبير بهذا المنهج أو
الطريقة،مع العلم أن المنهج العلمي عرف تطورا هاما على مستوى العمليات و التكتيك.
أخيرا، ومع بداية القرن العشرين،بدأت
الكثير من الجيوش البحث عن تطبيقات أكثر خفة وسرعة.وأثناء الحرب العالمي
الثاني،وضع الأمريكيون و البريطانيون مجموعات علمية مكلفة بتحسين توظيف عمل
الرادارات والوسائل المضادة للغواصات. وقد أصبح البحث العلمي في العمليات شيئا
دارجا ومفتوحا أمام التحليلات المنهجية.
4ـ المنهج الجغرافي.استطاعت العلوم الجغرافية العسكرية أن
تؤسس منهجا تقدم و تدرج بشكل مستمر حتى أصبح"حقلا علميا" كاملا ومطلوبا
بشكل كبير وهو
"الجيوإستراتيجية". هذا المفهوم قديم جدا وأكثر
مما نعتقد،فقد ظهر مع "الجيوتكتيك"،والذي لم يعرف نفس الحظ، تحت ريشة
الجنرال الإيطالي
Giacomo Durando في عام
1846. لكن هذا المنهج لم يتأسس بشكل حقيقي إلا في نهاية
القرن التاسع عشر.وبينما المنهج التاريخي والمنهج الواقعي يهتمان كليهما
"بالأداة"،أي بالقوى المسلحة؛ إلا أن المنهج الجغرافي يهتم
"بالوسط" أو البيئة التي ستعمل فيها "الأداة".الجغرافية
العسكرية تهتم بصفات الأرض و الميدان،أما الجيوإستراتيجية فتهتم وتحلل المسافات
،وهذا عامل رئيسي في الحرب الحديثة.
5ـ المنهج الثقافي. يعتبر هذا المنهج من المناهج التي وضعت
حديثا،فمفهوم الثقافة الإستراتيجية لم يوضع ويفرض إلى مع نهاية السبعينات من القرن
العشرين. فقد استخدمه بشكل واضح أكثر من غيره البروفسور الأمريكي في العلاقات
الدولية
Jack Snyder، وفي كتاب بعنوان
The Soviet Strategic Culture والصادر في عام
1977. المنهج
الثقافي يعتمد على مجموعة من العلوم وأهمها السيكولوجية،الإتنولوجية و السيسيولوجية.
يبحث هذا المنهج عن إقامة ثقافات إستراتيجية يمكن تعريفها كالتالي:"
وهي
مجموعة من المواقف و المعتقدات المفضلة داخل معهد أو مؤسسة عسكرية،فيما يتعلق
بالهدف السياسي للحرب والطريقة الإستراتيجية و العملاتية الأكثر تأثيرا و التي
يمكن الوصول إليها".
يقصد بهذا التعريف وكما هو متعارف عليه
بين الكتاب الإستراتيجيين الفرنسيين،تحديد في أية أجواء ومناخات تجذرت المحاور
الكبرى للإستراتيجية داخل الثقافة الوطنية بشكل أساسي،لأن هذه الثقافات
الإستراتيجية الوطنية يمكن أن تترافق أو تواكب ثقافة إستراتيجية تعود لفرد أو
جماعة،حيث كل جيش يستطيع أن يقول أن له ثقافته الإستراتيجية التي يمتلكها. ففي
الولايات المتحدة الجيش يعطي مكانة خاصة للإستراتيجي
Jomini،
والقوى البحرية تعطي هذه المكانة للإستراتيجي البحري
Mahan
،أما القوى الجوية مع
Douhet وهو منظر الحرب الجوية الإيطالية.
إن مفهوم الثقافة الإستراتيجية استلهم الكثير من الثقافة السياسية التي جاء بها
الكتاب السياسيون الأمريكيون في سنوات الستينات مثل
Gabriel
Almond, Sidney Verba في كتابهما ( The Civic Culture،1963)، و Lucien
Pye في ( Political culture and Political Development ،1965).
6ـ المنهج التركيبي.هذا المنهج يتكون من مجموع المناهج
السابقة.ولكن لابد من القول هنا أنه من الصعب العثور على كتابات قديمة أو كلاسيكية
استخدمت هذه المناهج مع بعضها. وتشير بعض الدراسات التي أرخت علم الإستراتيجية على
أن الأميرال
Castex في كتابه "
نظريات إستراتيجية" اقترب كثيرا من استخدام
المنهج التركيبي. بعد الأميرال
Castex يأتي
Bernard Brodie والذي استخدم المناهج التاريخية و الواقعية معا،وخاصة في أعماله
الأولى حول الإستراتيجية البحرية،ولكنه لم يعط مساحة أو مكانة واضحة للمنهج
الجغرافي ،ولم يعرف أيضا قيمة المنهج الثقافي إلا بشكل متأخر.
7ـ المنهج الفلسفي.وهو الجزء الأرقى والأصعب في علم
الإستراتيجية.ويعتبر الصينيون أول من استخدم هذا المنهج أو الطريقة. وبينما الفكر
الاستراتيجي الغربي امتلك قاعدة تاريخية،الفكر الإستراتيجي عند الصيني
Sun Zi ومن أتى بعده كانت يرتكز على أسس فلسفية. حيث أراد الإستراتيجيون الصينيون تطبيق المنهج
الفلسفي والحكمة في مجال الحرب،كما في المجالات الأخرى من الحياة الاجتماعية
.
المنهج الفلسفي وكما يقول
Clausewitz يهتم
بجوهر الحرب، أو بجزء منها كما يقول
Corbett و
Rosinski في عملهما عن الحرب البحرية،أما
اليوم فيهتم هذا المنهج بالعلوم الإستراتيجية كعلوم معرفية،ويساند هذا المفهوم الإستراتيجي
Poirier. أما الصفة المشتركة بين هؤلاء هي ما نستطيع تسميته بالمتطلب
النظري،بمعنى الإرادة في تجاوز الأشياء كما هي،أو تجاوز الطبيعة المادي للأشياء من
أجل فهم طبيعتها الفلسفية و المعرفية،أما الهدف النهائي فهو الوصول إلى نظرية
موحدة.بالنسبة للعالم الغربي،يعتبر
Clausewitz النموذج الذي لا يمكن تجاوزه،إن
كان فيما يتعلق بعمق أفكاره أو من خلال قلقه الدائم من أجل ربط التطورات العملياتية
بالنظرية
بعد محاولة القراءة السريعة لمناهج
البحث الإستراتيجي،لابد من طرح سؤال في غاية الأهمية يتعلق بجميع هذه المناهج :
هل
يمكننا تحديد منهج واحد من بينها يكون أكثر دقة من غيره؟ المنهج التاريخيهو منهج متغير بشكل كبير،بمعنى أنه من الصعب أن يكون منهجا شاملا وقادرا بشكل دائم
على الوصول إلى الحقيقة.
والمنهج الواقعي يقدم الموضوع التقني على غيره.بمعنى
أن يبحث عن الوسائل الممكنة التي مصدرها التقدم التقني.أما
المنهج الجغرافي،فيعطي
الأولية للوسط أو البيئة.وكما رأينا ذلك مع منظري الجيوإستراتيجية في القرن
العشرين. وبالنسبة
للمنهج العقلاني ـ العلمي فإنه يهمل العوامل المادية
ويصل إلى اختزال الحرب إلى قواعد رياضية أو هندسية.بمعنى أن هذا المنهج يبحث عن
صيغة دائمة يمكن تطبيقها في جميع الظروف.
وفي
المنهج الثقافي نجد أنه
مرتبط بالبيئة الاجتماعية.وهنا يقترب كثيرا من المنهج الواقعي ليشير إلينا
بمتغيرات الإستراتيجية حسب المكان والزمان.أما
المنهج التركيبي الناتج عن
التوفيق بين العديد من المناهج،وهو بالتعريف منهج متعدد ويرتكز على إستراتيجية
متعددة الوسائل. وأخيرا
المنهج الفلسفي الذي يرتكز بشكل جوهري على
النظرية.فهو بهذه الحالة لا يستند على عامل واحد بشكل خاص ،بل يحاول فهم ظاهرة
الصراع بأقصى حد ممكن من الدقة والصرامة العلمية،ثم يضعها في بيئتها الخاصة للوصول
بالوسائل المستخدمة إلى الغايات النهائية المنشودة.
من كتاب علم الأستارتيجيه للدكتور صلاح نيًوفهل الموضوع يستحق التثبيت؟؟ لأنه مع كل مواضيعي التي تفوق ال200 موضوع مهم لم يثبت حتى موضوع واحد لي