تأسس حلف شمال الأطلسي في العام 1949 تحت ذريعة وقف زحف الشيوعية نحو
الغرب، وإحكام القبضة على ألمانيا بعد سقوط النازية. وأدت سياسات الحلف إلى
نشوب حرب باردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، استمرت لأكثر من أربعة
عقود، إلى أن انتهت بتفكك المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفيتي في
العام 1991، مخلية الساحة لقطب أميركي أحادي، حوّل حلف الناتو إلى عصا
غليظة، ومطواعة في آن واحد، لخدمة السياسات الأميركية للهيمنة على العالم.
واستطاعت الولايات المتحدة أن تفرض على شركائها في الحلف توسيع صفوف عضويته
إلى درجة التطابق - تقريباً - بينها وبين عضوية الاتحاد الأوروبي، بمعنى
آخر تثبيت الناتو كمعادل عسكري للاتحاد، حيث بات يضم ثمانية وعشرين دولة
باستيعابه للعديد من دول أوروبا الشرقية، التي فُرضت عليها لدخول الحلف
الشروط ذاتها التي يضعها الاتحاد الأوروبي لقبول أعضاء جدد في صفوفه.
الغاية
من توسيع عضوية الناتو، بدول من حلف وارسو السابق، لم تكن بحاجة لقراءة ما
خلف السطور، فالأمر ببساطة هو أن التوسيع ضروري لخلق أعداء وهميين، كي لا
يفقد الناتو مبرر وجوده، فأصبح على جدول أعمال الحلف محاصرة روسيا، ومحاربة
ما يسمى بـ"الإرهاب الإسلامي"، والاضطلاع بمهمات "حفظ سلام" في مناطق
العمليات العسكرية الأميركية على شاكلة قوات "إيساف" في أفغانستان.
وتخطط
الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا – الحليفتان الأقرب في الناتو-
لإحداث طفرة في عضوية الحلف، بضمِّ اليابان وأستراليا، لتوسيع نطاق عملياته
بما يشمل محاصرة الصين كهدف مباشر، وتحويل "الناتو" إلى شرطي للعالم يستلب
دور الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، التي أوهنها الاستفراد الأميركي على
مدار أكثر من عشرين عاماً.
لكن، وكما يقول المثل الشعبي العربي: "حساب
الحقل شيء وحساب البيدر شيء آخر"، وبتطبيق المثل السابق على واقع حال حلف
"الناتو"، فإن ما تخطط له الولايات المتحدة وبريطانيا يتعارض مع المعطيات
على الأرض، فدور الحلف مرشح للتراجع وليس العكس، حيث يجمع كثيرون على أن
واشنطن قد خسرت الحرب بالفعل في أفغانستان، وتستجدي من حلفائها، والقوى
الدولية والإقليمية المؤثرة في المعادلة الأفغانية، طوق نجاة للخروج من هذا
المستنقع، بعد أن تأكد لها استحالة سحق حركة "طالبان" عسكرياً، وأن بقاء
القوات الأميركية وقوات الناتو هناك بات "جزءاً من الأزمة وليس حلاً لها"،
على حدّ وصف السفير البريطاني في كابول شيرارد كاوبر كوليس. فحركة "طالبان"
إن كانت لا تستطيع إلحاق هزيمة عسكرية، بالمعنى التقليدي، بقوات الناتو،
إلا أنها تستطيع مواصلة شن حرب عصابات ضدها إلى أجل غير مسمى.
سلسلة
التراجعات الأميركية في أفغانستان مرت بعدة مراحل، كان أولها إعلان الرئيس
باراك أوباما عن إستراتيجية جديدة تدعو إلى زيادة عدد القوات الأميركية
والأطلسية لمواجهة تصاعد هجمات "طالبان"، ومنح الوقت الكافي لقوات الأمن
الأفغانية كي تصبح مكتملة البناء ومستعدة لتحمل المسؤولية الأمنية في
البلاد، وتعهد أوباما بجعل مكافحة الإرهاب وإرساء الأمن في أفغانستان
والمنطقة والعالم أولوية لإدارته. بعدها حاولت إدارة أوباما أن تعيد تعريف
مفهومها للنصر في أفغانستان، لينصرف إلى تحقيق المصالحة بين "طالبان"
وحكومة كرزاي، من خلال تسوية إقليمية تشترك فيها طهران وباقي الدول
المجاورة لأفغانستان. لكن رفض "طالبان" للمصالحة، لاختلاف تصورها للحل عن
تصور الحكومة الأفغانية والولايات المتحدة، والتقارير البائسة بشأن قدرات
الجيش والأجهزة الأمنية الأفغانية، وتعاظم الخسائر في الأرواح، عجلت في
دعوة الإدارة الأميركية إلى عملية انتقال متدرجة، يتولى فيها الجيش
الأفغاني شيئاً فشيئاً عبء المواجهة العسكرية مع "طالبان"، بالتزامن مع
تحويل "إيساف" مهامها القتالية له، بحيث تنتقل بالكامل نهاية العام 2014.
وحسب
ما أعلنه أوباما في السادس من نيسان/أبريل الماضي وافقت دول الناتو على
الخطة الانتقالية، وهي تتمسك بها، وسيجري درس الخطة باستفاضة في قمة شيكاغو
للتيقن من أنها تفي بالغرض المحدد لها. وسبق ذلك تصريح للناطق باسم البيت
الأبيض قال فيه: "إن قمة شيكاغو ستمثل أهم فرصة هذا العام للرئيس أوباما،
كي يتابع مساعيه لتعزيز الناتو، بما يضمن أن الحلف على جانبي الأطلسي سيظل
أنجح تحالف في التاريخ، وفي نفس الوقت سيعمل على رسم طريق إلى المستقبل في
أفغانستان".
بشيء من التدقيق، إن حسابات بعض القوى الدولية والإقليمية
المؤثرة في المعادلة الأفغانية من مصلحتها عدم خروج الولايات المتحدة
منتصرة في أفغانستان، وفي الوقت ذاته عدم إلحاق هزيمة بها تستغلها حركة
"طالبان" لإشاعة فوضى إقليمية، وفي هذه الحالة المطلوب استمرار التورط
الأميركي-الأطلسي في المأزق الأفغاني، إلى أن تنضج ظروف مواتية لتسوية تفرض
فيها على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها تنازلات إستراتيجية كبرى في
منطقة آسيا الوسطى تعيد ترتيب الأوراق فيها والمصالح فيها، التي يتسع
نطاقها ليشمل روسيا والصين وإيران والهند وباكستان.
وبصفة عامة، يمكن
القول إن موجات العنف المتزايدة في أفغانستان عمقت الصدع بين الولايات
المتحدة وحليفاتها الأطلسيات من جهة، وبين الشعب الأفغاني وقوات "إيساف" من
جهة أخرى. ويبدو أن إدارة أوباما بدأت تعي هذه الحقيقة، إلا أنها أدركت
ذلك متأخرة، فالمستنقع الأفغاني وضع حلف الناتو أمام استحقاقات مصيرية،
فالانسحاب بهزيمة سياسية من أفغانستان يعني إعلان وفاة للحلف، والبقاء هناك
ينطوي على خسارة أقسى. وفي كل من الحالتين سيقع حلف الناتو حتماً ضحية
الرعونة الأميركية المتواطئ معها أوروبياً، وإلى ذلك الحين، يبقى الحلف
وفقاً لما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "واقعاً جيوسياسياً يجب أخذه
بالحسبان". وهذا صحيح لأن البنى البيروقراطية الكبيرة تمر بمراحل تآكل
طويلة، لكن لا شيء يمكنه أن يبعث فيها الحياة مجدداً إذا فقدت مبرر وجودها،
وأصبحت تثقل كاهل القائمين عليها.
كتب عامر راشد