من قصص حرب تموز 2006: الضبع دخل إلى القفص
عندما خرج حسن راكضًا من المخبأ، كانت طائرة الإستطلاع قد ﭐبتعدت نحو تلال العرقوب( ). فعل ذلك مراتٍ عديدةً، وكان واثقًا من نجاحه في خداع الطائرة المشؤومة التي تحلّق من دون طيّار، وكان يتوقع بعد المكالمة التي أجراها مع أحد قادة المقاومة أنَّ شيئًا كبيرًا سيحدث.
إلتقط سمعُهُ دويًا بعيدًا متواصلًا، كان يأتي من الشمال. ونظرًا لبُعد المسافة، وشدّة الدويّ، فإن ما يحدث هناك هو شيءٌ غير معهود في قوته. إنَّه جحيم من القصف المدفعيّ والجويّ، لم يره أحد من قبل، ولم يسمع به.
حدّث نفسه قائلًا: هل من المعقول أن يقصفوا كلّ الجسور؟!
حين وصل إلى الحفرة الكبيرة الواقعة تحت شجرة زيتون فوق إحدى تلال بلدة دبّين، وجد فيها مقاتِلَيْنِ، بادرهما إلى السؤال:
- هل لاحظتما شيئًا؟
كان أحدهما يحمل منظارًا كبيرًا، قدّمه لحسن قائلًا:
- أنظر، هناك رتل من الدبابات إلى يمين مستعمرة «المطلّة»، كان الأوّل يُدعى حسينًا، والثاني جمالًا.
إلتقط حسن المنظار، وراح يُراقب، فيما بدا جمال منشغلًا بالتقاط موجة الإذاعة الإسرائيليّة عبر جهاز راديو صغير. علا صوت المذيع باللغة العِبريَّة، فترجم كلام المراسل بجملة واحدة هي:
- «لقد أنزلوا المستوطنين إلى الملاجئ».
- هل تظنّهم سيهاجمون عبر السهل؟
سأل حسين، وهو يضع رشّاشه الأوتوماتيكيّ قرب جذع الشجرة.
ظلّ حسن صامتًا يراقب سهل الخيام، ومن ورائه مستعمرة «المطلّة»، وحين رفع المنظار عن عينيه، سأل حسينًا:
- أين العدّة؟
قفز الأخير من الحفرة الكبيرة، وخطا بضع خطوات، ثمَّ تناول من حزامه معولًا صغيرًا، وراح يحفر به الأرض. وسرعان ما سحب من بين التراب »شنطة« صغيرة، ورماها بـﭑتّجاه حسن الذي فتحها متفقّدًا محتوياتها، وقال باقتضاب:
- حسنًا، سوف أبدأ من هنا.
- إنتبه إلى «الملعونة»، قال جمال، مشيرًا بإصبعه نحو السماء.
ردَّ حسن بجديّة، وكأنَّه تلقّى نصيحة في غير محلها:
- راقبا جيدًا خطّ الحدود، يبدو أنَّهم سيعبرون قريبًا. تفقدوا هاتفكم بـﭑستمرار، لا تنسوا.
كان على حسن أن يُعيد وصل الخطوط السلكيّة التي انقطعت بفعل الغارات الجوّيّة.
وكان العدو يعلم بخطّة المقاومة الإسلاميّة التي قضت بمدّ شبكة خطوط سلكيّة تحت الأرض لحرمانه من التشويش والتنصّت، ولكنّه لم يكن يعلم شيئًا عن التجهيزات الإلكترونيّة التي أقامتها المقاومة في الأنفاق والمخابئ السرّيّة.
كان حسن يدرك أنَّ المقاومة كسبت نصف المعركة عندما أصبحت تعرف عن عدوّها أكثر ممّا يعرفه عنها، فماذا لو عرف العدوّ أن بحوزتها أسماء كبار ضبّاطه، والألوية التي يرأسونها، والمواقع التي يخدمون فيها؟!
راح يزحف بٱتّجاه شجرة العلّيق على طريق محطّة الكهرباء، وهي محطّة تقع في الطرف الشرقيّ من بلدة مرجعيون في أسفل السفح. تذكّر، وهو يختبئ تحت الشجرة من عيون «أمّ كامل»، المعلومات التي حصلَتْ عليها المقاومةُ من أحد كبار أركان الجبهة الشماليّة. لقد تخاصم العقيد أهارون مع زوجته، وكان ينام عند عشيقته في شقّة تقع بالقرب من ساحة «كريات شمونة» الرئيسيّة، وكانت المقاومة تملك إحداثيات الشقّة، إذْ حصلت عليها من مصادرها السرّيّة، فقال في نفسه: ما أغبى هذا العدو! لقد كشفنا داخله، وبات سهلًا علينا أن نُحصي أنفاسه.
خلال ساعاتٍ ثلاث، كان حسن قد أعاد وصل خطوط الشبكة في المنطقة المحدّدة، إذْ زحف سبع مرات في أماكن مكشوفة. وفي الوقت ذاته، كان يعلم أنَّ خبراء اتّصالات آخرين يعيدون وصل الخطوط في أمكنة أخرى. كانت هذه العملية تجري بشكلٍ متواصل على إيقاع الغارات والقصف المدفعيّ، وقد تفرّغ حسن كعامل اتّصالات بأمرٍ من قيادة المقاومة، فكان واحدًا من سرية كاملة، مهمّتها حراسة شبكة الهاتف، وكان يدرك الأهمّيّة الإستراتيجيّة لتلّة دبّين المشرفة على سهل الخيام، حيث يُرابط حسين وجمال وأخوة آخرون منتشرون فوق التلة المغطاة بأشجار الزيتون.
لدى بلوغه أول منزل في مرجعيون، وكان خاليًا من سكانه، دلف إلى حديقته بعد أن وجد بوابتها مفتوحة، وكانت تضمّ بضع شجيرات، تصلح للإختباء تحتها. إستلقى على التراب، وقد عزم على أخذ قسط من الراحة بعد أن شعر بتعبٍ شديدٍ.
في المساء، كان عليه العودة إلى تلة دبّين، وقد قطع المسافة بأقلّ من ساعة، على الرغم من غارات الطيران الإسرائيليّ المتلاحقة على الخيام والمنطقة المحيطة بها، ووعورة الطريق، والظلمة الحالكة.
وجد في انتظاره ثلاثة مقاتلين من وحدة الصواريخ، يعرفهم جميعًا، فضلًا عن حسين وجمال.
فور وصوله، أعطاه أحدهم وجبة معلّبات وعلبة بسكويت. كان الظلام حالكًا في تلك الليلة، وكأنَّ الفلك كان متحالفًا سرًّا مع المقاومة. أخبره الشباب بأنَّ صليات من الصواريخ البعيدة المدى أصابت بشكل متزامن كلًّا من حيفا وصفد وكفرجلعاد، فعلّق على ذلك بقوله:
- لقد كنت نائمًا حينها، ولكن ماذا عن رتل الدبّابات؟
- ما زال يُرابط في مكانه، إذ استقدموا تعزيزات إضافيّة. آخ، لو يُسمح لنا أن نلعب قليلًا بأعصابهم، لكان ذلك مسلّيًا لنا.
قال جمال ذلك، وهو يضرب كعب حذائه بعودٍ يابس.
أجابه حسن:
- لقد تسلّينا بهم كفاية عندما استطلعنا مستعمرتهم ذات ليلة. تصوّر أنَّهم أخلوها من السكان عن بكرة أبيها.
قال أحد الشباب، ويُدعى بسّامًا:
- غدًا ينتظرنا يوم حافل، أظنّهم سيعبرون قريبًا.
علّق جمال على ذلك قائلًا:
- تقول إذاعة الجيش الإسرائيليّ: إنَّ قادة ألوية المشاة ما زالوا مجتمعين مع هيئة أركان الجبهة الشماليّة.
صاح حسن، وهو يمضغ شيئًا في فمه:
- يا شباب، يُعاني مشاتهم من مشكلة كبيرة، إنَّهم يرفضون خوض العمليَّات البرّيَّة، هل سمعتهم ماذا جرى في عيتا الشعب؟
فيما كان حسن يتحدّث، أشعل أحدهم فجأةً سيجارة، ولكنَّ ردّة فعل حسين كانت سريعة، فـﭑنتزع منه سيجارته، ودسّها في التراب بقوة. تبيّن أنَّ الفاعل هو محمَّد أحد شباب الوحدة الصاروخيّة، فصاح به مؤنّبًا:
- هل أنت مجنون؟ ماذا أصابك؟!
ردَّ بعصبية:
- لقد «خرِمت»( )، هل تعرف معنى ذلك؟
- عليك أنْ تُقلع عن التدخين طوال فترة الحرب، لا تنسَ أنَّك في الجبهة الأماميَّة.
سأل الشابّ الثالث من مجموعة الصواريخ، وكان يُدعى مرتضى:
- هل يملك أحد تفاصيل عمَّا جرى في عيتا الشعب؟
أجاب حسن، وهو يواصل طعامه:
- ماذا جرى؟ لقد فرّوا مذعورين. طاردهم الشباب إلى الحدود، وقد سمعوا عويلهم. هناك تسجيل صوتيّ مع الإخوة. لقد أسمعني إيَّاه على الهاتف..
هس، إسمعوا.. هناك أصوات!
توقّف فجأةً عن الكلام والأكل، وأصاخ السمع.
حذا الآخرون حذوه، فقال، وقد تاه بصره في الظلام:
- إنّي أسمع هدير دبّابات من بعيد.
- لديّ حدس أنّهم لن يشنّوا هجومهم أثناء الليل، كما تقتضي الضرورات العسكريّة.
قال حسين هذا، ثمَّ أردف:
- لقد فعلوا ذلك في مرات سابقة.
- هل تعتقد أنَّهم سيكرّرون فعلتهم؟ سأل مرتضى، فأجاب حسين:
- لم لا؟ إنَّ غطرستهم واعتمادهم على سلاح طيرانهم يوقعانهم في الأخطاء.
إنضمّ حسن إلى الحديث قائلًا:
- لعلّهم يديرون محرّكات دبّاباتهم لتهدئة نفوسهم الخائفة. إنَّهم يعتقدون أنَّ الهدير يُبعد رجال المقاومة. إنّها حالة نفسيّة.
وأراد أن يقول المزيد، إلاَّ أنَّ الطيران الحربيَّ الإسرائيليَّ زمجر فجأةً فوق المكان، وراح يصرّ ذاك الصرير الذي تليه عادةً أصوات انفجارات وتخلّعات تملأ الآفاق.
إنبطح الشباب أرضًا، ولكنَّهم ظلّوا هادئين. لقد اعتادوا على هذه الضربات العشوائيّة المفاجئة.
بقي القصف متقطّعًا، حتَّى لاحت خيوط الفجر.
فجأةً توقّف القصف الجويّ، وسُمع هدير من الناحية الجنوبيّة.
إلتقط حسين المنظار، فهتف، وهو يشير ناحية السهل:
- إنّهم يعبرون الحدود.
نهض الشباب، ودبّت حركة مفاجئة في الموقع، فقد كان يُسْمَعُ في البعيد دويّ قذائف، وأحيانًا صليات رشّاشة متقطّعة، وكانت هذه الأصوات تأتي من ناحية القطاع الأوسط.
أصاخ حسين السمع، وهو يلتقط سماعة الهاتف.
تحدّث، وكأنه يُدلي ببلاغ هامّ:
- لقد دخل الضبع إلى القفص.
كرّر هذه المعلومة مرتين قبل أن يردّد:
- بإذن الله، بإذن الله.
سأله حسن بلهجته العسكريّة المعهودة في لحظات كهذه:
- ما هي التعليمات؟
أجابه، وهو يضع حزامًا عريضًا حول خصره، تدلّت منه قنابل يدويّة، وحربة طويلة في غمدٍ من الجلد البنّيّ:
- علينا أن ننتظر، سنضربهم في الزمان والمكان المناسبيْنِ.
علّق حسين المنظار في رقبته، وأمر قاذفي الصواريخ بالإستعداد. «تفركش» ( ) مرتضى بحجرٍ كبير، وهو يركض بٱتّجاه المكان الذي خُبّئت فيه منصّات الصواريخ، وكان عليه أن يطمئنَّ من رفيقيه بسام ومحمد على جهوزيّة سلاحهما، وأزاح الأوراق والأغصان عن المنصّات، ثمَّ فحصها للمرَّة الأخيرة.
- «سيفاجأ العدوّ حتمًا»، قال مرتضى، وهو يزيح جذعًا كبيرًا، كان يغطي المكان الذي وضعت فيه المنصّات.
ما هي إلَّا دقائق، حتَّى سقطت قذيفة دبابة على محطة مهجورة للوقود قُبالة موقعهم، فٱشتعلت النيران في المحطّة التي لم تكن على ما يبدو فارغة تمامًا من المحروقات. فجأةً، إنقطع خطّ الهاتف، وكان على حسن أن يُسرع لتفقّد الخطوط المارّة بالقرب من محطّة الوقود. إختطف شنطته الصغيرة، وقال على عجل، وهو يُعلّق في كتفه سلاحًا أوتوماتيكيًّا مع جعبة:
- سأنزل إلى المحطة.
كانت تفصل المحطّة عن تلة دبّين طريقٌ من الإسفلت. إستلقى حسن على ظهره بالقرب من شجرة زيتون صغيرة، وراح يُراقب طائرة الإستطلاع. إِنْتَظَرَ قليلًا ريثما ابتعدت، ولكنْ سقطت قذيفة دبابة على الطريق مباشرةً، تساقطت في إثرها أجزاء الحصى والإسمنت والتراب فوق المكان، وعبقت رائحة البارود، فَحَشَرَ جسمه تحت شجرة الزيتون، ولم يأتِ بحركة. صاح أحد الشباب من فوق التلة:
- حسن، هل تسمعني؟
أجاب فورًا:
- أنا بخير.
شعر بألمٍ مفاجئ في خاصرته، تبيّن أنَّه ناجم عن ﭐحتضانه بقوة لبندقيّته. في هذا الوقت، كان جمال يتابع تقارير الإذاعة الإسرائيليّة، فكلّ معلومة أو إشارة تصدر عن العدوّ يمكن الإستفادة منها، وقد بدا واضحًا إرتباك المراسلين العسكريّين من خلال التقارير التي يرسلونها.
بعد ساعة على مغادرة حسن للموقع، إشتدّ القصف على مرجعيون وتلّة دبّين، وأغار الطيران الحربيّ على الخيام مرّات عديدة، فسقطت قذائف مدفعيّة بالقرب من محطّة المحروقات المشتعلة، ولم تفارق طائرات الإستطلاع سماء المنطقة؛ لذا شعر المقاومون بخطرها أكثر من أيّ وقت، فٱستعدّوا للمعركة، غير أنَّهم أحجموا عن القيام بأيّ عمل بٱنتظار الأوامر.
تململ أفراد المجموعة، وقال مرتضى:
- بإمكاني إصابتها من هنا، لماذا التأخير؟
أجابه حسين، وهو يراقب بمنظاره:
- سوف ننتظر أوامر القيادة.
- لكن ما العمل فيما إذا بقيت الخطوط مقطوعة؟
سأل مرتضى بقلق.
- سنفوِّت علينا الفرصة إذا لم نبادر إلى ضربهم الآن. علّق بسام بلهجة تنم على ﭐحتجاج.
قال حسين، وهو يزيح المنظار عن عينيه:
- إذا بقي الهاتف صامتًا، سنتصرّف وفقًا للخطّة «ب».
حسمت هذه الكلمات الجدال، وكان معناها مفهومًا بالنسبة إلى الشباب.
في السابعة والربع تمامًا، كانت الدبابات قد وصلت إلى مشارف الدردارة( )، وكانت المسافة الفاصلة بينها وبين تلّة دبّين لا تزيد على ثلاثة أميال.
ضبط الرماة إحداثيّات صواريخهم المضادة للدروع، وﭐنتظروا أوامر حسين، فيما كان الأخير منشغلًا بمراقبة تحركات «الميركافا» عبر السهل، متوقّعًا في أيّة لحظة أن يسمع رنين الهاتف.
كانت الدقائق تمرّ بتثاقل، شعر الجميع بوطأتها.
سأل حسين محمّدًا:
- هل بإمكاننا إصابتها من هذا المكان؟
أجاب محمد، وكأنَّه كان ينتظر هذا السؤال:
- إنَّها في مرمى صواريخنا منذ أكثر من نصف ساعة، فماذا ننتظر؟
بدا حسين قلقًا، وكان يدرك الأهمّيّة التي تُعلّقها القيادة على الخطّة «أ» قبل الإنتقال إلى الخطّة «ب» القاضية بالتصرّف وفقًا للظروف.
فجأةً رنَّ جرس الهاتف.
هتف حسين قبل أن يلتقط السماعة:
- ما أروعك يا حسن!
كان على الطرف الآخر أحد قادة المقاومة.
راقب الشباب حسينًا، وهو يستمع بٱهتمام، إلى أن قال:
- حسنًا، نحن جاهزون.
أعاد السماعة قائلًا:
- إستعدوا، ستصدر الأوامر بين لحظة وأخرى. ستضربون في وقتٍ واحد. سنفاجئهم.
ما هي سوى لحظات، حتَّى رنَّ جرس الهاتف من جديد:
- لقد صدرت الأوامر.
كانت الصواريخ موجّهة نحو ثلاث دبّابات متمركزة وسط السهل، أطلقها رجال المقاومة دفعةً واحدة. وفيما كان حسين يراقب بمنظاره نتائج العملية، صاح بعد قليل:
- لقد أصبناها، أستطيع أن أحصي خمس دبابات تحترق.
يبدو أن الشباب قصفوها من تلال الخيام أيضًا.
أزاح المنظار عن عينيه، وأعطى أوامر صارمة للمجموعة بالتمركز، كلٌّ في حفرته الفردية.
تفرّق المقاومون، وما هي إلَّا لحظات، حتَّى أغارت طائرات الـ» إف – 16« على موقعهم والمنطقة المحيطة به، فألقت حمولات كبيرة من القنابل والصواريخ، أدّت إلى ﭐشتعال الحرائق وﭐنتشار سحب الدخان في كلّ مكان. تقوقع حسين على نفسه في حفرته الفرديّة، وكان قد جلب معه جهاز الهاتف الموصول بسلك طويل، وكانت الخطوط لا تزال تعمل على الرغم من تواصل القصف، وﭐمتداد الحرائق إلى أماكن كثيرة.
شيئًا فشيئًا، خفّت حدَّة القصف الجوّيّ، ولم تعد تُسْمَعُ زمجراتُ الطائرات إلّا في أوقات متباعدة.
أصاخ حسين السمع إلى هدير المروحيات القادم من جهة سهل الخيام، فكانت الرؤية بواسطة المنظار لا تسمح بٱستطلاع الموقف.
إسترخى حسين في حفرته الفرديَّة، ولكنَّه وجد نفسه فجأةً يُفكّر في حسن، والمهمّة الصعبة الموكلة إليه، فتساءل:
- هل ما زال حيًّا؟
كانت كلّ دقيقة تمرّ من دون عودته تعني الكثير بالنسبة إليه، فالعلاقة التي ربطت بينهما لم تكن علاقة عابرة، وكان حسن يريد الزواج في أواخر الصيف من زينب شقيقة حسين، وهو خرّيج المعهد الفنّيّ فرع الإتصالات، وكان قد شرع في بناء منزل في بلدته بلاط( ) على الأرض التي يملكها والداه. زينب الآن في بيروت مع باقي أفراد أسرتها، لم تترك الحرب لهما فرصة من أجل التحضير لزواجهما.
أما حسين، فقد عُرف بصلابته وقدرته على التحمل وضبط النفس؛ لذا حرصت قيادة المقاومة على تسليمه المسؤوليّة في الأماكن الحسّاسة، ولكنْ على الرغم ممَّا محضته إياه القيادة من ثقة، فقد بقي متواضعًا يحسبه من يراه عنصرًا عاديًّا، إلَّا أنَّ القلق تسرّب إليه في هذه المرَّة رغمًا عنه. فكّر في أخته زينب، وتذكّر قولها له في لحظة مغادرتهما البلدة بإلحاح منه:
- أوصيك بنفسك وبحسن، وإلّا فسوف نلتقي في الجنة.
عندما نزل حسن إلى أسفل التلّة قاصدًا محطة الوقود، إنتظر أكثر من نصف ساعة قبل أن يزحف بٱتجاهها، وكان القصف المدفعيّ قد ﭐشتدّ على أطراف الخيام ومرجعيون، فأعاد وصل الخطّ، وكان مقطوعًا في أحد الأمكنة إلى الغرب من المحطة، ولكنْ حين قرَّر العودة إلى موقعه، تعرّضت الطريقُ لقصفٍ مباشر وعنيف، كان بمعدل قذيفتين في الدقيقة.
إنتظر أكثر من ساعة، عجّت بعدها سماء المنطقة بالطيران الحربيّ وطائرات الإستطلاع، فقرّر أن يزحف بٱتّجاه أطراف مرجعيون، وحين مرّ بالقرب من جبّانة البلدة، دخل إلى زقاق فرعيّ، فوجد مجموعة من المقاتلين تنتظر تحت شرفات المنازل، وهي بكامل أسلحتها، وسرعان ما عرف قائدهم الحاجّ جوادًا، فبادره الأخيرُ حين رآه قائلًا:
- كيف ﭐستطعت الوصول إلى هنا؟ الوضع ملتهب إلى أقصى الحدود.
قال حسن، وقد بدا عليه التعب:
- لقد أعدتُ وصل الخطوط. كان لا بد من ذلك، أظنهم سيأتون عبر بلدة القليعة( )، فهل توافقني الرأي؟
- لقد فعلوا العكس تمامًا. هي خدعة قديمة. نحن نسيطر على الوضع، لا تقلق، سوف تكون المفاجأة كبيرة، ولكن ما هذه الدماء التي تسيل على وجهك؟ هل أنت مصاب؟
قال بلا مبالاة:
- أظنُّ أنَّها جروح طفيفة، ليست هي المرة الأولى، ولكن قل لي: أين أصبحت خطوطهم؟
- إنَّهم يتقدّمون على محوريْنِ.
راح الحاجّ جواد يشرح الوضع مستخدماً غصنًا يابسًا في يده:
- محور باب الثنيّة – الدردارة، ومحور الدير – التلّ – مرجعيون، لقد رصدنا دخول دبّابتين إلى البلدة.
إنتفض حسن كمن لدغته أفعى:
- كيف سمعتم بذلك؟
إبتسم الحاجّ جواد، وقال:
- إليكَ هذا القاذف الصاروخيّ، هل تستطيع ﭐستخدامه؟
أجاب، وهو يتفحّص السلاح المضادّ للدروع:
- إنّني أشمُّ رائحة مجزرة على وشك الوقوع.
لم تمضِ دقائق على وصول حسن، حتّى كانت الإشارة قد أتت بالتأهّب.
رابطت مجموعة المقاتلين عند مداخل ساحة مرجعيون الرئيسيّة، وهي ساحة إشتهرت بحجارتها الرماديّة المميّزة التي عرفها الأهالي كعلامة فارقة فيها منذ عهود الإستقلال، فهنا كانت تجري إستعراضات للجيش والكشافة في الثاني والعشرين من تشرين الثاني من كلّ عام.
ما هي إلّا لحظات، حتّى أطلّت دبابة «ميركافا» من الشارع الذي توجد فيه السراي الحكوميّ. حبس المقاتلون أنفاسهم، وﭐنتظروا أوامر الحاجّ جواد، وما إن أطلّت الدبّابة الثانية، حتَّى ﭐنهمرت القذائفُ الصاروخيّة على المدرّعتين الإسرائيليّتين، فٱحترقتا خلال ثوانٍ معدودات بمن فيهما.
تزامن هذا الهجوم مع عمليَّة ضرب الدّبابات في سهل الخيام من جهتين في وقتٍ واحد، وهي الخطة «أ» التي وضعتها قيادة المقاومة، وكانت تعتمد في نجاحها على ﭐستمرار شبكة الهاتف في العمل. هذا التناغم بين مجموعات المقاومة جعل العدو يفقد أعصابه، فقد أدرك أنَّه يواجه عدوًّا ما زال يملك حرّيّة الحركة والتنسيق بين مجموعاته المقاتلة، على الرغم من كلّ جهود الجيش الإسرائيليّ التي توخّت تقطيع أوصاله.
راحت المروحيّات تحلّق بكثافة قرب الحدود وفوق مستعمرة «المطلّة»، ولقد فرض إيقاع المعركة على العدو إعطاء الأولويّة لإخلاء جرحاه وقتلاه، وسحب ما أمكن من دبّاباته المحترقة.
رصد حسين -وهو يراقب من فوق تلّة دبّين- دبابةً مسرعة في سهل الخيام، تنفث وراءها دخانًا كثيفًا لحجب الرؤية، سارت في خطٍّ دائريّ، وغابت في وسط الدخان. بدأ الطيران الحربيّ يُحلّق على مستوى منخفض، ودخلت في الوقت ذاته قوات إضافيّة إلى السهل، وﭐنشغل العدوّ طوال ساعات بإخلاء إصاباته وآلياته.
تساءل حسين في سرّه: أين أنت يا حسن؟
لم تمضِ سوى دقائق حتَّى رنَّ جرس الهاتف. إلتقط السماعة، سمع على الخطّ صوتًا يقول له:
- مبروك، لقد هزمناهم.
قبّل السماعة، وقد ﭐغرورقت عيناه بالدموع، ثمَّ هتف كمن حصل على جائزة:
- إنَّه حسن!
ملحوظة: عنوان القصة الأصلي :عامل الهاتف"
http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=546852&cid=41&fromval=1&frid=41&seccatid=171&s1=1