بعد
أكثر من ساعة من الانتظار في صف طويل أمام مكاتب موظفي الجوازات بمطار
دالاس بالعاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، جاء دوري، فمددت جواز سفري إلى
الشرطي الأسمر الذي استقبلني بابتسامة قائلا: «مساء الخير سيدتي، كيف
حالك؟ هل هذه أول مرة تزورين فيها الولايات المتحدة الأمريكية؟»، وهو يقلب
في صفحات الجواز ليقف أخيرا عند صفحة الفيزا، ثم يضيف بنبرة اندهاش:
«الدار البيضاء... واو... مدينة الفيلم الشهير»، ينظر إلي ويعيد النظر في
صورة الجواز ليتأكد من هويتي ثم يتابع: «المغرب... لابد أن المغرب بلد
مدهش وجميل جدا... كم أود زيارته»، أسأله: «هل تعرف أين يقع المغرب؟»،
يطلب مني بلطف أن أضع أصابع يدي اليسرى ثم اليمنى ثم إبهامي الأيسر
فالأيمن على قارئ البصمات ثم يجيب: «في الحقيقة لا أعلم... دعيني أخمن...
أظن أن المغرب يوجد في آسيا قرب لبنان. أليس كذلك؟». يطلب مني أن أقف أمام
الكاميرا ليأخذ لي صورة، ويعلق مستغربا بعد تفنيدي لتخمينه: «لم أكن أعلم
أن المغرب موجود في إفريقيا. كنت أظن أن كل الأفارقة سمر البشرة». بعد أن
سألني عن مهنتي واسم الجريدة التي أعمل بها ومعنى الاسم بالإنجليزية، وعن
سبب زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية، أعاد إلي جوازي قائلا: «مرحبا بك
في الولايات المتحدة الأمريكية. أتمنى لك سيدتي مقاما طيبا»، بنبرة تعطي
انطباعا بأنك في فيلم هوليودي.
«من أي بلد قدمت؟»، سألني سائق سيارة الأجرة التي استقللتها من
المطار إلى الفندق، وهو ينظر إلي بعينين مليئتين بالفضول من خلال مرآة
السيارة الأمامية، أجبته: «أنا من المغرب»، فقال باستحسان: «المغرب يوجد
في شمال إفريقيا أليس كذلك؟... أنا أيضا لدي أصول إفريقية»، «من أين
بالضبط؟» سألته، فأجابني : «أنا أمريكي من أصل إثيوبي». يصمت ليستمع إلى
الصوت الصادر من جهاز الجي بي إر إس، والذي يبين له الطريق الذي يجب عليه
أن يسلكه للوصول إلى وجهته قبل أن يضيف: «لديكم ملك أليس كذلك؟ لابد أن
بلادكم فيها قمع واستبداد، فإثيوبيا هي أيضا كان بها نظام ملكي مستبد قبل
أن يصبح رئاسيا».
ظل أبراهام طيلة العشرين دقيقة التي استغرقتها الرحلة يمدح الحرية
التي يتمتع بها الأمريكيون بالمقارنة مع المواطنين الآخرين، وكيف أن
الولايات المتحدة هي «بلاد الفرص» لمن يعرف اقتناصها واستغلالها، ورغم
المجهود الذي بذلته لكي أقنع السائق بأن الحال في المغرب ليس بهذه
السوداوية، وأن المواطنين المغاربة يتمتعون بشيء من الحريات، فإنه ظل
متشبثا برأيه. وبعد أن يئست من إقناعه، تركته يسرد علي حكايات الزمن
الغابر من إثيوبيا التي تركها منذ أكثر من ثلاثين سنة، في الوقت الذي كنت
أشاهد فيه أضواء المدينة بعينين متعبتين بعد ثماني عشرة ساعة من السفر.
بعد عدة منعطفات، وصلنا أخيرا إلى الفندق. أخرج حقيبتي من صندوق السيارة،
ناولته أجرة الرحلة، وناولني بطاقته وهو يطبع ابتسامة على ثغره، مشددا على
ضرورة أن أتصل به إن أردت أي مساعدة أو احتجت إلى أي شيء.
بعد انقضاء مقامي في واشنطن دي سي، ركبت الطائرة متجهة إلى ميامي،
عاصمة ولاية فلوريدا. بالمقعد المجاور لي، جلس رجل في الأربعينات من العمر
كان يقرأ جريدة الواشنطن بوسط، بادرني بالكلام قائلا: «هل تعيشين في
ميامي؟»، فأجبته بالنفي، مضيفة أنني لست مواطنة أمريكية بل زائرة فقط. «من
أي بلد أنت؟»، قلت: «من المغرب»، فقال: «لقد عدت منذ ثلاثة أسابيع فقط من
المغرب. إنه بلد جميل. لقد زرت مراكش وأكادير والرباط، كما أنني زرت الدار
البيضاء التي خلد اسمها الفيلم الشهير، لكنني أصبت بخيبة أمل»، سألته:
«لماذا؟»، فأجاب: «لم أكن أظن أن الدار البيضاء مدينة اقتصادية بحتة، كنت
أظنها مختلفة. لا أدري لماذا، لكنني كنت أنتظر أن أرى مدينة تشبه مدن ألف
ليلة وليلة».
أبدى بعد ذلك دارين، الذي يعمل في سلسلة فنادق معروفة، فضولا في
معرفة المزيد عن الإسلام، فأمطرني بالأسئلة حول ما هو حلال وما هو حرام،
وفي كل مرة يقوم بمقارنة مع تعاليم ديانته «المرمونية المسيحية» التي تشبه
إلى حد ما تعاليم الإسلام، مثل تحريم شرب الخمر وتدخين السجائر، وجواز
تعدد الزوجات، وضرورة تحري الأمانة والصدق وعمل الخير، مع وجود فوارق مثل
كون المورمون محرم عليهم تناول أي مشروبات إلا المياه. بعد أيام من وصولي
إلى ميامي، المدينة اللاتينية، كنت مع مجموعة الصحفيين العرب في جولة
استكشافية للمدينة. أثار انتباهنا محل يعرض في واجهته قمصانا عليها وجه
أوباما وأخرى عليها وجه ماكين، إضافة إلى دببة بألوان العلم الأمريكي،
وكؤوس تحمل شعارات من قبيل: «الأصدقاء لا يدعون أصدقاءهم يصوتون للحزب
الجمهوري»، فدخلنا. «من أين قدمتم؟»، سألنا صاحب المحل، «من بلدان
مختلفة»، أجابه صحفي تونسي، مضيفا «فأنا قدمت من تونس»، وأنت؟ قلت «من
المغرب»، «أين يوجد المغرب؟ لم أسمع بهذا البلد من قبل؟»، سألنا مندهشا،
«في إفريقيا، تونس أيضا بلد إفريقي»، يقول بنبرة واثقة: «إذن فأنتم تعيشون
في الأدغال». أصابني ما قاله بالذهول، غير أن الصحفي التونسي رد عليه
قائلا: «نعم نحن نعيش في الأدغال، وأنا شخصيا أعيش في كوخ فوق الأشجار»،
«لماذا فوق الأشجار؟»، يسأل صاحب المحل ببراءة، «بسبب التماسيح». يصمت
الأمريكي للحظات، قبل أن يتدارك الأمر ويطلق ضحكات هستيرية، بعد أن رأى
ضحكاتنا المكتومة وتعابير وجهنا المستمتعة بهذا الحوار غير المتوقع، ولمس
نبرة سخرية من طرف متحدثه التونسي.
المصدر :جريدة المساء المغربية