جنان جمعاوي-
تقرير «راند» لمواجهة «حزب الله»: خصم صعب غير متوقع
قبل غزو أفغانستان في 2001، ومن ثم العراق في 2003، كانت الحروب التي يشنها الجيش الأميركي تقتصر، أو تكاد، على الدول العدوة. لكن، خلال السنوات الأخيرة، أجرى الجيش الأميركي تغييرات «مهمة» في «تدريباته، وطريقة تنظيمه وصيغ تجهيزه، ليتأقلم في مواجهة التهديدات غير التقليدية التي يطرحها اللاعبون غير الحكوميين». للقيام بذلك، كان لا بد على جيش الدولة الأقوى في العالم أن يدرس حرب تموز 2006، حيث عجز الجيش الإسرائيلي عن إطاحة لاعب غير حكومي بقوة «حزب الله»، الذي
«أثبت أنه خصم صعب على نحو غير متوقع»، خاصة في «دفاعه المبتكر عن جنوب لبنان».
في تقرير نشره معهد «راند» الأميركي أمس، بطلب من الجيش الأميركي وتمويله، تحت عنوان «القتال الصعب في لبنان وغزة»، قال الباحث ديفيد جونسون إنه في «حربي العراق وأفغانستان، واجه الجيش الأميركي خصوماً استخدموا أسلحة دفاعية فاعلة، مثل الأنظمة الدفاعية الجوية المحمولة (من قبل الأفراد)، وصواريخ موجهة مضادة للمدرعات». كان هذا الاستخدام واسعاً لدرجة أجبرت الجيش الأميركي على «تغيير طريقة عمله». وفي حال توسع هذا الاستخدام الفاعل للاسلحة من قبل الخصوم، أكثر فأكثر، فإن «التحديات التي يواجهها الجيش الأميركي ستتكثف على نحو راديكالي».
بتركيزه «الأوحد» على الحرب غير النظامية، قد يتعين على «القوات الأميركية المسلحة أن تُقارِب وضعاً شبيهاً بما واجهه الإسرائيليون في حرب تموز 2006». تلك هي النصيحة التي يسديها الباحث في «راند» للأميركيين، باعتبار أن «الجيش الإسرائيلي وجد نفسه آنذاك أمام حرب هجينة غير متوقعة».
و«الحرب الهجينة» بتعريف الكاتب فرانك هوفمان، في كتابه «النزاع في القرن الحادي والعشرين: صعود الحروب الهجينة»، هي «خليط من وحشية النزاع النظامي (الذي تخوضه الدول) مع أصولية الحرب غير النظامية ونَفَسها الطويل».
ويوضح جونسون أن الجيش الأميركي طلب من «راند» «التمحيص في التجارب التي واجهها الإسرائيليون في لبنان وغزة، لاستخلاص الدروس والعبر في كيفية مواجهة هذا النوع من النزاعات، ولفهم مدى اتساع قدرات العدو، التي يتعين على الجيش الأميركي أن يستعد لها وأن يواجهها».
لإعداد تقرير «القتال الصعب»، أجرى الباحث في «راند» مراجعة لما كتب عن حربي لبنان وغزة وقابل مسؤولين عسكريين إسرائيليين وأميركيين، ومدنيين يعملون في المجال الأمني، وأكاديميين ومحللين عسكريين، كذلك المسؤولين الأميركيين العسكريين في السفارة الأميركية في تل أبيب وأفراد في لبنان وصحافيين إسرائيليين وأميركيين وبريطانيين.
وقال الباحث إنه قبل العدوان على لبنان في صيف 2006، كانت قد وقعت ثلاثة أحداث «أثّرت على الإسرائيليين في توقعاتهم بشأن مستقبل الحروب»، هي حرب كوسوفو في 2009، وغزو أفغانستان في 2001، وغزو العراق في 2003. هذه الحروب الثلاث كشفت عن «ثورة في الشؤون العسكرية وخاصة في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع وشن الغارات المحددة». كل هذا، عزز لدى بعض المسؤولين العسكريين الإسرائيليين «اعتقاداً بأن الهجوم من قبيل الند للند (وخاصة الجوي منه) يعتبر وسيلة ناجعة لكسر عزيمة العدو وتحديد نتائج النزاع سلفاً»، من دون خسارة ضحايا كثر، ومن دون وقوع أضرار جانبية، تؤثر على الرأي العام، ومن دون تكلفة عالية.
إضافة إلى ذلك، كانت إسرائيل، قبل عدوانها على لبنان، مشغولة في مواجهة «النزاعات المنخفضة الحدّة» مثل الانتفاضة الثانية، التي أثّرت على ميزانيات التدريب لدى الجيش الإسرائيلي.
لكن «لسوء حظهم»، أثبتت حرب تموز 2006 للإسرائيليين أن «اتخاذ موقع الدفاع أمام قوة هجينة مسلحة بأسلحة مواجهة (مثل الهاون والصواريخ والأنظمة الدفاعية الجوية المحمولة (من قبل الأفراد)، والصواريخ الموجهة المضادة للمدرعات) يتطلّب قوات مدرّبة ومنظمة ومعدَّة لمواجهة تكتيكات المناورة وخلافه».
هكذا، كانت الحرب على لبنان في 2006 بمثابة «ناقوس الخطر»، بحسب تعبير الباحث في «راند»، الذي وصف جنوب لبنان بأنه «ينطوي على منافع كثيرة بالنسبة للمدافعين عنه، فطرقاته المعقدة غالباً ما تجبر المركبات العسكرية على أن تبقى على الطرقات، ما يجعلها أكثر عرضة للكمائن والهجمات». والأهم هو أن «حزب الله» أثبت أنه «خصم صعب على نحو غير متوقع»، بعدما تلقى عناصره تدريبات مكثفة «وتعلّموا كيف يخلطون التكتيكات العسكرية النظامية مع الأسلحة المتوفرة لديهم لخلق مفهوم مبتكر للدفاع عن جنوب لبنان» أمام أي توغل إسرائيلي.
وكرر جونسون ما قيل سابقاً عن ان الجيش الإسرائيلي اعتقد ان بإمكانه تحقيق أهدافه، أي «منع «حزب الله» من السيطرة على لبنان وإعادة الجنديين المخطوفين»، عبر القوة الجوية، ومن دون إرسال قوات كبيرة للتوغل في لبنان، قبل أن «يُرغّم على القيام بذلك فقط، عندما أثبتت المواجهة الجوية أنها لم تحقق نجاحاً». أضف إلى ذلك أن الجيش الإسرائيلي ذهب إلى الحرب «من دون خطة عملانية متوافَق عليها، فيما بدا التوغل مرتجلاً»، خاصة أن قوات المشاة الإسرائيلية كانت «مقتصرة على خوض النزاعات المنخفضة الحدّة»، ولهذا «واجهوا صعوبات حقيقية عندما واجهوا «حزب الله»، ودفعوا ثمناً باهظاً في الأرواح، بسبب عدم استعدادهم لمواجهة خصم هجين».
حطّت الحرب أوزارها بعد 34 يوماً، لكنها «ظلّت إشكالية كبرى بالنسبة لإسرائيل»، كما قال جونسون، خاصة أن الجيش الإسرائيلي «أخفق في إتمام الكثير من مهامه، برغم تفوقه العسكري والعددي. فلا أزيل «حزب الله»، ولا توقفت صواريخه.. حتى الساعة الأخيرة للحرب».
وشدد الباحث في «راند» على انه «بصموده فقط، وإظهاره القدرة على مواصلة إطلاق الصواريخ على إسرائيل، تمكن «حزب الله» من تلطيخ سمعة الجيش الذي لا يُقهَر».
بعد الهزيمة في لبنان، قرر الجيش الإسرائيلي «العودة إلى الجذور»، لرسم خطة دفاعية جديدة، تتمحور حول بناء قوات المشاة وتدريبهم على نحو «مكثف» خاصة على «تكتيكات المناورة». كل ذلك كان قبل عملية «الرصاص المصبوب» على قطاع غزة في نهاية 2008.
ومع ذلك، فقد أظهر العدوان على لبنان أن لدى الجيش الإسرائيلي «عجزاً كبيراً على مستوى القدرات.. في الوسط».
لشرح ما هو «الوسط»، قال الباحث في «راند» إن «كفاءات الخصوم العسكرية (عموماً) تتدرج على ثلاثة مستويات. كل واحد من هذه المستويات يفرض على القوات العسكرية التي تواجه هؤلاء الخصوم متطلبات عسكرية مختلفة».
والمستويات الثلاثة، كما أوضحها جونسون في رسم بياني، هي «القوى غير النظامية غير الحكومية»، وهذه غالبا ما تكون منظمة غير مدربة بما فيه الكفاية، وغير منضبطة وهي أقرب إلى الخلية المسلحة تسليحاً خفيفاً وتعتمد في قيادتها على الهواتف الخلوية وغيرها من الأجهزة البدائية. في هذه الخانة، وضع جونسون «منظمة التحرير الفلسطينية، وطالبان والقاعدة في العراق». وهناك «القوى الهجينة المدعومة حكومياً»، وهي منظمة مدربة على نحو متوسط ومنضبطة، أما أسلحتها فتشبه تسليح «القوى غير النظامية غير الحكومية» أضف إليها «قدرات المواجهة» أي الصواريخ البعيدة المدى والصواريخ الدفاعية المحمولة وتلك المضادة للمدرعات. في هذه الخانة، وضع جونسون «حزب الله وحماس والمقاتلين الشيشان». ثالث هذه المستويات هو «الدول»، مثل إسرائيل والاتحاد السوفياتي وجورجيا والولايات المتحدة، وهذه تعتمد «التراتبية في قواتها العسكرية، وهي كبيرة ومنظمة ومسلحة تسليحا جيدا ومتطورا».
ويشدد جونسون على أن «اللاعبين غير الحكوميين بإمكانهم ان ينتقلوا بسهولة من الدرجة الأدنى (غير حكوميين غير تقليديين) الى الوسط (قوى هجينة مدعومة حكومياً)». كل ما يتطلّبه هذا الانتقال هو «دعم من دولة ما تؤمن الأسلحة والتدريب للقوى غير النظامية»، مشيراً إلى أن «الولايات المتحدة ساعدت مثلاً المجاهدين في أفغانستان على الانتقال من المرتبة الأدنى الى الوسط بتسليحهم وتدريبهم خلال حربهم ضد الاتحاد السوفياتي في الثمانينيات».
وبعدما شرح في رسم بياني آخر، «دور القوات الجوية وقوات المشاة في التعامل مع المستويات الثلاثة للنزاع»، خلص جونسون إلى أن «الدرس الأهم الذي استخلصه» الإسرائيليون من إخفاقاتهم في لبنان هو أن «قدرات العدو هي ما يحدد شكل الحرب التي سيتعين على دولة أن تخوضها»، لأن هذه القدرات «تغيّر شروط اللعبة». فامتلاك العدو أسلحة «مواجهة» يعني أن بإمكان هذا العدو أن «يصعِّد في حدة النزاع». وعليه، فإن هزيمة هذا العدو «تتطلّب مهارات مختلفة عن تلك المستخدمة في عمليات مكافحة التمرد».
وقبل أن يقدّم توصياته، أنذر جونسون الأميركيين وكذلك الإسرائيليين بأنه «لا حل واحد لمواجهة التحديات التي يطرحها الخصم الهجين»، ناصحاً الأميركيين بأن يحذوا حذو الإسرائيليين الذين أجروا «بعد حرب لبنان الثانية»، تعديلات في «تدريباتهم وتنظيمهم، وحتى في العقيدة العسكرية، بحيث شددوا على التنسيق بين القوات الجوية والبرية»، وهو ما «أثبت نجاحه» في العدوان على غزة، وذلك من أجل «الاستعداد لمواجهة الخصوم الهجينة».
وقال الباحث في «راند» إن «التغطية المستمرة من قبل أجهزة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع تعتبر كلها أموراً حيوية في تعقب العدو المتحرك (سواء كان فرداً أو صاروخ هاون أو فرقاً من حملة الأنظمة الدفاعية المحمولة) وفي تحديد الأهداف العالية القيمة مثل الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى»، لافتاً الانتباه إلى ان طائرات الاستطلاع بلا طيار تعد أيضاً «ذات قيمة استثنائية «. بيد ان «المسألة الأكثر حيوية في مهاجمة الأهداف السريعة، وحيث تعتبر المدة الزمنية التي يتطلبها الهجوم أمراً حساساً، تكمن في القدرة على قيادة خليط من القوات البرية والجوية المحددة والمروحيات الهجومية والطائرات بلا طيار والأصول الاخرى، والتي تعمل جميعها في «مشهد موحد» من المعركة».
وختم ديفيد جونسون تقريره بالقول إن «تجارب إسرائيل في لبنان أظهرت أن بإمكان الخصم الهجين أن يشكّل تحديات مهمة أمام الدول التي تركّز قواتها البرية على تقنيات القتال غير النظامي وحيث القوات الجوية مصممة لتكون رادعاً». في لبنان «تعلّمت إسرائيل الدرس بالطريقة الصعبة، لقد تعلّمت أن لدى جيشها عجزاً في قدرته على القيام بعمليات في الوسط» أي في التعامل مع «القوى غير التقليدية المدعومة حكومياً»، مثل «حزب الله».